الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم نافع قرقار يوسف طه

الهروب من غزة...

حتي اليوم لا أستطيع أن أعي ما جرى.

لا أشعر بجسدي الذي ينزف،لا أذكر ما فات من حياتي،لا أذكر سوي الوعد الذي كنت أسمعه ليل نهار من السياسيين اصدقائي عن الدولة الصهيونية القوية التي تحمي يهود العالم من الإضطهاد،هل تلاشت بعد الذي جرى؟؟

إنها ليلة صعبة قاسية على رجل مسؤول وصهيوني مثلي ولكن كيف خرجتُ الي النور مجدداً وكيف سأعود الي البيت وبأي وجه أعود؟

ماذا حدث تحديداً منذ انقض المُلثَّمون على كتيبتي في السابع من أكتوبر ...ماذا أرادو!!!

ولِمَ احتفظوا بنا أحياء داخل غزة!!

يقول العربي إنني وغيري من الأسرى بطاقة نجاة لعشرات الآلاف من أسرى فلسطين وإننا سنعود الي الوطن عما قريب عدا أن تَسعى الحكومة الصهيونية لحرق تلك الورقة وتصفيتنا بيدها! ترى الي أي مدى يكون كلامهُ صَادِقَ؟؟؟

مرتْ شهور على ذلك الحادث كما أخبرونا وكأنها أعوام لا تنتهي ورغم محاولتهم التخفيف عنا بالتودد واللطف إلا أن اللحظات داخل الأسر لا تمر أبداً حتي أنني كدتُ أن أفقد ذاكرتي واعصابي من تكرر الأيام والغارات وانقطاع الماء والكهرباء وانتظار قرار الإفراج عنا والذي يبدو سراباً مع زيادة التصعيد العسكري.

أذكر يوم الحادث وكأن ذاكرتي علِقت به، يوم اقتادوني بملابس الراحة من الكتيبة الي جوف العدو وكانت غزة صاخبة مُنتصرة، الأيادي تتخطَّفني من الفرحة وكأنها تنهشني، بالفعل تمزَّق قميصي من هول الزحام فتقدَّم أحد الجماهير وأوقف خاطفي عن الجري بي للحظة تلاقت فيها العيون،أسكتَ الجماهير بصوته الجهور ولمعرفتي المُتكسرة باللغة العربية أيقنتُ أنه ينهاهم عن تجاوز تعاليم الإسلام في معاملتي وفجأة خلع قميصه وألبسني إياه على عجل وغاب وسط الجماهير المهللة المُصفِقَّة لنصيحتهِ ،لن أنسى ملامحه أبداً...

لأول مرة أري غزة وجهاً لوجه،أرآها من الداخل من، من الأحشاء ،لطالما كان هذا المكان مثيراً للاهتمام والتحدي ولكني لم أتوقع أن أعيش لحظة كهذه فيه. كيف وقعتْ تلك اللحظة العجيبة ونحن المسيطرون علي أنفاسها ،كان علمي بالأحوال يبدد شعوري بالغربة أما اليوم فإن شعوري بها يزداد وكأنني لا أعرف عن هذا البلد شيئاً..أشعر بالجوع والبرد..

أين أهلي! إين إخوتي زوجتي وأبنائي! إين الحلفاء والاصدقاء والرابحون من وجودنا والعملاء...

الويل إن لم يقفوا بجانبنا في تلك الشِدَّة إنهم أحد اسباب تواجدنا هنا!

هل يمكن أن يعود الي الوطن كما كان. يجب أن أعود إليه أولاً! ولكن كيف!

في كل وجه قابلني يوم العاصفة رأيت الطموح والتوثب والانتصار، رأيت الوشاح المرعب يُغطي وجوه الأطفال،رأيت العيون الحادة الذهبية بلون قبة الصخر التي رأيتها فوق كل جدار..

أنهم لا يكترثون لِمَ يفعلون كأنهم لا يُريدون الا أن يعيشوا تلك اللحظة فحسب..

أما اليوم فانا أرى غزة مُدمَرة تماماً،أرى أشلاء لأطفال ولاجئين وقذائف تتساقط من السماء أنا نفسي كنت أبكي من هول صوتها واقترابه كل يوم من موقع احتجازي أخشي أن تقع فوق رأسي قذيفة وتنتابني بالمنام صور ما يمكن أن يحدث لرأسي وقتها. أرى كل شئ يدل علي الدمار ولكني لا أرى الانكسار لا أرى الندم لا أرى الخوف الذي أشعر به، بل إن كل ما أَراه من دمار يتبدد بمجرد إطلاق رشقة صاروخية تُضئ سَماء غزة وتُشعل الحناجر المتفرقة في كل مكان بالتكبير والتهليل والزغاريد...

تُري أي صورة أسبق من الأخرى؟؟ هذا الدمار أم السابع من أكتوبر... أيهم كان نتيجة للأخر!

أعود لأتساءل أنا الذي مكثتُ شهوراً في الأسر مع هؤلاء المُلثَّمين من يكونوا؟كيف قضوا علي الاستحكامات العسكرية وتفوقوا علي التكنولوجيا المتقدمة بأعوام ضوئية..إن الكاميرات مُسلَّطة على تلك المباني الاسمنتية المتلاصقة كالسجن ليل نهار لا تغفل عن مراقبتهم لحظه...من أين جَاؤا وماذا يريدون والي إي مدي كان هجومهم مؤثراً علي الوطن!

المفارقة أن كل تلك الاسئلة من المُفترض أن أُجيب عليها أنا المسؤول عن ذلك ولكن كيف وعقلي

لا يستطيع استيعاب ما جري أخر ما أتذكره في حياتي في إسرائيل هو مشهد الطائرات الشراعية وهي تقتحم أسوار الكتيبة من السماء، وهجوم مباغت وعنيف علي الاسوار وابراج المراقبة!

علي السياسيين أن يحلوا تلك المُعضلة بمزيد من المرونة والتنازل فقوة تغلب كل ما فعلناه من استحكامات جديرة بحل سلمي..

لطالما عرفتُ غزة،لطالما كسرتُ شوكتها، لطالما استمتَعتُ باغتيال قادتها ولكنى اليوم أواجه غزة أخري، غزة تحت الارض تتجهز من سنوات في جوف الظلام الي يوم البعث.

كيف لا يمَّل هؤلاء من محاولة قتلنا! وقد سمعتُ من قبل محاولة لهروب فلسطينيين من السجن بحفر خندق بالملاعق فأصابتني الدهشة من الإصرار والخُبث!

من أي طينة خُلق هؤلاء الملاعين! وباي طريقة يمكن التخلص منهم!

لماذا يبدون لنا الطيبة وحسن المعاملة،لقد تفوقوا ولهم مطلق الحرية في صنع أي شي لا لوم عليهم، لماذا يَظهرون بهذا اللطف لدرجة جعلتني أأسف لمقتلهم في الغارة وخاصة هذا الذي يتحدث العبرية بطلاقة وظل يسهر علي راحتي ومعالجتي وتشاجر مع رفاقه ليُحضرني الي المستشفى ولكنهم أخبروه بضرب الجيش الاسرائيلي لمحيطها واقتراب اقتحامه لها..فاضطر الي المحافظة علي حياتي بطريقته البدائية..

ولم يمر الكثير حتي وجدتُني انفض عن نفسي غبار القذيفة التي دمرت البيت علي الخاطفين وأبتسم ضاحكاً وأنا أتذكر قول المُلَّثم مُلاطِفاً من نوبة زعر أصابتني من صوت القذائف "أن اليهودي بسبعة أرواح فما بالك بالصهيوني."

وها أنا اتجول في غزة بحرية ولكن بخوف وحذر أشعر بالتيه بين الأزقة والأسواق العربية وكأنني إسرائيل ذاتها في مُحيطها الإسلامي العربي..

أفعل ما يفعله الجميع أمامي أري النازحين والخيام وأقرأ منشورات جيش الدفاع بضرورة الاخلاء!

أقف بجانب محل فلافل وأشير الي بطني وفمي فأُطعَم القليل..

أشعر بالتقزز من حمل بعض أجساد المرضي ولكني أفعل فالمنشورات كلها تتحدث عن اقتحام المستشفى وعلي التوجه اليها.

وفي المستشفى عالم أخر فوضي ولغط رجال ونساء واطفال يفترشون الطرقات بعضهم ممزق وبعضهم يدَّعي المرض ليهرب من الموت في الخارج..

وفجأة أنبثق من بين الوجوه وجه ذاك الرجل الذي صادفتُه أول مرة في زحام مماثل ..لقد مدّ لي يد العون وخفف من قبضة الرجال الحادة وأهداني قميصه الذي لازلتُ أرتديه وربما عرَّفني به فقبض علي عنقي فجأة وكأن عافيته رُدَّت اليه فضغطتُ علي عنقه بكوع يدي وغرست فيه المشرط القريب وهرولتُ مبتعداً...

قتلته ورغم ذلك كان الرعب يَقتُلني،حتي أنني خشيت أن يفضحني ارتباكي وانا أتخبط في أجساد الناس،أهرول خائفاً حذراً من عددهم المهول وأتقدم كالإعصار نحو الباب..ورأيت ممرض متكوماً على البوابة والطلقات في ظهره تُنذر بالموت لمن يقترب، ورغم أنه لم يكن أحداً ورائي إلا أنني شعرتْ أن كل غزة تُطاردني،لذا نزعتُ الروب الابيض الملطخ بالدم من الممرض وارتديتُه!

واقتحمت البوابة ونجوت بأعجوبة من الرصاص بالاحتماء بحاجز المدخل ورأيتُ من خلف البوابة الزجاجية الرجال ينظرون الي بفخر بل صفَّق بعضهم لي وأخرج أحدهم هاتفه الجوال ليصَّور بطولتي ،كانوا يظنون أنني متوجَّه الي سيارة الاسعاف لإحضار المريض العالق،وأَرتدي الروب الابيض للاحتماء به من الرصاص ،أي حماقة لهؤلاء المنتظرين للمخلص!! ومن يكون هذا المُخَلَّص. أنا!!!

وجدتُ قلماً في روب الممرض وورقة كرتونية علي الأرض كَتبتُ عليها إسمي ورتبتي بالعبرية ورفعتُها بطول ذراعي ومضيتُ بخطوات بطيئة،كانت الدبابات تَظهر أمامي ولم يُثنيني تفجير سيارة الاسعاف عن التقدُّم نَحوها وفي لحظة من النشوة ابتسمتُ مع توقف الطلقات النارية عن استهدافي ومضيتُ بخطواتٍ أقل خفوتاً من خفقات قلبي المنتشي بحلاوة النجاة مضيتُ ألهثُ وأسرع الخطي والجنود يرسلون تحذيرات مترددة ولكن فجأة انبعثت مُسيَّرة من العَدم،هبطتْ فوق رأسي فَلوحتُ لها باللوحة ولكنها علي ذكائها لم تتجاوب معي عاطفياً كالجنود، أطلقتْ النار بألية ساخرة فَسقطتُ علي ظهري ثم الى جانبي أتلّمسُ النجاة من الضفة الأخرى ،ألتقطُ أنفاسي كالذبيحة فوق بركة من دمي والغريب أن في الجهة المُقَابلَّة كانت هناك عيون تبكي وأخري تترقب والبعض يحاول مساعدتي ويكافح لانتشالي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى