الأربعاء ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

خشّان والنّمل

أجملُ مراحلِ عمر الإنسان هي مرحلةُ الطُّفولة، وأخلدُ ذكرياتٍ تسكنُ الرُّوحَ والفكر هي ذكرياتُ الطُّفولة، وأهنأُ مرحلةٍ تغمرُها السّعادةُ هي مرحلةُ البراءةِ والنَّقاء..

في كلِّ صيفٍ حينما تغلقُ المدارسُ أبوابَها كان الحنينُ يشدُّني للرّحيل إلى قريةِ أخوالي الكرامِ في بيتِ أصلان.. وهي ضيعةٌ صغيرة تابعةٌ لمنطقةِ صافيتا، مشهورةٌ بجمالِ غاباتِها من أشجار الزّيتونِ والسّنديان.. والبرتقالِ واللّيمون وبساتين الرُّمّان.. وتضمُّ بين أحضانِها عرائشَ الفاصولياءِ كأكواخِ الأسكيمو في القارّةِ القطبيّة، والينابيعُ تتدفّقُ مثلَ فستان العروسِ ليلةَ زفافِها، والعصافيرُ والطيّور تغرّدُ أجملَ ألحانِ الطّبيعةِ السّاحرة في جوقةٍ ملائكيَّة تُشعِرُك بسحرِ نعيمِ الآخرة..
كانت أحواضُ السّباحةِ ملْهانا، وأراجيحُ الحبالِ الّتي تتدلّى من بين أغصانِ شجرةِ السّنديان أعياداً نترنّمُ على هديلِها بين السّماءِ والأرض، وصيدُ العصافيرِ (بالمطّيطة) موسماً يُطفِئُ لظى الحركةِ والنَّشاط في أوصالِنا، وكلُّ ما في الطّبيعةِ يُذيبُ مشاعرَنا وأشواقَنا في حناياها السّاحرةِ الحانية كأمٍّ رؤُوم..

ذاتَ ليلةٍ كنّا نسهرُ في فناءِ بيتِ خالي (أبو سالم) -رحمَه الله- سهرةً اجتمع فيها الأقرباءُ والأصدقاء، وقد حلَّ علَينا ضيفٌ فلسطينيٌّ من مخيّمِ اليرموك الدّمشقيّ وهو العمُّ محمّد خشّان أبو هشام، وكان رجلاً طويلَ القامةِ، عريضَ المنكبين، بهيَّ الطّلعةِ، وسيمَ الوجهِ، طليقَ اللّسان، يأسرُك بلطفِ حديثِه..

كانت أسرابُ النّملِ تمرُّ بجانبي الحصيرِ الّذي نجلسُ عليه، وبضعةُ نملاتٍ تحلّقُ بأجنحتِها فوق رؤوسِنا كالحوَّامات، فلا نبالي بها وكأنّها عساكرُ السُّلطان تحومُ حولَنا وفوقَنا، فسألني العمُّ محمّد خشّان حينما رآني ألتقطُ النَّملَ الطّيّار: ما الفرقُ بين النّملِ الّذي يدبُّ حولَنا وبين النّملِ الّذي يطنُّ فوق رؤوسِنا؟ فتدفّقَت إجابتي الطُّفوليّةُ البريئة على لساني في الحال: الأوّلُ يطير بأرجلِه على الأرض، والثّاني يطيرُ بأجنحتِه في السّماء.. والأوّلُ شجاعٌ لا يهابُنا وهو يلتقطُ نعمَه بين أرجلِنا، والثّاني جبانٌ يحلّقُ فوق رؤوسِنا ويُزعجُنا دون أن يظفرَ بنعمةٍ ممّا حولَنا! فضحِك العمُّ محمّد خشّان وضحكَ السّاهرون، فقال مازحاً: ما شاءَ الله! إنّك أفلاطونُ زمانِك.. ولم أكنْ أعرفُ معنى كلمتِه يومذاك!

والآنَ بعد أن بلغتُ من الكِبرِ عِتيّاً، وتلوّثَت ذاتي بكلِّ مفاسدِ الدُّنيا، باتَت نفسي تذوبُ شوقاً وحنيناً إلى طفولَتي البريئةِ، وراح قلَمي يتحرَّقُ ألماً ليكتبَ بحبرِ الطُّفولة ما كنتُ أعجزُ عن الإفصاحِ عنه بالكلماتِ والجمل، ويحلّقَ في سماءِ الفكر بخيالِ الطُّفولة..

رحلَ رجالُ ذلك الزّمانِ وطوَت يدُ المنُون سيراً مليئةً بالعبرِ والحكمِ والحكايا والمرايا، لكنَّ ذاكرةَ الطّفولةِ ما زالت تقاومُ رياحَ الطّيِّ والنّسيان، فها هي تفيضُ من ينابيعِها فيضَ الشّذى من الورودِ والرّيحان..

كان النّاسُ في ذلك الزّمانِ يسعَون في حقولِ الأرض سعيَ النّملِ بين شقوقِ الأرض حفاظاً على سيرورةِ الحياةِ وضمانِ العيشِ الزّهيد بعرقِ الجبينِ بأبسطِ ألوانِه وأصنافِه، ونفوسُهم مفعمةٌ بالحياةِ والسّعادةِ والهناء..

والنّاسُ اليومَ نملٌ يحلّقُ في الفضاء بأجنحةٍ لا تعرفُ الكللَ ولا الملل بأقلِّ جهدٍ وأدنى تفكيرٍ، لكنّ نفوسَهم في ضَنكٍ وفي جوعٍ لا ينتهي، وفي عطشٍ لا يَرتوي إلى المالِ والجاهِ والسُّلطان.. كان فقراءُ ذلك الزّمانِ لا يشكُون من قلّةٍ، ولا يبطُرون من نعمةٍ، وأمعاؤُهم تغلي غليانَ المراجِل مع ضيقِ اليدِ وقلّةِ الحيلة.. والنّاسُ اليومَ يتأفّفون من القلّةِ ويبطُرون بالنّعمةِ وأحشاؤُهم مُتْخمةٌ بكلِّ المشاربِ والمطاعِم.. وكان أناسُ ذلك الزّمانِ يدبُّون دبيبَ النّملِ بين الحقولِ والبساتين، ولا يشعرُون بمللٍ أو تعبٍ.. واليومَ يتمللُ الخلْقُ ونفوسُهم شقيَّةٌ بالرّاحةِ وقلّةِ الحركةِ مع سعةِ الزّمانِ والمكان..

في الأمسِ كانت أجسادُ النّاسِ سعيدةً بعظامِها وهي تناطحُ جدرانَ الحياةِ بصلابتِها.. واليومَ باتتْ عظامُ النّاس تتلوّى وتنكسِرُ عندَ ملامستِها الهواء..

في الأمسِ كانتْ عروقُ الدَّم في أجسادِ النّاس تنبضُ بالحياةِ وتهدرُ هديرَ الأنهارِ في الشّتاءِ القارسِ.. واليومَ باتتْ عروقُ النّاسِ تشكُو قلّةَ النَّبضِ، وتجفُّ جفافَ الأنهارِ رغمَ السّيولِ الجارفةِ من النّعم..

في الأمسِ كانت بطونُ النّاسِ كالمرايا المقعّرةِ من نحُولِ الأجسام.. واليومَ باتتْ الكروشُ محدَّبةً بالتُّخمةِ مثل أقواسِ القزحِ لا يعلمُ بدايتَها ولا نهايتَها غيرُ علّامِ الغُيوب!

في الأمسِ كان النّاسُ يدبّون دبيبَ النّملِ في الآفاقِ بحثاً عن خبرٍ أو معلومةٍ فلا يجِدُون ضالّتَهم إلّا بشقِّ الأنفُس، وتلفى في أحاديثِهم قنطارَ نكتةٍ ونكتةٍ، وعنبرَ قصّةٍ وقصّةٍ، ومئةَ طُرفةٍ وطرفةٍ، وأَلفَ أُلْفةٍ وأُلفةِ.. واليومَ أضحتِ الأخبارُ والمعلوماتُ تتقاطرُ إلى عيونِ النّاس وآذانِهم، وعقولُهم خاويةٌ على عروشِها، وقلوبُهم لاهيةٌ في كروشِها حول تفاهاتِ الحياة وترّهاتِها العَمياء، فلم تعُدِ الثّقافةُ ثقافةً، ولم يبقَ للنُّكتةِ أو الطُّرفةِ نكهةٌ من نكهاتِ أحاديثِ ذلكَ الزّمان..

كان للنّاسِ طعمٌ كشهدِ العسلِ، وهم يسعَون في الأرضِ سعيَ النّملِ أسراباً بين حبَّاتِ التّراب.. واليومَ أصبح للنّاسِ طعمُ الحنظلِ وهم يطِيرون بأجنحتِهم كذلكَ النّملِ الطّيّار..

في الأمسِ كان النّاسُ يحلّقُون في الفضاءِ بالرّغمِ من أنَّ أرجلَهم تتحطَّمُ بين صخُورِ الحياةِ.. واليومَ باتَ النّاسُ ينحدِرُون إلى أعماقِ الأرض بالرّغم من أنَّ أجنحتَهم في السّماء..

في الأمسِ كان النّاسُ يطيرُون بين الكواكبِ والنُّجوم بالرّغم من أنّ أبصارَهم كانت تَعمى من دخانِ الفوانيسِ والشُّموعِ بين دياجيرِ الحياة.. واليومَ بات النّاسُ يتخبّطُون في ظلماتِ الحياةِ بالرّغم من كثرةِ مصابيحِهم الخاويةِ من كلِّ دخانٍ في الأرضِ والسّماء..

في الأمسِ كانت وجوهُ النّاس تتقطَّرُ بهجةً وسروراً بالرّغمِ من امتصاصِ الحياةِ قطراتِ دمِهم في الشّقاءِ والعملِ.. واليومَ باتتْ وجوهُ النّاسِ تتقطَّرُ سُمّاً زعافاً رغمَ أنّ الحياةَ لم تحرِمْهم قطرةَ دمٍ في شقاءٍ أو تعب..

في الأمسِ كانت حكايا النّاسِ مليئةً بالعبرِ والحِكم.. واليومَ أصبحَت حكايا النّاس مترعةً بالتَّفاهةِ والنِّقَم..

في الأمسِ كان في كلِّ قريةِ رجالٌ ورجال.. ونساءٌ ونساء.. وأطفالٌ وأطفال.. واليومَ اختلطَت في المدينةِ الكُبرى ملامحُ الرّجولةِ بالأنوثةِ، وتشابكَت علائمُ الطُّفولةِ بالرّجولة، وتداخلَت الملامحُ في الملامحِ، حتّى باتتِ الأفهامُ في حَيرةٍ من أمرِها في تصنيفِ الأعمارِ والأقْدار..

في الأمسِ كان في كلِّ قريةٍ وفي كلِّ حيٍّ رجلٌ حكيم يوجّهُ النّاسَ إلى الخيرِ والصَّلاح.. واليومَ لم يعُدْ في المدينةِ المتراميةِ الأطرافِ رجلٌ ينشرُ الحكمةَ أو يسعَى في إصلاحِ النّاس.. ولا تغرَّنَّكَ كثرةُ المنابرِ والأجراسِ وكلماتُ الواعظينَ المبعثرةُ في السّماءِ كالنّملِ الطّيّار..

ألا ليتَ النّملَ الّذي كان يدبُّ بين مناكبِ الأرض دبيباً يعودُ يوماً.. فيُخبرُه بما فعلَت أجنحةُ النّملِ الّذي يطيرُ في السّماء!
ألا ليتَ حكاياتِ النّملِ المفعمةِ بالحِكمِ والعبرِ والأمثالِ من شقاءِ البساتينِ والحقولِ تعودُ يوماً.. فتُخبرُه بما فعلَت أجنحةُ الخيالِ بين الأكِلّةِ والسُّتور..

ألا ليتَ هِممَ الرّجولةِ في أرجلِ النَّملِ المبعثرِ بين التّلالِ والسّهولِ والوديانِ تعودُ يوماً.. فتُخبرُه بما فعلَت عناقِفُ أشباهِ الرّجالِ وقصّاتُ الطّرازِ الخياليِّ على أجنحةِ النّملِ في صالوناتِ الحداثةِ وما بعدَها!

ألا ليتَ حياءَ النّملِ في دياجيرِ الظّلام يعودُ يوماً.. فيخبرُه بما فعلَت قلّةُ الحياءِ الّتي تطايرَت من النُّفوسِ تطايرَ النَّملِ المحلِّقِ في السّماءِ في وضحِ النّهار!

لكنّني لستُ متشائماً؛ كي يفسّرَ أصحابُ الأجنحةِ مَقالي بأنّني فيلسوفٌ في زمنٍ عزّ فيهِ الأخيارُ، وقلَّ فيه الحكماءُ والعُظماء، وإنّما كلُّ زمانٍ لهُ ما لهُ وعليهِ ما عليهِ.. وليستْ كلماتي إلّا بوحاً وشوقاً إلى ماضٍ جميلٍ رغمَ بساطتِه، وبهيٍّ رغمَ بؤسِه وشقائِه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى