الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ‎⁨مصطفى أحمد عون

تحت شجرة الزيتون

في قريةٍ مُعلَّقةٍ بين السحاب، حيثُ تُلامسُ قممُ الجبالِ الغيمَ باحترافِ عاشقٍ يلهثُ خلفَ محبوبته، كانتْ "نورا" تَجلسُ كلَّ مساءٍ تحتَ شجرةِ زيتونٍ عملاقةٍ، كأنَّها جبَّارٌ أسطوريٌّ نبتَ من دماءِ الأسلاف. أغصانُها المُتدليةِ تَحملُ ثماراً ذهبيةً كأنها نجومٌ سقطتْ من عباءةِ الليل، وجذعُها المُتشقِّقُ يَختزنُ سطوراً من تاريخٍ لم يُكتَبْ بعد. بيديها الناعمتينِ، كانتْ تَنسجُ خُرزَ الذكرياتِ بخيطٍ مِنْ شعرِ جدَّتِها الراحلَة، الذي ورثتْهُ في قارورةٍ فضيةٍ مع أنفاسِها الأخيرة: "خُذيها يا نورا، فالشعرُ يَحمِلُ سِرَّ البقاء".

الأهالي يُردِّدونَ أنَّ جذورَ الشجرةِ تَخترقُ اللُّبَّ الأسودَ للأرضِ حتى تَصِلَ إلى قبورِ الأجدادِ الأوائل، حيثُ تُناغي عظامَهم أغاني المطرِ الأولى. أمَّا أغصانُها فتحملُ أسرارَ الغائبينَ: همساتِ عاشقينَ، صرخاتِ مُقاومينَ، ودموعَ أمهاتٍ وَدَّعنَ أبناءَهنَّ تحتَ ضوءِ القمرِ الخائف. لكنَّ نورا، ذاتَ الاثني عشر ربيعاً، تَرى ما لا يراهُ الكبارُ: تُحسُّ بِنبضٍ يَخترقُ لحاءَ الشجرةِ عندَ الغروبِ، كأنَّ قلباً خفيّاً يَخفقُ داخلها. في الليالي القَمْريةِ، تَسمعُها تَئِنُّ أنيناً ذا سيمفونية، كأنَّ أغصانَها تَحتكُّ ببعضِها لِتُلحِّنَ حكايةَ القريةِ المنسيةِ. ذاتَ مرّةٍ، أقسمتْ لأبيها أنَّها رَأتْ ظلَّ جدِّها الراحلِ يَجلسُ تحتَ الشجرةِ، يَكتبُ على أوراقِ الزيتونِ بِقلمٍ مِنْ ضوءٍ: "لا تَخشَوا الموتَ، فالجذورُ لا تَموتُ".

والآن، وهي تُتابعُ نَسجَ الخرزِ بِخيطِ الشَّعرِ الأسودِ، تَشعرُ أنَّ كلَّ حبّةٍ تَختزنُ صوتاً: ضحكةَ جدَّتِها المُرتعشةِ، صرخةَ أخيها الصغيرِ يومَ سُرقَ منهم، وحِكمةَ أبيها الذي يَنحتُ على الصخرِ: "الأرضُ تُولدُ مِن جديدٍ كُلَّما وَطِئَها المُستَعبِدون". تُمسكُ بيدِها ورقةَ زيتونٍ ساقطةً، تَقرأُ فيها خطوطَ الريحِ: "ستَأتي أيامٌ تَشيبُ فيها الدباباتُ خَجَلاً.. فاثبتي".

ذاتَ يومٍ، بينما كانتْ تُزيّنُ جذعَ الشجرةِ برسوماتٍ مِنْ طينٍ وَألوانٍ حمراءَ استخرجَتْها مِنْ زهرةِ الرمان، كأنها تَخيطُ جراحَ الأرضِ بِإبرةِ أملٍ، سمعتْ دويَّ مُحرّكاتٍ يَقتربُ كزئيرِ وحوشٍ حديديةٍ. تَلألأتْ ألوانُها الحمراءُ تحتَ شمسِ الظهيرةِ كدماءٍ قديمةٍ تَنبضُ مِنْ جدرانِ الذاكرةِ، بينما تَشبثتْ بِسكينِها الخشبيِّ الصغيرِ تُنقشُ على اللحاءِ: "هذه الأرضُ تَتنفّسُ بمَن تبقَّى فيها". فجأةً، انْشَقَّ الأفقُ بِسحابةِ غبارٍ مُصفرٍّ، ورأَتْ عيونُ الأهالي المُتجمّدةِ رُعَباً تَزحفُ مِنْ خلفِ التلالِ. ركضَ الرجالُ والنِّساءُ نحوَ الحقولِ كأوراقٍ مَذعورةٍ تَلوذُ بِالريحِ، بينما وقفتْ نورا صامدةً تحتَ الشجرةِ، تَشبثت بِجذعِها المُتشظّي كأنَّها جذرٌ آخرُ يَنغرسُ في اللَّبِنِ الأسودِ.

جاءَ الجنودُ بِملابسَ سوداءَ تلمعُ شاراتُها النحاسيةُ كأعينِ غربانَ جائعةٍ، وآلاتٍ حادةٍ تَطحنُ الصخورَ كأنها تَبتلعُ الأرضَ. أحدُهم رفعَ مكبرَ صوتٍ يُنبئُ بِصوتٍ مَعدنيٍّ: "هذه الشجرةُ عائقٌ عسكريٌّ.. ستُقلعُ اليومَ!". لكنَّ نورا، التي تحوَّلَ رُعبُها إلى غضبٍ أعمى، صَرختْ بِصوتٍ يَقْطَعُ الضبابَ: "اقتلعونا معها إذا جَرؤتُم!". بينما تَقدّمَ الجنديُّ الأوّلُ بِمنجلهِ الضخمِ، لاحظَ أنَّ الرسوماتِ الحمراءَ على الجذعِ تَتَشكّلُ ككلماتٍ غامضةٍ: "كُلُّ شجرةٍ تُقطَعُ.. تَزرعُ ألفَ مقاوِمٍ".

صَرَختْ نورا بِصوتٍ لم تَعتدْه حتى هي، صوتٌ يَمتزجُ فيه زئيرُ الأسلافِ بِرعبِ الطفولةِ: "الشجرةُ ليستْ حجراً تُزيلونه! إنَّها تَحملُ أنفاسَ مَن ماتوا هنا!.. تَسكُنُها أرواحٌ تَعرفُ طَعْنَاتِ الخيانةِ قَبلَ طَعْنَاتِ سكاكينِكُم!". أمسكَ أحدُ الجنودِ بِذراعِها النحيلِ بقسوةٍ، فشعرَتْ بِحرارةِ جذعِ الشجرةِ تَنسابُ إلى جسدِها كسَيلٍ مِنْ حِناء. فجأةً، انْهمرَ مطرٌ غزيرٌ مِنْ سماءٍ صافيةٍ، كأنَّ الغيومَ اختبأتْ خلفَ أوراقِ الزيتونِ لِتُفاجئَ الغزاةَ. قطراتٌ دافئةٌ مَشبوبةٌ بِرائحةِ البَخورِ القديمِ، تَنزلُ على وجوهِ الجنودِ فتَصهرُ خوذاتِهم كالشمعِ. ارتَعشَ الجنديُّ الذي يَمسكُها، وانْحنى ظهرُهُ كغصنٍ مكسورٍ، بينما تَحوَّلَ صُراخُ رفاقِهِ إلى همساتٍ مَخنوقةٍ: "هذه أرضُ أشباحٍ.. اترُكوها!".

ابتسمَتْ نورا وَهي تَلحظُ ظِلَّ جَدِّها الراحلِ يَمشي في المطرِ، يَغرسُ سَيفاً مِنْ ضبابٍ في الأرضِ. عَرفَتْ أنَّ الشجرةَ تَنزفُ غضباً، فالماءُ المُنهمرُ لَيسَ ماءً.. إنَّهُ دموعُ القريةِ كلِّها تَثأرُ.

في الليل، وبينما القريةُ تَئِنُّ مِنْ هولِ اليوم كامرأةٍ تَشْهقُ تحتَ وَطأةِ الأحزانِ، تسللتْ نورا خِلسةً إلى مكانِ الشجرةِ، تَخطو خُطاها بخفَّةِ ظِلِّ فأرَةٍ جريحةٍ. القمرُ المُنكسرُ خلفَ السحابِ كانَ يَنظرُ إليها كشاهدِ زورٍ، بينما تَلعقُ ريحٌ باردةٌ دموعَ البيوتِ المُنهارةِ. حفرتْ تحتَ جذورِ الشجرةِ بِظُفرٍ مُنكسرٍ، حتى أصابَتْ يداها صندوقاً خشبيّاً مَطموراً، مُغلَّفاً بِطينٍ يَلُوحُ فيهِ بصماتُ أصابعَ غريبةٍ. فتحتْهُ بِرِجفانٍ، فانبعثَتْ رائحةُ زعترٍ بريٍّ وزَفَراتٌ مَنسيةٌ. داخلهُ مخطوطةٌ قديمةٌ بخطِّ جدِّها المُتموِّجِ كأمواجِ البحرِ: "مَن يَقرأُ هذهِ الكلماتِ سيعرفُ أنَّ الزيتونَ يَنمو حيثُ تَنمو القلوبُ الشجاعةُ.. فالأرضُ تُنجبُ أبطالاً كُلَّما جَاعَتْ".

في الصباحِ، جمعتْ نورا الأطفالَ حولَ جذعِ الشجرةِ المحروقِ، وبدأوا بنسخِ المخطوطةِ على أوراقٍ صغيرةٍ قَطَعوها مِنْ ثيابِ مَن رَحلوا. كانوا يَكتُبونَ بِحبرٍ صَنَعوهُ مِنْ رمادِ الأغصانِ ودمعِ البصلِ، بينما تَهتفُ إحدى الصغيراتِ: "الكلماتُ ستطيرُ كالنحلِ.. تَلدغُ الأعادي!". ربطوا الأوراقَ بِأجنحةِ حمامٍ أبيضَ كانَ يَتربَّصُ فوقَ السطوحِ كحارسٍ قديمٍ، وأطلقوهُ نحوَ القرى المجاورةِ. مع كلِّ حمامةٍ تَحلِّقُ، كانتْ نورا تَهمسُ: "اخبروهم أنَّ الشجرةَ تَتنفَّسُ.. وأنَّ جذورَنا تَمتدُّ إلى حيثُ تقفون!".

أصبحَتْ رسائلُ المخطوطةِ تُتلى في كلِّ مكانٍ كأنَّها نشيدٌ سريٌّ:

"لا تبيعوا الأرضَ، فالأرضُ تَشتاقُ لأصحابِها كالأمهاتِ. الزيتونُ يُصلّي كلَّ يومٍ لأجلِ مَن يَحميهِ".

بعدَ أسابيع، عادَ الجنودُ بِجرّافاتٍ تزمجرُ كوحوشٍ جَرّاحة، لكنَّهم وَجدوا المئاتَ مِنَ الأهالي مِنْ قرى مختلفةٍ قد التَفُّوا حولَ الشجرةِ كإكليلِ شوكٍ مقدسٍ. الرجالُ وَالنِّساءُ يَرتدونَ أغطيةً مُلوّنةً نُسجَتْ مِنْ أوراقِ الزيتونِ المُطعَّمةِ بِقطراتِ ندى، كأنَّها تيجانُ مَلوكٍ مِنْ زمنٍ ضائعٍ. الأطفالُ عَلَّقوا عُقوداً مِنْ بذورِ الزيتونِ المُحرَّقةِ على أعناقِهم، بينما تَصدحُ هتافاتُهم: "الشجرةُ جذرٌ، والجذرُ لا يُقلعُ!"، كأنَّ الصوتَ الواحدَ تَكرَّرَ في ألفِ حنجرةٍ.

وقفتْ نورا أمامَ الجميعَ، شَعرُها الأسودُ يَتمدَّدُ في الهواءِ كرايةِ تمردٍ، تَرفعُ المخطوطةَ عالياً بِيَدٍ لا تَرتعشُ. الأوراقُ القديمةُ تَتوهجُ تحتَ الشمسِ كأنَّ كلماتِ الجدِّ تحوَّلَتْ إلى نارٍ تَأكلُ الظلم. الأرضُ تحتَ أقدامِ الجنودِ بدأتْ تَموجُ كبحرٍ غاضبٍ، تَبتلعُ أحذيتَهم وتُخرجُ مِنْ شقوقِها ثعابينَ طينيةً تَصفرُّ بِغضبٍ. اِرتجَّتْ يدُ قائدِ الجيشِ وهو يُصدرُ أوامرَ الإنسحابِ، بينما تَساقطَتْ أوراقُ الزيتونِ على خوذاتِ الجنودِ كرصاصاتِ رملٍ. سمعَتْ نورا هَمْسَ الشجرةِ يَخترقُ الضجيجَ: "انظروا.. فكُلُّ جذرٍ يَمُوتُ يُنبتُ ثورةً!".

عندَ الغروب، وبينما تَنسحبُ الآلاتُ الحديديةُ مُجرَّحةَ الصدورِ كجيشٍ مهزومٍ، تَسمعُ نورا همساً يأتي مِنْ أعلى الشجرةِ، صوتٌ يشبهُ حفيفَ الأوراقِ المُتحوِّلِ إلى لغةٍ بشريّةٍ: "أنتِ الآنَ جزءٌ مِنّي، فاحفظيني كما حفظتُ أجدادَكِ.. اِحمِليني في جسدِكِ كجرحٍ لا يَندمل". تُمسكُ بِيدِها بذرةً سقطتْ مِنْ علوٍ كأنّها دمعَةُ الشجرةِ الأخيرة، تلمعُ بين أصابعِها كقطعةِ ليلٍ مُبتلٍ بِالندى. تَركعُ قربَ جذعِ الشجرةِ المُحترقِ، تَدفنُ البذرةَ في تربةٍ مَخبُوءةٍ تحتَ الرمادِ، حيثُ اختلطَ ترابُ الأجدادِ بِرُفاتِ أعشابٍ بريّةٍ.

تُرنِّمُ لها أغنيةً قديمةً، صوتُها يَرتجُّ كوترِ عودٍ مَكسورٍ:

"يا زيتونَ الجبالِ.. لا تيأسْ، فالحُبُّ أعمقُ مِنْ طَعناتِ الفؤوسْ..

والجذورُ التي تَسقُطُ.. ستقوم، وتُنبِتُ ألفَ قُبلةٍ لِمَن يَهُزُّ قُيودَ السجون".

فجأةً، تَنشقُّ الأرضُ حيثُ دُفِنَتِ البذرةُ، يَخرُجُ منها ضوءٌ أزرقُ كأنَّهُ شظيةُ قمرٍ. تَلتفُّ النساءُ حولَ المكانِ، يُلقيْنَ حُفناتٍ مِنْ ملحٍ وتمرٍ كطقسٍ قديمٍ، بينما يُردِّدُ الرجالُ: "هذه البذرةُ ستُعاندُ الجفافَ.. حتى تَشيبَ الجبالُ!". تَلمحُ نورا ظِلَّ جدِّها يُلوِّحُ لها مِنْ بين الأغصانِ، فيَختلطُ دمعُها بِضحكتِها. تعرفُ أنَّ المعركةَ طويلةٌ.. لكنَّ الغصنَ الصغيرَ الذي سيَنمو سيكونُ شاهداً:
"كُلُّ محاولةِ قَتلٍ تُنجِبُ بذرةً.. وكُلُّ بذرةٍ تُنادي: سأعودُ!".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى