

المسرحية.. صرخة من تحت الركام.. شهادات ما بعد الحياة

في نصّه المكثّف الماكر "المسرحية"، الفائز بالمرتبة الخامسة فرع القصة فى مسابقة ديوان العرب الأدبية 2025 (دورة أدب الصمود والمقاومة)، يقدّم علي الرفاعي عملًا فنيًا مدهشًا يقف على تخوم المسرح والقصة والبيان السياسي، حيث تتكثف البنية الدرامية في سرد يتخذ هيئة العرض المسرحي ولكنه يجاوز إطار الخشبة لينقلب على المتلقي ذاته، ويدخله قسرًا في فضاء الحدث، لا كمشاهد، بل كجزء من المشهد الإنساني الكابوسي المعروض.
منذ الجملة الأولى، يرسّخ الكاتب قواعد العرض الرمزي: "خفتت الأضواء تدريجيًّا حتى لم يبقَ منها سوى ضوءٌ خافتٌ صغيرٌ"..
إنه ليس إظلامًا مسرحيًا تقليديًا بل ولوج في نفق تأويلي متعدد المستويات. فالضوء هنا يحدد البؤرة الدلالية للمشهد الأول: الجنين – الجسد – الصوت العميق – الولادة والصرخة، ثم التماهي مع الموت والانبعاث.
تتوالى الإشارات الرمزية تباعًا، حيث تتخذ الممثلة "العروس" فستانًا أبيض ملطخًا بالأحمر، في مشهد يتجاوز الواقعية إلى الميثولوجيا السياسية للدم: العرس هنا قرين الموت، والأنوثة مصلوبة على خشبة العالم، في تقاطع صارخ بين الفردي والكوني، وبين الجمالي والمأساوي.
الممثلة/العروس تمدّ يدها إلى الجمهور: "كمن يحاول أن يسبح في الفراغ، أو أن يمسك بشيءٍ ما غير مرئيّ". وهو توصيف يلخص صرخة الإنسان العربي في مواجهة الفراغ الإنساني الذي يملأ قاعات القرار العالمي.
"الخشبة" كحيّز رمزي
ينقلب المسرح في هذه القصة من حيّز فني إلى حيّز سياسي – أخلاقي، تتحول الخشبة إلى "أرض معركة"، يتراكم عليها الموتى في نهاية كل مشهد، لتتكدس الجثث أمام الصفوف الأولى حيث "كبار الشخصيات". هذه المسافة الرمزية بين الجمهور والنص ليست مجرد مكان بل هي مجاز لما يفصل الضحية عن الجلاد، والمُشاهد عن الإنسان.
حين ينهض الرجل الأشقر من مقعده ويقول: "لقد دفعت مبلغًا طائلًا من المال لأشاهد هذه المسرحية اللعينة، لا لأسمعها فحسب"!.
فهو يلعب دور الضمير العالمي المشلول الذي لم يعد يرى في الكارثة سوى مادة للعرض، استهلاك بصري لا إنساني، سعار رؤيوي لا أخلاقي.
وظيفة الصوت
الصوت في النص ليس فقط عنصرًا سمعيًا، بل علامة رمزية تحمل مستويات من الدلالة. يبدأ بـ:
"ما زلت على قيد الحياة". وهو صوت من الأعماق، كأننا نسمعه من تحت الأنقاض أو من الذاكرة. ثم تتوالى الأصوات الهامسة في نهاية النص في شكل مونولوجات، أو بالأحرى موت-نولوجات، على غرار: "اسمه يوسف.. عمر احكي بسم الله.. كنت نايم.. أربعين سنة بشتغل عشان أبني الدار"..
إنها شهادات موتى لا يزالون يتكلمون، كأنّ النص يتحوّل إلى أرشيف صوتي لصرخات غير موثّقة، أو كأنّه "صندوق أسود" لأمّة تتحطّم.
تفكيك الرموز
كثيرة هي الرموز التي تحتاج تفكيكًا:
فستان العروس الأبيض الملطخ بالأحمر: دم الطهارة والبراءة المغدورة.
العكاز والقدم المبتورة: حكاية حلم مغدور (كرة القدم)، وجسد مشلول لا يزال يصارع، ولكنه يُدهس.
الأطفال والدمى: رمزية البراءة المسحوقة تحت آلة الحرب.
جبل الجثث: استعارة بصرية لحاجز الموت، لكنه أيضًا "المسرح الحقيقي" الذي يتسابق عليه الجمهور ليشاهد، في مفارقة صادمة.
انقلاب الحكاية على الجمهور.. وكسر الحاجز الرابع
النص ليس عرضًا لجمهور افتراضي، بل نقد للجمهور الواقعي. المتفرجون في القصة جزء من المذبحة الرمزية، يسعون إلى تسلق الجثث للحصول على زاوية رؤية أفضل. إنهم يسابقون من أجل الفرجة، لا الفعل. والكاتب يفكك هنا العلاقة الأخلاقية بين الفن والمتلقي، ويطرح سؤالًا صادمًا: من يشاهد من؟ ومن الضحية الحقيقية؟
مسرحية بلا ستارة.. وموت بلا نهاية
ينهي علي الرفاعي نصه المفتوح على الجرح والرفض والتمرد، دون أن يعلن نهاية المسرحية. فلا إسدال للستارة، ولا تصفيق، فقط: "اجلس... وشاهد... ألا أيها العالم الحرّ والمتحضّر... ميتتَنا الشاهقة".
هكذا يتحوّل النص كله إلى شاهد قبر شعري على مسرحية العالم المليئة بالصمت، والسقوط، والتفرج.