خواطر في زمن الحرب
إنها الحرب، تلقي ظلالها الثقيلة على أرواحنا وتعصف بنا كما تعصف الريح الشديدة بغصن يابس! تسلب منا مظاهر الفرح والبهجة والأمان وترمي قلوبنا المنخلعة بسهام الحزن والكمد والخوف، وتغرس فيها بذور الصراعات النفسية الشديدة التي لا يمكن تسويتها إلا بموت يحملها مع أرواحنا المتعبة إلى السماء!
كل شيء حولي يجردني من إنسانيتي، ويكشف هشاشة مبادئ العالم وقوانينه وأنظمته، كل شيء حولي يطعن عاطفتي من خاصرتها، ويحاصرني في زاوية هذه الغرفة كفأر مذعور ينتظر الموت. لقد تسربت الأيام من عمري القصير وأضحى ربيع العمر خريفاً، تبدّل الصحب في أيامي المسروقة وتقلبوا، واقتلعت ريح السنين جذورهم فكأن القوم ما كانوا!
لست أذكر من ماضي العمر إلا وجهي الشاب وملامحي التي كانت تضج بالحياة قبل أربع عشرة سنة، أما الآن، أنظر في المرآة إلى وجهي الهرم وأتحسس بيدي المرتعشة خطوط الزمن ودروباً سلكتها دموعي لسنوات طوال.
وكنت أستعين على مرارة الواقع بحلاوة الخيال، بذلك الجزء من ذاكرتي ووجداني الذي كان عصياً على جحافل الليل، فكلما هبت نسمات الليل الباردة وشعرت بالغربة كنتِ حاضرة أمامي تضيئن ليلي ليصبح صبحاً منبلجاً فلا أدري أهذه الشمس أم إشراقة وجهك، وتداوين وحدتي بلقائك وكأنني ما عرفت الفقدان يوماً.
لقد فرضت الحرب شروطاً قاسية رضخت لها دون أدنى مقاومة، رضيت أن تصبح داري ركاماً، وأن أفارق مدينتي ومسقط رأسي، وأن يغيب الموت وجوهاً أحببتها، وأن يزيل الدهر الأقنعة عن وجوه من نجوا من الموت، لقد رضيت بحياة يأنفها الإنسان البدائي في عالم شرقه وغربه وشماله وجنوبه أربعة جدران، أذعنت لسلطان الموت، ونواميس الحياة، فما انفجرت فرحاً في لحظات السعادة، وما سخطت أو جزعت عند النوائب. رضيت بالقليل حتى أصبحت أشعر بالامتنان إذا ابتسم لي أحدهم ولو مجاملة، وزهدت في الدنيا ومظاهرها، وفي ذات الوقت لم أطمع في أجر الزاهدين!
صقلتني الحرب وهذبتني، وأطفأت رغباتي وقتلت أحلامي في مهدها، وعلمتني ما لم أتعلمه في وقت السلم، وما لا يسع ذكره الآن. وإنني أقر بهزيمتي النكراء، ولا أنكر كل الفظائع التي حدثت والتي تحدث ولا أعجب منها، فأول درس في الحرب توقع حدوث أي شيء وفي أي وقت، وقد تجاوزت بفهمي لهذه القاعدة كل الأهوال التي كنت شاهداً عليها أو جزءاً منها، إلا حدثاً واحداً، وعيته جيداً ولكنني لم أتجاوزه حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، وهو رحيلك!
قد أبدو وأنا أخط لك كلماتي كمجنون روما؛ نيرون الذي أحرق مدينته وجلس ليعزف بقيثارته أجمل الألحان وقد صمّ آذانه عن صرخات أبناء المدينة، ولكنني الآن يائس يأس نوح من قومه، ولست أنتظر إلا زائر الموت الذي أحب بلادنا ورغب في جوارها فلا يفارقها ليلاً ولا نهاراً! لقد أبطأت عجلة الزمن فلست أشعر بالوقت ولا أقدر على تصور الحياة كما كانت عليه ولا أجرؤ على تخيل المستقبل بلون غير الأسود.
أما الحرب، فإنها ستنتهي لا محالة وستضع أوزارها يوماً ما، وأما دوام هذا الحال فهو كما أخبرنا أسلافنا بأنه محال. وأما أمنيتي الأخيرة الباقية، أن أحمل إليك ما تبقى من أيامي في عناق واحد أهزّ به أركان هذا الليل ثم أوقف عجلة الزمن لأحتفظ بك بين ذراعي للأبد!