الموشحات تراث شعري اختفى الآن
يعتقد أن الموشح فن نشأ في المشرق ولكنه تطور في المغرب وبلغ ذروته في القرنين السابع والثامن للهجرة، فيما يرى اَخرون أنه ظهر أول ما ظهر في العراق، وان أول موشحة في تاريخ الأدب العربي هي موشحة (أيها الساقي):
أيها الساقي إليك المشتكى | |
قد دعوناك وإن لم تسمع | |
ونديمٍ همت في غرته | |
وبشرب الراح من راحته | |
كلما استيقظ من سكرته | |
جذب الزق اليه واتكا | |
وسقاني أربَعا في أربَع | |
غصن بان مال من حيث ألتوى | |
بات من يهواه من فرط الجوى | |
خفق الأحشاء مرهون القوى | |
كلما فكر في البين بكى ويحه يبكى لما لم يقع | |
ليس لي صبر ولا لي جلد | |
يالقومي عذلوا وأجتهدوا | |
أنكروا شكواي مما أجد | |
مثل حالي حقه أن يشتكي كمد اليأس وذل الطمع | |
كبد حري ودمه يكف | |
يذرف الدمع ولا ينذرف | |
ايها المعرض عما أصف | |
قد نما حبي بقلبي وزكا لا تقل في الحب أني مدعي |
وهذه الموشحة نسبت في بعض الأحايين لعبد الله بن المعتز (المتوفي 295 هـ) وهو شاعر عباسي لا علاقة له بالاندلس.
لا يوجد أي دليل يؤكد مصدر نشأة الموشحات إلا أنه يرجح أن يكون القرن الثالث الهجري تاريخا له بدليل ظهوره في القرن الرابع بالتحديد في الاندلس
اشتقت كلمة الموشح من المعنى العام للتزيين سواء كان ذلك وشاحا أم قلادة أم غير ذلك، واستعملت الكلمة في أحايين كثيرة للتعبير عن بعض المعاني البلاغية، وهي تدل على قالب من قوالب الشعر العربي عرف باسم الموشحات أو التوشيح أو الموشح وعرف ناظمه باسم الوشاح، ولم يذكر لنا التاريخ أن أحد الشعراء اقتصر ابداعة على الموشحات فقط
والآراء حول النشأة الاندلسية للموشحات أكثر من أن تحصى لكن ليس معنى هذا أن الموشحات ظاهرة مستقلة لا علاقة لها بالشعر العربي فمؤلفو الموشحات أولا وأخيرا شعراء عرب وهذه حقيقة لم ينكرها حتى المستشرقون المنادون بأن الموشحات عناصر أسبانية محلية.
وقد قسم ابن سينا الملك في كتابه (دار الطراز) الموشحات إلى قسمين الأول: ما بني على أوزان شعر العرب، والثاني: ما لا علاقة له بهذه الأوزان.
مابني على أشعار العرب من الموشحات ينقسم بدوره إلى قسمين الأول/ ليس فيه من حيث الوزن عن الشعر العادي وهو أشبه بالمخمسات منه بالموشحات ولا يفعله إلا الضعفاء من الشعراء، القسم الثاني فهو ما يتخلله قفل أو بيت أو حركة تخرجه عن أن يكون شعرا صرفا وقرضا محضا.
أما الموشحات التي لا تجيء على أوزان شعر العرب وأمرها ولا شك أكثر تعقيدا وهو يمثل الكثرة الغالبة من الموشحات، ومن الصعب ايجاد عروضا لهذا النمط من الموشحات، فعروضه لا يمكن ضبطها إلا من خلال التلحين والغناء.
تتميز الموشحات بأنها مكتوبة بلغة صحيحة تتفق مع قواعد اللغة العربية في نفس الوقت تتسم بالسلاسة والوضوح والعذوبة ومن النادر أن تجد كلمة صعبة الفهم في الموشح
غني عن القول أن الموشحات الاندلسية امتدادا لما سار عليه الشعراء المحدثون من أمثال أبي نواس وأبي العتاهية وابن المعتز، والموشحات الأندلسية بحكم قالبها الجديد وموضوعاتها وغنائيتها كانت في غنى عن الديباجة الفاخرة والأساليب الفظة التي تتسم بطابع البداوة فجاءت بصورة عامة بعيدة عن المحسنات البديعية والألاعيب اللفظية.
وكان أهمية ظهور الموشحات الأندلسية في الحفاظ على اللغة العربية الفصحى، وحالت دون انتشار العامية وجعلت للزجل مكانة ثانوية في الأدب على الرغم من أن بيئة الأندلس كانت تغري بإضعاف مكانة القصحى لأنها تتركب إلى جانب الجنس العربي من عناصر بشرية أيبيرية وبربرية ويهودية ووو... غيرها.
أقدم الموشحات المعروفة لنا تعود إلى القرن الخامس الهجري، وارتبطت أغلب الآراء على أن الموشحات ارتبطت منذ أطوارها الأولى بالموسيقى والغناء ومن الطبيعي أن تكون الموضوعات ذائعة الصيت ذات صلة بالوصف والحنين والخمريات ثم تدخل مرحلة معالجة الفنون التقليدية الآخرى من مديح وهجاء ورثاء وشعر ديني و...غيرها.
وكان لانتقال متصوفة المغرب من أمثال ابن عربي والششتري إلى المشرق أثره البعيد في انتشار هذا اللون من الموشحات الصوفية في كل أنحاء العالم الإسلامي وإلى تغلغله في أوساط الشعب حتى أصبحت كلمة التوشيح مرتبطة في الأذهان بالأناشيد الدينية والصوفية.
لعل الموشحات أهم الأشكال التي تفتقت عنها القريحة العربية، في سعيها الحثيث نحو الابتكار والتجديد فقد ظهرت قبلها وواكبتها ألوان آخرى متنوعة بالفصحى والعامية، مثل ما يطلق عليه اسم المسمطات والدوبيت... الخ، لكن الكثير منها انطوت صفحته منذ أمد بعيد، أو عاش مغمورا الشأن ضئيل الأثر، أما الموشحات فإنها ازدادت مع الأيام تألقا، وشمل تأثيرها العالم العربي كله بل والأكثر من ذلك أنها تعدت نطاق العالم العربي، وظهر على غرارها موشحات بالعبرية، فضلا عن أن جمهرة من علماء الغرب تذهب إلى أن الموشحات والأزجال تمثل الركيزة التي بنيت على أساسها أغاني التروبادور.
ويقول د. محمد زكريا عناني في كتابة عن الموشحات الأندلسية: "الموشحات في واقع الأمر فن أندلسي خالص، بمعنى أنه لم يعرف في صورته الناضجة المكتملة إلا على أرض الأندلس، وليس في هذا الرأي ما يتعارض والقول بأن هناك أعمالا ظهرت بالمشرق، يعدونها بمثابة التمهيد لظهور هذا اللون الأدبي الجديد، الذي ظهر في أواخر القرن الثالث الهجري على يد شعراء مثل (محمد بن محمود القبري)، (مقدم بن معافي).
ويقال أن أول من صنع هذه الموشحات محمد بن محمود القبري الضرير، كان يصنعها على أشطار من الأشعار.
يواصل د. محمد زكريا عناني في كتابة عن الموشحات الأندلسية :"وصل فن الموشحات إلى قمة تمامه في القرن السادس الهجري وقد احتفظت مجموعات مختلفة مثل (دار الطراز) و(توشيع التوشيح) و(جيش التوشيح) بقدر وفير من النصوص الجميلة التي تنتمي لهذه الفترة.وتجيء مرحلة تالية في القرن السابع الهجري تبدأ فيها الموشحات الصوفية في التدفق وتظهر هنا وهناك بعض سمات الخروج عن القواعد المتفق عليها على أن التقاليد الأصلية تظل مائلة عند عدد من المبرزين في التوشيح، مثل ابن سهل الأشبيلي صاحب النص المعروف
هل درى ظبي الجمى أن قد حمى | قلب صب حلة عن مكنس |
وصاحب موشحة (رحب بضيف الأنس) التي لم تشتهر شهرة (هل درى)، مع ذلك فإنها لا تقل عنها جمالا، فضلا عن أنها تخلف في النفس أثرا يشبه من بعض الوجوه ما تخلفه قراءة (رباعيات الخيام) من أصداء وعبق وحرارة".
واستمر فن الموشحات على أرض الأندلس زهاء خمسة قرون، وكان آخرها سنة 898 هـ بانتهاء الهيمنة الإسلامية على آخر مدينة أندلسية في غرناطة، وهكذا يقدر لأصداء الموشحات أن ترتحل بعيدا عن أجواء الحمراء وغرناطة، كما ارتحلت من قبل عن قرطبة وأشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الأندلس.
انتقلت الموشحات من غرناطة الى سوريا ولبنان ومصر، وكان أول الناظمين للموشح في مصر هو (ابن سناء الملك) في القرن السادس الهجري، فأقبل المصريون عليها وعلى غنائها حتى وصل الموشح الغنائي قمته في مصر على يد محمد عثمان، ولابن سناء الملك مخطوط بعنوان "دار الطراز في عمل الموشحات"، وهو أهم مرجع مدون به الكثير من فن الموشحات، ولقد أطلق اسم "الصهبجية" على حفظة الموشحات من المصريين الذين كانوا يجلسون في دائرة يتوسطهم ضابط الإيقاع عازف الدف، وهو الرئيس، وكانوا يقدمون عروضهم الغنائية (الموشحات) في المقاهي والحفلات.
فى أواسط القرن التاسع عشر وصلت الموشحات إلى مجموعة من الفنانين الموهوبين لم يقتصروا على حفظ القديم بل جددوا وأضافوا إليه، فظهرت موشحات جديدة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ومن هؤلاء محمد عثمان ملحن ملا الكاسات الذى ساهمت ألحانه القوية واهتمامه بضبط الأداء مع صوت عبده الحامولى الذى وصف بالمعجزة فى انتقال الموشحات من الأوساط الشعبية إلى القصور وأصبح الموشح جزءا أساسيا من الوصلات الغنائية، واستمر هذا التقليد حتى أوائل القرن العشرين حينما ظهرت باقة من الموهوبين أضافت إلى الموشحات مثل سلامة حجازى وداود حسنى وكامل الخلعى، حتى وصل إلى سيد درويش فأبدع عدة موشحات كانت بمثابة قمة جديدة وصل إليها هذا الفن، لكن المفارقة الكبرى تمثلت فى أن سيد درويش نفسه كان كخط النهاية فلم تظهر بعده موشحات تذكر
أعيد غناء الموشحات فى أواخر الستينات من القرن العشرين كمادة تراثية عن طريق فرق إحياء التراث التى بدأت بفرقتين هما فرقة الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة فى القاهرة وكورال سيد درويش بقيادة محمد عفيفى بالإسكندرية، ثم ظهرت فرق أخرى كثيرة فى موجة قوية لاستعادة التراث خلقت جمهورا جديدا من محبى الموشحات والفن القديم، كما غنى الموشحات بعد ذلك مطربون فرادى مثل صباح فخرى وفيروز وظهرت أجزاء من موشحات كمقدمات لأغانى عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وآخرين مثل كامل الأوصاف لحن محمد الموجى وقدك المياس والعيون الكواحل وغيرها