المحظورات والانطلاق الفكرى والتقدم
ليس من المقصود ان يكون المكان الذى يولد الانسان فيه سجنا. لا يقصد أن يكون الوليد سجينا. يولد الوليد لينفتح على ما حوله، على العالم الأوسع. المولد بوابة الانفتاح على العالم المحيط. ولعله ليس اخطر على الانسان وحياته وكيانه من الانطواء والجمود على الصعيد الفكرى. ولا يتحقق انفتاح الانسان على العالم الا اذا تفاعل وتحاور معه. ولا يحدث هذا التحاور الا اذا كان حديثه وكتابته عن نفسه وحياته صريحين خاليين من التردد والخوف، معبرين عن شعوره وعاطفته الحقيقيين دون مواربة. لا يتحقق الانفتاح الفكرى بالنفاق ووضع القناع على الوجه. يتحقق الانفتاح الفكرى برؤية الأشياء كما هى، برؤيتها عارية مثل أشعة الشمس وتدفق الشذا، برؤيتها على حالتها الطبيعية.
ويتنافى الانفتاح الفكرى مع الزيف والغموض. ومن الطيب الخروج عن المألوف الذى يقر حالات الانغلاق الفكرى والجمود الفكرى وانعدام النقد الفكرى ويقويها ويديمها. ومن الطيب الخروج عن المألوف الذى يشل الانطلاق الفكرى والإبداع الفكرى والذى لا يعى وجود تعدد الخيارات والبدائل الفكرية والعملية. ومن الطيب الخروج عن المألوف الذى قد يظن انه توجد قراءة واحدة للاحوال والتطورات والذى يفرض قراءته الواحدة على شرائح الشعب ويطارد قراءات أخرى.
وللرضى عن الذات مخاطر. قد يشى هذا الرضى بوجود الجهل والانغلاق. وقد يغرى هذا الرضى بالانغلاق الفكرى أو قد يدل عليه. والخروج عن المألوف تجل للاستقلال الفكرى والانطلاق النفسى وتأكيد للذات ودلالة على حيوية البشر. الفرد الحى هو الفرد الذى يؤكد ذاته بثقة وجرأة. الشعب الذى لا يؤكد ذاته ولا يجرؤ على ذلك ولا يعرف ذلك شعب ضعيف لا قبل له بمواجهة التهديدات الخارجية. والفرد والشعب اللذان يكيفان ويخضعان فكرهما وتفسيراتهما لمستلزماتهما الحياتية لما هو مألوف فرد وشعب لا يحسنان الدفاع عن نفسيهما لأن سلوك أفراد وشعوب أخرى خارجا عن المألوف من شأنه ان يوفر لأولئك الأفراد ولتلك الشعوب معرفة بدائل وخيارات فكرية وعملية اكثر واستعمالها، وبهذه المعرفة والاستعمال تؤكد تلك الشعوب ذاتها وتحقق ارادتها التى قد تكون على حساب الشعوب اسيرة المألوف.
الاكتفاء بالمألوف والرضى به ضيق فكرى لان هذا الاكتفاء والرضى يعنيان اللامبالاة برؤى اخرى موجودة غير ذلك المألوف، وعدم مراعاة الرؤى الاخرى فى التفكير والعمل. والاكتفاء بالمألوف والرضى به انغلاق فكرى لان الاكتفاء والرضى هذين يعنيان بنيويا ووظيفيا عدم تجاوز حدود ذلك الاكتفاء.
وكثرة المحظورات فى مجتمع من المجتمعات تدل على قوة اتجاه المجتمع نحو الانغلاق الفكرى والعاطفى. والمجتمع الأكثر انفتاحا أو الأقل انغلاقا تقل فيه المحظورات. والمجتمع الذى تقل فيه المحظورات يكون مجتمعا اقرب الى الحالة الطبيعية واقرب الى ممارسة الحرية واقرب الى الانفتاح الفكرى وتكون فردية الانسان فيه اقوى واكثر اصالة، لان روح الطبيعة ترفض الحظر ولان الحظر مناف للحرية ومقيد للفكر، ولان الحظر تدخل واضح فى إدارة الانسان لحياته، وبالتالى يمس بفردية الانسان.
وأخاف على أفكارى ومشاعرى من الانغلاق والجمود الفكريين اللذين يغتالان تلك الافكار والمشاعر. والاستعداد الذهنى النفسى للخروج عن المألوف ظاهرة طيبة، حتى لو لم يؤد هذا الاستعداد الى الخروج عنه.
ومن الاغراض الأهم للانظمة والمؤسسات الاجتماعية فى مجالات مختلفة تمكين البشر من ان يديروا شؤون حياتهم وتسهيل هذه الادارة. ولدى هذه الانظمة والمؤسسات فى العالم برمته نزعة إلى تجاوز أغراض وجودها. فى كل المجتمعات البشرية تتجاوز فعلا تلك الانظمة والمؤسسات الغرضين المذكورين. تطغى تلك المؤسسات والانظمة على مجالات لا تقع فى نطاق تمكين البشر من ادارة حياتهم وتسهيل تلك الادارة. والمجتمعات تختلف بعضها عن بعض فى مدى التزام تلك المؤسسات والانظمة باغراضها وفى مدى تجاوزها تلك الاغراض الى اغراض اخرى. وفى المجتمعات البشرية كافة، وربما على وجه الخصوص فى البلدان النامية، تجاوزت تلك المؤسسات والانظمة اغراض وجودها الى التدخل فى النشاط الفكرى والعملى والى قيامها بتكييف النظام القيمى للانسان والى حظر كثير من النشاطات ووجوه السلوك على الصعيدين الفكرى والعملى.
ولا مانع فى اعتقادى من أن يتمتع الانسان بوجوه المسرة والبهجة ما دامت هذه كائنة فى الاطار الذى يجيزه النظام القيمى السائد. والمبالغة فى الحظر تجعل هذه المسرة والبهجة اقل مما يستلزمه وضع الانظمة والمؤسسات الاجتماعية لتسهيل ادارة البشر لحياتهم.
ولدى الانسان بطبيعته نزعة الى الحرية والى ان يكون سلوكه اقل تقيدا والى ان يحقق ذاته وفرديته. والطبيعة كما هو معروف قوية جدا. انها اقوى من التطبع ومن القيود غير الطبيعية. وفى أحيان وحالات كثيرة لا يستطيع الانسان بحكم طبيعته ان يتقيد بعدد من القيود الاجتماعية، وخصوصا القيود التى لا يعتقد هو بصحتها. وبالتالى قد لا يراعى هذه القيود سرا او علانية. وقد يوجد عدم المراعاة هذا تأنيبا للضمير لدى الانسان. والمجتمعات التى تنشأ فيها هذه الحالة مجتمعات تؤنب افرادها ضمائرهم، وقد لا يكون افرادها متماسكى الشخصية. قد يكونون منشطرى الشخصية. سرهم ليس علانيتهم. هذا مجتمع كثير من افراده محتارون وساخرون. هذه حالة قد تؤدى ببعضهم إلى الممالأة والمجاراة الكاذبة والمسايرة والمجاملة الكاذبة.
ولتخليص أفراد المجتمع من هذه الورطة النفسية والمعضلة السلوكية يجب تقليل المحظورات التى لا حاجة إليها اجتماعيا وقيميا وثقافيا وتجب العودة بالانظمة والمؤسسات الاجتماعية الى أداء وظيفتها الأصلية وهى تسهيل إدارة البشر لشؤون حياتهم، أى يجب أن ينشأ تطابق او على الاقل تقريب بين المحظورات وغرض الانظمة والمؤسسات الاجتماعية.
ومما له صلة بالانطلاق والابداع الفكريين والخروج عن المألوف تفسيرنا او قراءتنا للمفاهيم الاجتماعية والثقافية السائدة. مما من شأنه ان يحقق سلاسة العلاقات الاجتماعية القيام بالتحديد الدقيق لتلك المفاهيم. وحتى يكون من الممكن للذين يريدون ان يراعوا مفاهيم مقبولة اجتماعيا وثقافيا وهم يريدون ان ينطلقوا فكريا من اللازم تعريف تلك المفاهيم.
والمحافظة الفكرية لا تتمشى مع الانفتاح والانطلاق والابداع فى المجال الفكرى. ومرد هذا القول هو ان المحافظة الفكرية ليست لديها نزعة الى التحليق الفكرى والخيال الفكرى الجامح وارتياد الفضاء الفكرى. فالمحافظة الفكرية بطبيعتها تسعى الى المحافظة على ما هو موجود من الفكر بينما يكمن فى طبيعة الانفتاح والانطلاق والابداع فى المجال الفكرى تجديد الفكر وتوسيع نطاقه وتغيير الفكر القائم الذى لم يعد لازما من منظور قيم الشعب وحاجاته. ويعنى ذلك أن المحافظة الفكرية تعيق عملية التغيير الفكرى.