انهض يا إدريس بك!
"رأيتك فى المنام يا مولاى جالسا على عرش مصر". قالها الخادم فانفرجت أسارير مولاه سخرية من سذاجدته، وقال له: "إذا تحقق حلمك سأضع صورتك على الجنيه"!
كانت الجنيهات حتى ذلك الوقت تصدر حاملة صور الجمال، حيث يتوسط صفحتها الملونة جملٌ تبدو عليه علامات الحكمة والتروى، وكأن الفنان الذى صممها استشعر ما ستحتاجه هذه الورقة النقدية فى قابل أيامها، وما سيحتاجه مالكها أيضا، من صبر واحتمال وصمود ولم يجد خيرا من الجمل شعارا لها! فظهرت الجنيهات تتوسطها الجمال!
وتحققت البشارة وجاءت الأيام بما لم يخطر على قلب بشر ووعد الأمير أحمد فؤاد بتولى عرش مصر بعد وفاة شقيقه السلطان حسين كامل! أسرع ولى العهد لحجرة خادمه فوجده ساجدا يصلى، انتظره حتى أتم صلاته ثم قال له: "انهض يا إدريس بك فقد تحقق حلمك"!، وصدر أول جنيه مصرى حاملا لصورة بشر وعليه صورة إدريس (بك) الشماشرجى، بعمامته البيضاء وبشرته الجنوبية السمراء، وأوفى السلطان أحمد فؤاد بوعده لخادمه!
حين انقضى عصر الجمال، جاء عصر "إدريس"، المرتحل من بلدته، المغترب عن أهله وناسه، الذى وضعته الأقدار فى أحد قصور عائلة محمد على، فأخلص لأسياده حد العبادة وأحبهم حد الفناء وبجلهم حد التأليه، ذاب "إدريس" الشماشرجى فى حياة أسياده وصار مجرد آلة ترصد كل خلجة والتفاتة وإشارة وتهرول لتلبيتها، رضى "إدريس" بحاله وقنع بعيشته وعاش مطمئن الخاطر سعيدا بسعادة من يحبهم، لذا حين تقرر سفر الأمير أحمد فؤاد ابن الخديوى إسماعيل لإيطاليا لم يجد خيرا من "إدريس" تابعا له فاصطحبه معه فى رحلته، لينتقل الخادم من غربة لغربة ومن ارتحال قريب إلى ارتحال بعيد. طالت رحلة الأمير أحمد فؤاد لإيطاليا، أعوام كثيرة مضت و"إدريس" الطيب عاكف على خدمة سيده وتلبية مطالبه وتهدئة روعه واحتمال ثوراته العاصفة. وفى أحد الأيام ثوى الخادم إلى فراشه منهكا يجيش قلبه بحنين غامر لأصدقائه ولجلسات المودة وللسان العربى الذى ماعاد يستخدمه إلا لماما، فإذا به يرى الأمير أحمد فؤاد جالسا على عرش مصر ملكا! صحا "إدريس" تتماوج بداخله مشاعر الفرح والشك وجلس بباب سيده ينتظر استيقاظه، وبمجرد نهوضه من فراشه اقترب منه وبشره بالرؤيا، ضحك الأمير استخفافا، فبينه وبين العرش ابنا أخويه الأمير كمال الدين ولى عهد السلطان حسين كامل والأمير محمد عبد المنعم ابن الخديوى عباس حلمى الثانى، ولأن الحلم كان شططا فقد جعل المكافأة شططا، وما دام جلوسه على العرش مستحيلا فليعد إدريس وعدا يضاهى رؤياه استحالة!
لم يكن الأمير أحمد فؤاد متابعا لما يدور فى مصر، لم يكن يعلم أن السلطان حسين كامل كان يقضى أقسى أيام حياته وأحزنها، بعد أن صارحه ولى عهده الأمير كمال الدين حسين برغبته فى التنازل عن ولاية العهد! احترق قلب السلطان، فقد عاش عمره يرعى وصول ابنه للعرش، ويبعد عنه كل ماقد يحول بينه وبين توليه حكم مصر، عاش السلطان حسين كامل تحت ضغط الخوف، وبقيت ذكرى عزل الإنجليز للخديوى عباس حلمى الثانى وضياع العرش منه ومن ولى عهده سيفا مسلطا على عنقه، احتمل تدخلات بريطانيا وإهاناتها له، ووافق أن يكون مجرد سلطان شبح لا دور له، ورضى أن يكون حكم مصر للمندوب السامى البريطانى وأن يكون هو مجرد متحدث بلسانه، تغاضى عن رأى المصريين فيه وأصم أذنيه عن كل مشورة تدعوه لممارسة سلطاته الحقيقية كحاكم للبلاد، كل هذا ليؤمن لولده وولى عهده وصولا آمنا للعرش، والآن يأتى الأمير كمال الدين معتذرا؟ لماذا إذن كانت كل هذه التنازلات؟ لماذا ضيع حق بلده الذى اؤتمن عليه؟ لماذا فرط فى كبريائه وكرامته وهيبته؟ لقد كان الطلب الوحيد الذى طلبه من بريطانيا حين اختاروه لتولى عرش مصر هو أن يكون ولده الأمير كمال الدين وليا لعهده! وهاهو ولده ينفر من العرش ويرسل له رسالة يقول فيها: "إنني مع إخلاصي التام لشخصكم الكريم وحكمكم الجليل مقتنع كل الاقتناع بأن بقائي على حالتى الآن يمكننى من خدمه بلادي بأكثر مما يمكن أن أخدمها به في أى حالة أخرى, لذلك أرجو من حسن تعاطفكم أن تأذنوا لي بالتنازل عن كل حق أو صفة أو دعوى في إرث عرش السلطنة المصرية بصفتى ابنكم الوحيد, وإني بهذه الصفه أقر الآن بتنازلي عن جميع ذلك وإننى لا أزال لعظمتكم السلطانية النجل المخلص والعبد الكثير الاحترام". نزلت رسالة الأمير كمال الدين على أبيه السلطان حسين كامل نزولا مميتا، فتدهورت حالته الصحية أكثر وأكثر، وتعلقت حياته بفحوى الردود التى يعود بها الرسل الذين أرسلهم للضغط على الأمير كمال الدين ليرجع عن قراره، لابد وأن يرجع، فهو الولد الوحيد وإخوته بنات، ووراثة العرش لأكبر الأبناء الذكور.
لم يكن الأمير أحمد فؤاد يتصور أن الشرط الذى علَّقَ به تحقيق وعده لإدريس لم يعد بعيدا، فالأقدار تأتى بالحدث وراء الحدث لتفتح أمامه الطريق لعرش مصر، ولم يكن يعلم أن الباخرة التى تعود به الآن لمصر لن تنزله أميرا كما غادرها منذ سنين عديدة وإنما ستنزله سلطانا.
مات السلطان حسين كامل ومازال ولى عهده الأمير كمال الدين ثابتا على موقفه رافضا الجلوس على كرسى السلطنة، ورغم أن المتبع فى نظام توارث العرش هو انتقاله لأكبر نسل محمد على سنا، ورغم أن الأمير محمد عبد المنعم ابن السلطان عباس حلمى الثانى كان هو الأكبر سنا، إلا أن عداء الإنجليز لأبيه _ الذى أيد تركيا فى حربها ضد انجلترا _ جعلهم يبعدونه عن العرش للمرة الثانية! وجئ بالأمير أحمد فؤاد سلطانا على مصر!
تحققت رؤيا "إدريس" الشماشرجى، وأطلت صورته من الجنيه المصرى، نموذجا جديدا للصبر والوفاء.. لتستمر الأيام فى مسيرتها الدائبة، ويكتب التاريخ صفحاته مابين صعود وهبوط.. ويبقى الجنيه المصرى ترجمانا لمصر وشعبها الطيب المكافح.... يروح الجمل الصبور ليأتى إدريس المصرى الوفى، يروح إدريس ويأتى أبو الهول المهيب الراصد، يروح أبو الهول ليأتى الأزهر المنير المعلم.... وتستمر مسيرة الجنيه "المصرى"!