

بين إسطبلات الروح وصدى الأساطير

أنا لستُ إنساناً خالصاً في صفاتي، بل مرآةٌ لرحلات الأساطير وحكمة العصور. في داخلي شيء من صرامة الملوك، وهشاشة المنفيين، وبكاء الأمهات المكلومات.
أنا كائنٌ يتأرجح بين الطهر والدنس، بين صفاء الروح وثقل الجسد.
وإن كنتُ أواجه موتاً صغيراً كل يوم، فإنني في الوقت ذاته أتعلم كيف أصير أكبر من مخاوفي، وكيف أصوغ لحياتي معنىً لا يبتلعه العدم.
أرى في داخلي حدائق خضراء، لكنني أسمع أيضاً صهيل الخيول وسط إسطبلات أورخياس، حيث القذارة المكدسة رمزٌ لفوضى الإنسان. ما أكثر ما يتراكم في أعماقي من هوىً وندم، حتى أحتاج إلى نهرٍ كهرقل كي أغسل نفسي من شوائبها في يوم واحد. لكنني لست هرقل، ولا أملك أنهار الآلهة؛ ما أملكه هو عزيمة بطيئة، صبرٌ يفتت الصخر قطرةً قطرة.
لقد علّمتني ملحمة جلجامش أنني فانٍ، وأن الأبدية ليست نصيبي. قال له أوتنابشتم: "الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، فالآلهة احتفظت بالخلود لها." وأنا أدرك أن خلودي الوحيد هو الكلمة الصادقة والعمل العادل، لا التاج ولا المتاع. ولذا فإنني أعيش لا لأهرب من الموت، بل لأصوغ معنىً يتحدى العدم.
وإذا استدعيتُ صورة هيكوبا، تلك الملكة التي رأت أبناءها يُذبحون أمام عينيها، شعرتُ أنني أنظر في مرآة الوجود كلّه: الكرامة في قلب الخراب، والصرخة التي تبقى شاهداً بعد أن يذوب كل شيء. هيكوبا لم تُهزم، لأن المأساة لم تقتل روحها. وأنا أتعلم منها أن أقف، حتى لو سقطتُ في العراء بلا سند.
حين أتأمل هيكوبا، تيك الملكة الطروادية الكئيبة، أرى في عينيها دموع الإنسانية كلّها. "آه، يا للآلهة التي تلاعبت بمصائرنا!" تصرخ في الإلياذة وكأنها تنطق بلساني. وأنا مثلها أُدرك أن الحياة لا تمنح ضماناً لأحد، وأن الملكة يمكن أن تُساق إلى العبودية كما يُساق الفقير إلى الموت. لكن مأساة هيكوبا ليست نهاية، بل درسٌ: أن الكرامة لا تُسلب حتى لو سُلب كل شيء.
أما الأوديسا فتذكّرني أن الإنسان وُلد ليرحل ويعود. في الأوديسا، تعلّمنا عودة أوديسيوس في أفق البحار، أن المنفى قد يطول، وأن العواصف قد تُبعثرنا، لكن "الإنسان وُلد ليعود." وأنا أرى نفسي في رحلته: أتوه بين جزرٍ من الأوهام، أُفتن بأصوات السيرينات، لكنني أتشبث بالصاري كي لا أغرق في غواياتهم. صفاتي إذن ليست فضائل نقية، بل مزيجٌ من مقاومة وضعف، من إيمان وشكّ. أرى نفسي مثل أوديسيوس، أُغرى بأغنيات السيرينات، أتيه بين جزر النسيان، لكنني أتمسك بالصاري، وأفتك بالسيكلوب، فلا أستسلم للغرق. كل عاصفة تهديني درساً، وكل منفى يوقظ فيّ شوقاً إلى ميناء لم أصل إليه بعد.
وفي الكتاب المقدس يرنّ في أذني صوت الملك الكهل، صاحب نشيد الأناشيد: "باطل الأباطيل، الكل باطل." فأدرك أن قبض الروح هو جوهر كل امتلاك. لكنني لا أقرأ هذه الكلمة كلعنة، بل كحقيقة محرِّرة: إذا كان الكل باطلاً، فإن ما يبقى هو العدل الذي أوقنه، والحب الذي أدركه، والحقّ الذي لا تذروه الرياح.
ثم يظهر لي أفلاطون في حوار جمهوريته: "النفس ثلاثة، والعدل أن يأخذ كل جزءٍ منها حدَّه." ويهدينا الى النفس العاقلة، والنفس الانفعالية مسؤولة الشجاعة والصبر و الكرم، والنفس الشهوية فأفهم أن صراعي الداخلي ليس عيباً، بل قانون الوجود. إن العقل، والغضب، والشهوة أوتارٌ متنافرة، لكن انسجامها وحده يصنع موسيقى الإنسان.
ولست أنسى قول نيتشه في كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، وهو أشهر أعماله، الذي ألفه بين عام 1883 وعام 1885 : "من له سبب يعيش من أجله، سيحتمل كلّ الظروف." عندها أتيقن أن صفاتي ليست عبئاً أعمى، بل مسلكاً إلى إرادةٍ أخلق بها قدري. وما القدر إلا مادةٌ في يدي، إما أن أشكّلها بمعنى ذي قيمة، أو أتركها تذروني كالغبار. فأدرك أن صفاتي ليست قدراً كفيفاً، بل معركة يومية لأصوغ لنفسي سبباً أعيش لأجله. حتى لو كانت حياتي إسطبلاً متسخاً أو مأساةً طروادية، أو رحلةً بلا ميناء، فإنني أملك تأويلها وجعلها ذات معنىً.
هكذا أنا: نصف هرقل، نصف هيكوبا، نصف جلجامش، نصف أوديسيوس. أنا الأسطورة الناقصة التي تمشي على الأرض. ولئن كان الإنسان، كما قال الشاعر الألماني فريدريش هولدرلن، "يسكن العالم شعرياً"، فإنني أريد أن أسكن حياتي شعراً، حتى في أقسى لحظات الصراع.
لأن المعنى لا يُعطى، بل يُنتزع. والكرامة لا تُمنح، بل تُصاغ بالعرق والدم والدموع. أنا، في النهاية، لستُ ما أملك، ولا ما ضاع مني. أنا ما أبقيه صامداً في وجه الزمن، وما أكتبه على جدار الوجود بمداد التجربة.
سأظل أصارع، أسقط، أصرخ، أبحث، ثم أنتصب من جديد. وإن كانت حياتي شبيهة بالأساطير، فلأن كل إنسان هو أسطورة في طور التشكل. وما دام بي نفسٌ يتردد، فسأظل أرتّب إسطبلاتي، وأستحضر حكم الأجداد، وأجعل من حياتي، رغم هشاشتها، حكمةً لا تُنسى.