الأربعاء ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم أشرف شهاب

حارس شجرة اللوز.. حين يصير الجذر مصيرا والرمز خلاصا

في نص قصصي بالغ التكثيف مثل حارس شجرة اللوز، الفائز بالمرتبة الأولى فى مسابقة ديوان العرب الأدبية الحادية عشرة ٢٠٢٥ (دورة أدب الصمود والمقاومة)، للكاتبة الأردنية المبدعة نسرين ملاوي المشاعلة، يتبدّى العمل الإبداعي كحقل دلالي متشابك، حيث تُستثمر اللغة لا للتوصيف أو الحكي المباشر، بل لتشييد بنية رمزية عميقة تؤسس لعالمٍ تتقاطع فيه الذات بالمكان، ويتداخل فيه الحضور بالغياب، والذاكرة بالفقد. ومن هنا تفرض المقاربة البنيوية السيميائية الرمزية نفسها بوصفها المدخل الأكثر نجاعة لاكتشاف طبقات النص، ورصد التفاعلات الدقيقة بين العلامات، والمبنى، والدلالة.

بنية السرد كحامل للتوتر الرمزي
يبدأ النص من لحظة "استعادة"، لا بمعناها الزمني فحسب، بل بوصفها فعلاً رمزياً لإعادة تشكيل الذات من خلال التمسك بشجرة اللوز، التي لا تظهر فقط ككائن نباتي بل ككائن دلالي، يختزن الذاكرة، والانتماء، والمقاومة. تقول القصة: "في كل صباح، كان ينهض قبل الشمس، ويتجه نحو شجرة اللوز في الطرف القصي من الأرض، يربّت جذعها بيده المرتجفة، كمن يوقظ فيها الحنين".
في هذا المشهد التأسيسي، تُوضع العلاقة بين الحارس والشجرة في إطار طقسي يتجاوز الفعل اليومي. "الربت" على الجذع فعل رمزي، فيه استحضار لحضور الغائب (الوطن؟ الحبيبة؟ الابن؟)، و"اليد المرتجفة" تكشف الهشاشة التي تستبطن القوة، والتمسّك بما تبقّى من المعنى.

الشجرة كعلامة كبرى
تمثل الشجرة "العلامة الكبرى" في النص. إنها بؤرة التوتر الدلالي. يلتف السرد حولها، وتتشظى الحكاية عبرها. ليست مجرد شجرة، بل بنية رمزية تحتمل قراءات متعددة: الشجرة بوصفها الأرض، الأصل، الأم، الوطن، أو حتى الحلم. هذا التعدد هو ما يمنح النص طاقته التأويلية العالية، ويؤسس لانفتاحه الجمالي.
ولعل تكرار الفعل "يحرس" في النص، والذي يأتي مقرونًا بالشجرة، يُخرج الحراسة من بعدها الأمني المباشر، إلى بعدها الرمزي: "قالوا له إن الشجرة يابسة، لا تثمر، لكنه ظل يحرسها كما لو أنها تحمل سرّ خلاصه الوحيد".
الحراسة هنا ليست لحماية الكائن، بل لحماية ما تمثّله. إنها مقاومة للمعنى المستهلك، ومواجهة مع الزمن الذي يجرف العلامات. فـ "الشجرة اليابسة" تقف ضد منطق النفعية: لا تُثمر، لكنّها لا تزال حية في بعدٍ آخر، رمزي، وجودي.

الجسد كأداة سردية
الجسد في النص ليس أداة للفعل فحسب، بل أداة للسرد أيضًا. اهتراء الجسد يُقابل تماسك المعنى. وكلما تهالك الجسد، ازداد رسوخ الإيمان بالشجرة. فـ "الحارس العجوز" ليس شخصية نمطية بل حامل للرسالة، وعبر جسده المتآكل تتجسد المفارقة بين الزوال والخلود: "كان العابرون يسخرون من عكازه، ويتهامسون عن عبثية انتظاره، لكنه لم يكن يصغي. عيناه مثبتتان على الأغصان الجرداء، كما لو أنها تنطق بشيء لا يسمعه سواهما".
العين هنا مرآة داخلية، لا ترى فقط ما هو موجود، بل ما يجب أن يُرى. إنها رمز للإيمان غير المشروط، والنظر إلى الجوهر لا إلى القشرة. بينما "التهامس" و"السخرية" يُقدّمان بوصفهما ضجيجًا خارجيًا لا يغير شيئًا من قناعة الحارس.

جدلية الغياب والحضور
في نهاية القصة، لا نجد تحولاً فعليًا، ولا نتيجة حاسمة، بل نوعًا من التوكيد على دوام الرمزية: "في أحد الأيام، لم يأتِ الحارس. لكنها كانت المرة الأولى التي يُزهر فيها اللوز".
هذا الختام المشحون بالدلالات يُعيد بناء بنية النص من جديد. "غياب الحارس" لا يعني الفقد، بل هو "حضور مؤجل" أو "تحقّق رمزي". فالإزهار لا يأتي في حضوره، بل بعده. وكأن وجوده الرمزي، لا الفيزيائي، كان هو ما يمنح الحياة لهذه الشجرة. الإزهار هنا ليس حدثًا زراعيًا، بل مكافأة سردية على الإيمان الطويل.

نحو قراءة تأويلية
من خلال هذا البناء المتماسك، واللغة التي تزاوج بين البساطة والعمق، تقدم الكاتبة نصًا يفيض بالتأويلات، ويفتح مسارات متعددة للقراءة. فالتمسك بالشجرة يتجاوز حدود الفعل الظاهري ليغدو تعبيرا عن التشبث بالمعنى، وعن الرموز حين تتحول إلى مصائر، وعن الإيمان الذي لا يخضع للمساومة.
في هذا السياق، تغدو الشجرة فكرة، ويصبح الحارس موقفًا، ويُعاد تعريف الانتظار كفعل من أفعال المقاومة. هكذا ينجح النص في أن يحوّل الواقعي إلى رمزي، والجزئي إلى كلي، والتجربة الذاتية إلى تعبير كوني عن التمسك بالأمل رغم الخسارات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى