برتابا برتابا
مفعم بالرعونة هذا المشاكس كان يجيء، رائحة دخان الطوابين تفوح من حلقات شعره الجعدي، بقع السمن والزيت تحتل حيزاً ملفتاً للنظر في بنطاله الكاكي الكالح، وحين يسير تسمع خشخشة فخاخ الصيد السميكة المدلاة على جنبه.
في العام الماضي كان يزهو على أقرانه بحزمته الجلدية الجديدة، وإمعاناً بتفرده لم يكن يتوانى عن ركل ما يصادفه في الطريق من حصى وحجارة صغيرة، أو حين يغوص متعمداً في الوحل حتى يحصل على متعته الطفولية لحظة غسلها في مياه قناة (دفنا).
كل هذه الشيطنات جعلته في هذه الأيام يكبح جماح رعونته خوفاً من كدم أصبَعَيْ رجليه الكبيرتين الخارجتين من شقوق الجزمة السوداء. استدار صوب حقل الذرة المجاورة، أهلك كمية لا بأس بها من الأعواد حتى حصل على دودة سمينة أدخلها في حلقة خيط (كرزم) الفخة ثم حشرها في الخرزة الصغيرة.
(نصف الشحتوت أصبح الآن في يدي ونصفه الآخر سيأتي بعد قليل). لم يكن يعلم أن الغيوم التي بدأت تتلبد في السماء، ستطلق من دائرة حلمه الشحتوت المنتظر، ولحين استعداد البرق والرعد كان يقفز كالجندب بين شجيرات التين محاولاً توجيه رف الشحاتيت صوب فخته المطمورة بين الأثلام. وعلى غير توقع سمع قوسي الفخة ينطبقان على بعضهما البعض، وهذا يعني أن الطائر أصبح في متناول اليد مما جعله يقفز بسرعة جنونية ليخلص الطائر قبل أن يختنق. ولكنه تفاجئ بأن الشحتوت تحول إلى جرذون كبير فرّ بالفخة بين الأشواك وأحجار السناسل ومن يومها لم تمطر إلا في العام القادم.
حارات البلدة طافحة بالنفايات والبواليع متخمة بالأتربة والحجارة والأوراق.والولد المشاكس يتأمل السماء يرقب ميعاد المطر، ينبض قلبه مع كل سحابة تمر دون إلتفات، يود لو يحلبها كالراعي (أبو شاليش) الذي يحلب قطيعه لنساء الجبل، ولكن عبثاً كان ينتظر. لملم ذله الكسير، حمل علبتين معدنيتين أخذ يطرقهما في بعضهما البعض، وبين الطرقة والأخرى يصرخ بصوته الأجش (أمطري وزيدي بيتنا حديدي عمنا عبد الله كسر الجرة).
أراهن لو أنك فتشت كل بيوت البلدة فلن تجد جرة واحدة في زمن الكولا والفيديو والدش حتى العم عبد الله هذا لم تعد أوضاعة الاقتصادية تسمح بكسر مجرد كأس صغير فكيف بالجرة التي أصبحت لا تراها إلا في مسلسلات التلفزيون؟. الولد المشاكس أعند من بغل شموص، لن يرتاح حتى يحصل على جرة ويحطمها في ساحة البلدة ولكن المشكلة في الإسم.
على أية حال كلنا عبيد الله.
وبعد هذا المخرج من هذه الاشكالية الطارئة حصل عبد الله الجديد على جرة لم يلمسها الماء منذ أن كانت تراباً في ذراته ماء (دفنا) وهذا كافٍ للملمة أجزاء الصورة المندثرة من زمن ليس بعيد. وعلى صوت ارتطام الجرة بحجر الصوان المزروع في طرف الساحة، تجمع الأطفال فرحين مهللين، كلٌّ يحاول حيازة أكبر قدر ممكن من شظايا الفخار، كانت مشكلة تجميع الأطفال من الأمور التي لا تقل أهمية عن موضوع الحصول على جرة في زمن المنقرضات.
ومن حسن الحظ أن نصف المشكلة كان طرف الخيط الذي بواسطته حل الطرف الآخر من نصفها، ولكن أي قوة ستجعلهم ينضمون في الأوكسترا التنكية، أمزجة صغيرة ترتد لنقطة انطلاقها قبل جلاء المواقف واستقرار الأمور، كل الذي فعلوه أن لملموا أشلاء الضحية وانسحبوا باحثين عن مشهد يستفز طفولتهم، لذلك لم يجد الولد المشاكس أمامه من خيار سوى أن يحمل العلبتين التنكتين ويبدأ بعزف لحن المطر، ثمة صوت غير مفهوم يردد خلفه، تلفت، حمى الطرق يتناغم مع فوضى النشيد وأطلق أول ضحكاته في هذا النهار حين شاهد البهلول وهو يتمايل مع الإيقاع التنكي ومردداً لازمة النشيد بلغته الخاصة: برتابا… برتابا.