رواية ( الظاهر )
لابد قبل الولوج فى رواية " الظاهر " من العودة إلى العنوان الإشكالي الذى لم يختره كويلو صدفة بل اختاره عمداً . و قد عاد فى مقدمة روايته إلى قول للكاتب خورخيه لويس بورخيس يوضح فيه التباس العنوان و هو يعنى مرأى الأخير " الظاهر او الحاضر ، الذى لا يمر مراً سريعاً " و يضيف بورخيس قائلاً : " إنه شئ أو شخص ، ما إن يحدث لقاء بينه و بين الإنسان حتى يستحوذ شيئاً فشيئاً على فكره حتى يتملكه ، و يمكن أن يعنى القدسية أو الجنون "
و يشير بورخيس إلى أن هذه الفكرة ظهرت فى العالم العربي فى القرن الثامن عشر لكن " محيط المحيط " يوضح أن كلمة " الظاهر ، هى الأنسب لترجمة هذه المفردة ، Le Zahir بالفرنسية أو The Zahir بالإنجليزية . فكلمة " الزَّهيز ( بضم الزاي ) هى تصغير " الأزهر " و هو " القمر و يوم الجمعة و الثور الوحشى و الأسد الأبيض اللون و النيرّ و المشرق الوجه و زهر السراج و الوجه و القمر تلألأ------ "
أما مفردة " الظاهر " فهى الأقرب إلى المعنى الذى افترضه بورخيس و هو " اسم فاعل و خلاف الباطن " بحسب " لسان العرب " و " الظاهر " هو " إشارة إلى معرفتنا البديهية ، فإن الفطرة تقضى فى كل ما نظر إليه الإنسان أنه تعالى موجود " و يضيف " لسان العرب " : " الظاهر هو اسم لكلام ظهر المراد منه للسامع بالصيغة نفسها و يكون محتملاً للتأويل و التخصيص " أن ترجمة العنوان إلى العربية تظل مشرعة على احتمالات عدة : الزهر ، الزَّهر ، الظاهر ، الظاهر ، الظهير – و قد تعبر كل مفردة عن أحد المعانى المتعددة للكلمة الفرنسية أو الإنجليزية .
الميتولوجيا الإغريقية
يختار باولو كويلو قصيدة " إيثاكا " للشاعر اليونانى قسطنطنين كفافيس مدخلاً إلى روايته . و القصيدة هذه تستعيد حكاية عودة عوليس فى الميتولوجيا الإغريقية إلى مدينته " إيثاكا " بعد ما طوف فى أنحاء الأرض مواجها المشقات و الأخطار و المآسى . فبطل الرواية و هو الراوى الذى يرتدى " وجه " أو ربما " قناع " المؤلف هو أشبه بـــ " عوليس " لكن تطوافه يجرى فى أفق ماضيه الشخصى و حياته التى أضحت وراءه . علاوة على مضيه فى البحث عن زوجته أستير التى اختفت فى ظروف غامضة . أما الزوجة أستير فهى تحمل بدورها بعض الملامح " العويسية " كونها سافرت إلى أقصى آسيا بالغة بلاد كازاخستان بحثا عن مغامرات تساعدها على تخطى رتابة حياتها الزوجية فى باريس .
هكذا تجرى أحداث الرواية بين قطبين أوربا التى تمثلها باريس و آسيا التى تمثلها كازاخستان . لكن الكاتب – الراوى سيعمد إلى استعادة سيرته بين هذين القطبين ، بين إقامته فى باريس و رحلته إلى كازاخستان بحثا عن زوجته ، و السيرة هنا ستكون ذاتية . و أدبية فى الحين نفسه ، مما يؤكد ان باولو كويلو يعد على كتابة سيرته فى طريقة " مواربة " جاعلاً من نفسه البطل – الراوى لكن السيرة الذاتية لن تكون حقيقية تماماً سيعتريها الكثير من التخييل و التحريف و الحذف و الإضافة .
عودة الراوى إلى ذاته
تبدأ الرواية بداية شبه بوليسية : اختفاء أستير الزوجة الشابة ( فى الثلاثين من عمرها ) بعد عودتها من العراق عشية الاجتياح الامريكى يحمل الشرطة الفرنسية على توقيف زوجها " الراوى – الكاتب " لاستجوابه و التحقيق معه .
أستير صحافية فى ميدان " تغطية الحروب " كما سنعلم لاحقا و قد غطت حروبا عدة فى الشرقين الأوسط و الأقصى .
إلا أن اختفاءها يثير حفيظة زوجها ، هل خطفت من اجل فدية ما ، هل قتلت لأجل معلومات تملكها أم أنها شاءت ان تهجر زوجها و حياتها الزوجية هرباً مع رجل آخر ، كان الزوج يعلم أن زوجته ارتبطت ببعض الخلايا الإرهابية كصحافية طبعا، كأنها اتخذت مرافقا لها و مترجما فى مقتبل عمره يكنى بــ" ميخائيل " شاب داكن البشرة ، منغولى الملامح يستتر تحت هذا الاسم غير الحقيقي . وعندما يطلق شرطى السجن الزوج – الراوى من الأسر يقول له : " أنت حر الآن " لكن الزوج سيقول فى نفسه " فى السجن كنت حراً أيضا ، لأن الحرية هى كنزى الأثمن فى العالم " هكذا يعود الراوى إلى عالمه و إلى " ذاته " و لكن من غير ان يهجره لحظة هاجس اختفاء الزوجة إنه الآن فى باريس وحيداً ، يستعيد تفاصيل ماضيه القريب مع استير التى اختارت أصعب المهن و أخطرها ، و فى يقينه أن الرجل لا يكتشف حبه لزوجته إلا عندما يفقدها . هكذا تحضر باريس فى الجزء الأول من الرواية ، مثلما ستحضر كازاخستان فى الجزء الثانى .
باريس " قوس النصر " و الشانزليزليه " و " برج ايفل " ، باريس الأحياء و المارة باريس مترو الأنفاق ، باريس المدينة " الكوسموبوليتية " --- و بعد يقول له محاميه أنه اتصل بدائرة المستشفيات و أمكنة حفظ الجثث و لم يجد اسم أستير.
يبدأ فى وضع خطة للبحث عنها قائلاً لنفسه إن عليه أن يكون عمليا و أن يدرس الخيارات و يدع مشاعره جانبا ، أما الخطة فارتآها فى ثلاثة احتمالات :
التوقف عند احتمال ان أستير خطفت فعلاً ، مما يعنى ان حياتها فى خطر ، و أن عليه بالتالى ، بصفته زوجها و رفيقها ، أن يجوب الدنيا بحثا عنها ، إلا أن أمرا ساوره هنا : الزوجة تحمل جواز سفرها و قد اختارت حاجات شخصية عدة و سحبت مالاً من حسابها المصرفى و يستنتج أنها كانت تتهيأ للرحيل.
و يتخوف من الاحتمال الثانى من أن يكون صدقت وعداً قطعه لها احد ما و تبين أنه فخ نصب لها . لكن أستير اعتادت مثل هذه الأوضاع الخطرة .
أما الاحتمال الثالث فهو التقاءها رجلاً آخر ، و هذا الاحتمال فى نظره منطقى لكنه يصعب عليه أن يتقبله .
و يقول : " لا أقبل أن تكون قد رحلت هكذا ، من غير سبب ، فكلانا ، أنا و استير ، اعتددنا بأنفسنا دائما فى مواجهة مصاعب الحياة معاً ، تعذبنا و لكن لم يكذب واحدنا على الآخر يوما " و يضيف : " كنت مدركا إنها تغيرت كثيرا منذ أن التقت الشاب الذى يدعى ميخائيل ، و لكن هل يبرر ذلك نهاية زواج دام سنين عشر ؟ " و على رغم الشك الذى يساوره لم يستطيع ان يخلص من هاجس أستير فها هو يحاول تبرير ما حصل ، تقضى أياما و ليالى يسترجع كل لحظة عاشها فى قربها ، و يستنتج أنها كانت امرأة صعبة و يقول : " من الأفضل أن ألعق جروحى ببساطة كما لعقتها فى الماضى ... سأذوق المر و سيمل منى أصدقائى لأن كل ما أتحدث عنه هو هجر زوجتى لى "
و عندما سأمشى فى الشارع ، سأظل أرى طيفها فى نسوة أخريات سأعانى ليل نهار و نهار ليل و قد يستغرق هذا أسابيع ، أشهراً ربما سنة و أكثر "
و يبلغ به هاجس استير مبلغاً حتى انه ليتخيلها على وشك الدخول من باب منزله تخطو نحوه و هى تطأ السجاد العجمى و تجلس إلى جانبه من دون أن تنبس بأية كلمة تدخن سيجارة ...
كان لابد للراوى فى هذه الفترة من الحيرة و العزلة و الهجس من أن يستعيد سيرته المزدوجة ، سيرته كشخص تمرد باكراً على سلطة العائلة و راح يعيش حياته بحرية ، و سيرته ككاتب لن يلبث ان يصبح مشهورا و ثريا و من يدرك بعض النواحى فى حياة باولو كويلو يعلم على الفور أن الراوى هو وجهه الآخر أو لنقل " قرينه " الذى يشبهه بمقدار ما يختلف عنه .
و قد أجاد كويلو فى لعبة " المرآة " هنا جاعلاً من سيرته الذاتية سيرة روايته لبطل هو نفسه و سواه فى آن واحد .
يستعيد كويلو إذا صورة ذلك الشاب الذى حلم أن يصبح كاتبا مشهورا ، و أدرك فجأة أن الحقيقة مختلفة تماما. إنه يكتب بلغة يكاد لا يقرأها أحد فى بلد يقال فيه ليس للمطالعة جمهور تقريبا .
" شاب تجبره عائلته على ارتياد الجامعة " و يقول له والده : " أية جامعة ستفى بالمطلوب يا بنى مادمت ستحصل على شهادة و إلا فأنت نكرة ... "
لكن الشاب يثور ، و يجول العالم خلال الحقبة التى صعدت فيها موجة الهبيين ، يلتقى مغنيا و يكتب له أغنيات ، و إذا به فجأة يجنى مالا يفوق ما تجنيه أخته التى عملت بنصيحة الوالدين و قررت ان تصبح مهندسة كيمائية ...
و لا تخلو كتابة السيرة من بعض " الاعتراف " الهادئ الذى يسترجع بعض فصول ماضيه و مراهقته كان يقول : " منذ صغرى كافحت لأجعل الحرية أثمن مقتنياتى – خضت صراعا مع والدى ، اللذين أرادا أكون مهندسا كى تحصل على وظيفة يدعم بها نفسه ، فعمل فى مهن صغيرة لم يخجل منها و يعترف أيضا بأنه خاض صراعا مع عالم الصحافة " العدائى " و أنه صارع بشجاعة ليترك الصحافة و يخوض مغامرة تأليف كتاب و هو على يقين بأن لا أحد فى بلاده يمكنه كسب عيشة من مهنة الأدب .
أما سيرته الأدبية فتدل عليه " و تفضح " بعض أسراره و " المتاعب " التى واجهها ، لاسيما فى بدء مسيرته .
فالكتاب الأول الذى أصدره " و هو ليس الخيميائي " لم تكتب عنه كلمة فى الصحافة و لم يبع إلا القليل فى البداية ، لكن الذين قرأوه أوصوا آخرين بقراءته و إذا الطبعة الأولى تنفد بعد ستة اشهر.
و بعد سنة صدرت من الكتاب نفسه " لا يبوح بعنوانه " ثلاث طبعات و راح يكسب المال و كأنه لا يصدق أن الأدب يدر مالا ، و يقول هنا : " لا أدرى كم من الوقت سيدوم الحلم ، لكننى أقرر أن أعيش كل لحظة كما لو كانت الأخيرة أرى أن هذا النجاح يفتح الباب الذى لطالما سعيت إلى فتحه ، و هاجم ناشرون آخرون يبغون نشر كتابي التالى " و يعترف بالأثر الذى تركه فيه و فى أدبه كتاب " ألف ليلة و ليلة " الذى وقع ذات مساء على إحدى قصصه المشوقة و قد جاء فيها " رمز " سبيله الخاص و شيئا يساعده على فهم كيانه و إذا به يستخدم تلك القصة أساسا لقصة اخرى عن راعى ينطلق سعيا وراء حلمه و هو عبارة عن كنز مخبأ فى اهرامات مصر و ما يعنيه هنا هو رواية " الخيميائي " التى كانت فاتحة نجاحه الكبير و شهرته الواسعة ، يقول " لم أبق شخصا يحلم فى ان يصبح شيئا ، أنا كيان . أنا الراعى الذى يختار الصحراء و لكن أين " الخيميائي " الذى يعينه على المضئ ؟
و يعترف : " عندما انتهيت من هذه الرواية / لم أفهم تماما ما كتبت : إنها بمثابة قصة خيالية للراشدين .. ومع ذلك قبلها الناشر نشر الكتاب و إذا بقرائى يدرجونه على لوائح الكتب الأكثر مبيعا "
إلا أنه لا يخفى أنه فيما أحبه القراء كثيرا كرهه النقاد ، هؤلاء الذين ظلوا يرحبون به الى ان بلغت مبيعات كتابه المئة ألف الأولى ، فإذا به يكف عن أن يكون عبقريا يساء فهمه " و مشكلة باولو كويلو مع النقد الادبى مازالت قائمة و ما برح النقاد يمعنون فى نقده رغم شهرته الكبيرة ، آخذين عليه تنازله عن العمق ، و المضمون الانسانى و البعد الفلسفى الحقيقي ، وجعله الأدب مادة للإغراء الشعبي و الرواج و الكسب المادى و يرفض معظم النقاد العالميين إدراج اسمه ضمن روائيى أمريكا اللاتينية الذين أحدثوا ثورة فى رواية القرن العشرين .
يبدو من الواضح ان باولو كويلو اختلق قصة اختفاء " استير " ليعيد قراءة نفسه و ماضيه و لكتابة سيرته الشخصية و الأدبية بقلمه . و قد نجح فعلا فى كتابة هذه السيرة المزدوجة مثلما نجح الراوى فى إيجاد الزوجة الشابة استير فى كازاخستان و كانت مستسلمة لنوع من الحياة الطبيعية و العفوية ، وقد امتهنت حرفة حياكة السجاد ، علاوة على تعلمها اللغة الفرنسية فى بعض المدارس الفقيرة إنها الحياة التى أغرتها فاكتشفت صورة أخرى للعالم لا تشبه أبدا صورته المعممة فى العالم الحديث .. أخيرا التقى الراوى و الزوجة و سرعان ما استعادا حياتهما السابقة . لعل الجديد الذى حملته رواية " الظاهر " أو " الزهير " هو الطابع السيرى الذى استطاع باولو كويلو من خلاله ان يماهى بينه و بين الراوى فى لعبة " مرآوية " تختلط فيها الملامح الحقيقية للكاتب بالملامح المتخيلة للراوى .