الخميس ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢

دِلْدِلُ: أُختُ عَنْبَسَة

علي الجنابي

ودِلْدِلُ هيَ نَملَةٌ مُمتَلِئةٌ، وناضرةُ الرّقَّةِ والإنبات، ومُتَلألئةٌ وحاضِرةُ الثّقَةِ والإثباتِ. عفويةٌ وذَكيّةُ.

وقد قَرَصَتْ بَطنَ قَدَمٍ ليَ عاريةِ طَريّة، فَجَعَلَتني أستفيقُ من رِحلَةٍ في عوالَمِ غَيبٍ صَفيّةٍ وَفيّة، فعادَتْ بي إلى وَحلةِ عوالَمِ شهادةٍ شَكيَّة وشَقيّةٍ.

وفي عَوالِمِ الشَّهادةِ الشَّقية، تَرى النّفوسَ..

في ربعَةِ دَارِها مُغْتَبِطَةً سَوْيَّةَ، وحميمَةً سَخْيَّة، فتَراها تَستَريحُ فتَذيعُ بسماتٍ من عَذِبِ قيلٍ ومن لمساتٍ من أولي بَقيّة.

وفي صَنْعَةِ كارِها مُهْبَطَةً سَعْيَّةً، وذميمةً سَبْيَّةً، فَتراها تَستَبيحُ فتبيعُ بَسماتٍ منِ كَذِبِ جيلٍ ومن غَمساتٍ لأجلِ لقمةٍ شَقيّة.

أمَا وأنَّهُ أولى فأولى، ثمَّ أولى أ لّا تنبسَ الشّفاهُ بِبَسَماتِ كَذِبٍ زَرْيّةً دَنيّة رَزِيَّةٌ، وأن تَحبسَ الجباهُ زيفَ ضحكاتها في أُطْمٍ عَصيّةً، وأن تَلبسَ بُردَةَ بَسَماتٍ مُوَحَّدةٍ وفيّة، في كارِها كما في دارها بسَجيِّة، ومُورَّدَةٍ برَسَماتٍ وَردِيّة، ومُؤبَّدَةٍ بِنَسَماتٍ رَوِيّة، وآنئذٍ وحسب، ستَبيتُ عوالَمُ الشَّهادةِ ليلَها زَكيَّةً زَهيَّةً بَهيّة.

لكأنَّي ب "دِلدِلَ" نَملةٌ مأمُورةٌ بحِراسةِ عوالَمِ الغَيبِ تلكَ، وبهِا كانَت حَفيّةً؟ ولكأنَّها بقرصتِها هذهِ قد أطلقَت رصاصةَ تحذيرٍ قويةٍ، من حَرَسِ الأبوابِ وبرِسالَةِ تنبيِهٍ مُبَيِّنةٍ جَليّة:

"أنِ إبتعدْ وإلّا ستَرتَعِد -يا أنتَ- بشُهُبٍ حارِقاتٍ غيرِ خَفيّة، من رَاصَدٍ نِبالُهُ لرَميتِهِ وَفِيّة".

لكنّي رَفَعْتُ دِلْدِلَ بينَ سبابتي وأبهامي بِأفَفٍ معَ إنفعالي، ونَفَختُ عليها بأنَّها قَطَّعَتْ أوصالَ تأمُّلي وخيالي، وصَرخْتُ بها مُهدِّداً بوعيدٍ زائفٍ من أحتيالي:

– أنّى لكائِنٍ مِثلكِ ضئيلٍ ونَحيفٍ، ذليلٍ وسَخيفٍ وبلا أمصالِ، أن يَتعاطى العُدوان بالأفعالِ! فلَأَتَرَفَّهَنَّ اليومَ بِتأديبِكِ، ولَأَتَفَكَّهَنَّ بتعذيبِكِ وبإذلالِ، إمّا حَرقاً بسَعيرِ سِيجارتي على إستِعجال وإمّا خَنقاً بعَسيرِ دُخانِها على إستِمهال، ولا غُفرانَ لكِ، فذلك عندي ضربٌ من ضروبِ المُحالِ، وإنّما العَفوُ لديَّ دربٌ من دروبِ الخَيال.

 لن تَتَجَرَّأَ فعلَ ذاكَ، ولن أسمحَ بهِ أيُّها الغَضوبُ بإفتِعال؟

– ويحكِ! أمُناجَزةٌ هِي؟ أَنملةٌ تُناجِزُ أنَفَتي وإختيالي! وبأنَفَةٍ مثلِها تُعاجِزُ وبعنفوانٍ حِيالي!

 لا مُناجَزةَ في الأمر يا رَجُل! فعُرْفُنا ما عَرَفَ المُناجَزةَ على مَدى الأَنْسَالِ، وقد تَخَلِّينا عنها لبني جِنسِكم مِن كبارٍ ومِن أطفال. بلْ قلْ: هوَ دفاعٌ وحقٌّ لي مصانٌ في شَامِلِ الأحوال، هذا إن كنتَ تَدري ما الميزانُ، ولا تفتري على المِكيال؟ ثُمَّ إسمعْ: إنَّ العنفوانَ لو كانَ رهينَ فخامةِ الجُثْمانِ في الأجيالِ، لكانَ الفيلُ المَهينُ "عَنْبَسَةُ" سَيّدَاً على الأوطانِ بإجلال، ولتأنَّفَ بخرطومِهِ عالياً يُطالبُ بِخَرَاجٍ الغيثِ من أموالِ، كلمّا مرَّ فوقَ خُرطومهِ فوجٌ من سحابِ ثِقال؟ وإنما نحنُ-يا أنتَ- أمَمٌ أمثالُكُم مُنبَثِّين في بقاعٍ، وفي أصقاعٍ وبإستقلال؟ أوَما علِمتَ أنَّ النّملَ نَمْلَى[1] في حِلٍّ وفي تِرحالِ، فترانا نَسعى فنَرعى بتوكّلٍ وإبتهال، فَنَعرِشُ في ذُرىً لجبالِ، كما نَفرِشُ في قُرىً لأطلال، وترانا نَغتَمُّ ولكن لا نهتَمُّ ولا نبالي، ونَتضاحَكُ ولا نتَعاركُ ولا نُغالي. نحنُ أمّةٌ تَكِرُّ على مَن إعتَدى، ولا تَفِرُّ من رَدى، لا في نهارٍ ولا في ليال.

– آآآ، مِن فَمِهِ أُدينهِ، وقد آلَ فمكِ بسوءِ مُنقَلَبٍ ومَآل:

” أمّةٌ تَكِرُّ على من إعتدى، ولا تَفِرُّ من رَدى”، وذلكَ خيرُ ما هُديتِ إليهِ من قيلٍ في ذي الحال، فأيُّنا هُنا - يا أختَ عنبَسةَ- مَن إعتّدى، ومَن ذا الذي بَدَأَ بالقتال؟

– أنتَ يا أخا الهَندَسَةِ، مَنِ أعتَدى وإن غُمَّ عَليكَ هِلالُ الحقِّ، وما بَدَا بإستدلال! وليتَكَ كنتَ فتىً خدوماً عِندَ (عنبسة)، ذاكَ هو عالِمِ النَّحو بإستبسال. ثمَّ إنّي أَخَالَكَ أنّكَ لا تَفهَمُ ما خطوطُ الهَندَسَةِ، وتَجهَمُ حَتَّى لما في كُتُبِها من فهرَسَة، ولا تنهَمُ منها سِوى البَسْبَسَة، بل ما أنتَ بِقادرٍ على رَسمِ ساقٍ لخُنْفُسَة، فَدَعْكَ -ياذا سيجارةٍ- مِن عجرفةٍ ومن غَطرَسةِ، ولبئِسَ الجامعاتُ جامعاتكمُ، جامعاتُ الدَّعفسَة، وسُحقاً لها من كليّةٍ علّمتكمُ، وتبّاً لما سبقَها مِن مَدرَسَة. قرنٌ مَضى أو يزيدُ في ديارِكُمُ، دِيارُ (الأفندي) ذي النَّعنَسَةِ، وديارُ (حمندي) ذي الهَلْوَسَة، قرنٌ قد مَضى وجرى على تأسِيسِ علمِ الهَندَسَة، ومَا رفعتُمُ خلالَهُ ناطِحَةً ولا جِسراً ولا بُرجاً ولا حتّى مدرسة، وما صنعتم مكبسةً ولا مركوباً ولا حاسوباً ولا حتّى مَكنَسَة. ولا رغوةَ صابون، ولا عروةَ ماعون، ولا حتّى حشوةَ ضرسٍ متسَوّسةٍ! بل ما زرعتُمُ نخلةً ولا نبتةً ولا شتلةً، ولا حتى نرجسَ. وإنَّما تَتَجَرَّعون فولاً مدَمِّسة، وتتَصارعونَ على سريرٍ لمومسة، وتتَضَرَّعونَ لعيشةٍ غربيةٍ (مُتَفَرنسة). قرنُ قد خلى وما جَنَيْتُمْ من كلياتِ الهندسة، إلّا خَلْطَ طلّابِ بطالباتِ الهَندَسَةِ، فكانَ المُراهقُ في الصَّفِّ جَنبَ الآنِسَة، وكَانَت عَاقِبَتُكمُ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أن ..

أصبحَ موروثُ بنيانِ في ديارِكم مخَلْخِلاً مُهَلْهَلاً وخَائِراً

وأصبحَ الولدُ مُتَلبِّداً مُتَبلِّدَاً وحائراً

وأمستِ الآنسةُ مُعَبِّسٌةً مُستيئِسةً ومعَنِّسَة!

وباتَتِ الهلوَسَةِ عندكم في الدّيارِ هيَ المَرهَمُ للهّمِّ وللوسوسة!

ونسيتُمُ أنَّ المَرهَمَ لا ينفعُ، إن مَرَّ هَمٌّ ومَرَّ هَمٌّ دونَ أن يُمَرْهَمَ بمَرْهَمِ، وبأيدٍ مُتَمَرِّسة.

– ذَرِي أمرَ الهَندَسَةِ جانباً الآن يا آنسة (عَنبَسة)، فلن أنزَلقَ لما تَبغينَ من إلتفافٍ على الأمرِ، ومن (أبلَسةٍ). ورُدّي عليَّ: أفَقَرَصتُكِ أنا من بَطنِ قَدَمِكِ، أيا سُوسَةً مُتَسَوِّسة! ثمَّ مهلاً: ألِقدمِكِ بطنٌ ظاهرةٌ أو حتى مُغَمَّسَة؟ أنتمُ معاشِرُ النَّملِ لا بطونَ لكمُ ولا ظهورَ، لا مُستَقيمةً ولا مُقَوَّسة. ولرُبَما إستَحوَذَت على فسحةِ بطونِكم عيونُكُمُ المُخَمَّسة، وما أراكُمُ إلّا كَوْمَةٌ مِن دُبُرٍ بيافوخِها بشوكةٍ مُتَلَبِّسَة، فعلامَ إذاً تلامُ البَطن بذي غَطرَسة! ولعلَّ أصلَكم يا أختَ عنبَسة، سُلالةٌ من عناكب مُنْطَمِسة، طُمسِتْ في غابرِ حقبةٍ من دهورٍ مُنْدَرِسة، الى أفواجٍ من هَوامٍ مُتَكَدِّسَة، وفي القَذَارَة مُنْحَبِسة، وبسببِ روائحِها نرى أبدانَها مُتَنَمِّلَةً ومُتَكلِّسة، وأجزمُ أنَّ من هاهنا قد جاءَت تَسمِيةُ” النَّملُ” مُنْبَجِسة؟

– حِذارِ حذارِ يا أنتَ، يا صَلصالَ طينةٍ مُتَنَفِسة، ولا هَمَّ لها إلا أن تَحُـكَّ جَرَبَها، وبحَكِّها نراها مُستَأنِسة، فذَرِ الْحَـكَّ لكيلا تكونَ أردافُ إِسْتِكَ للحَكِّ مُتَحَمِّسَة. وحذارِ مِن سُخريةٍ سفيهةٍ مَجةً سمجَّةٌ مُبْتَئِسة، لا تَليقُ بِسَحنَةٍ فيِكَ قد تبدو ليَ سَحنَةً ودُودةً ومُؤتَلَفَة، وللمعروفِ مُتَحَسِّسَة.

 تحذيرُ من نُميلةٍ بعيونٍ خمسٍ مُتَأهِّبةٍ ومُتَحَرِّسة! هَباءَةٌ هلاميةٌ كادَت أن تُصنفُ في السِجلِّ بكائناتٍ مِجهريةِ! تُحَذِرُني أنا، أنا خليفةُ اللهِ في الأرضِ، ذو الكَعبِ العليّة! أنا أولُ مَن صَوَّرَ حَروفاً صُوريّةً، فَحَوّرَ خَطَّها على رَقْمٍ مِسمارِيّة، فأنا أولُ مَن تَدَرّعَ بحروفٍ أبجَديّة. وأنا أولُ مَن زرعَ الزّراعةَ، وبثمارٍ رَويّةٍ ثريّةِ. وأنا أولُ مَن بَرَعَ في الصُناعَةِ، وبأيدٍ ذكيّة. أفنَسيتِ أنّي أنا أول مَن رَفَعَ وردَ الجنائِن المُعَلَّقةِ بسقايةٍ آليّة، ودَفَعَ لشعوبِ المَدائنِ شرقيةٍ وغربية، قوانينَ التَّحضّرِ على ظهرِ مَسَلّةٍ بابليّة!و...

(كان ذاك سردٌ من صفحتين من مسودةِ كتابي (حوار مع صديقتي النَّملة).
علي الجنابي - بغداد

[1] امرأةٌ مُنَمَّلَةٌ، ونَمْلَى: لا تَسْتَقِرُّ في مَكان، وكذا فَرَسٌ نَمِلٌ. وأمّا (عنبسة) فهو عنبسة بن معدان المهري، ويُلَقَّب بالفيل. من أوائل النحاة بعد أبي الأسود الدؤلي، عاش في القرن الأوَّل الهجري على وجه التقريب، يَعُدُّه مُؤَرِّخو النحو العربي من رجال الطبقة الأولى من نحاة البصرة.

علي الجنابي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى