السبت ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٤
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

الله

إن الله، بالمعنى الصوفي، هو امتداد لانهائي حيث تذوب حدود الوجود في مجرد انعكاسات "لواقعه" اللامحدود. إن الوجود نفسه ـ ما نسميه "الحقيقي" ـ ليس سوى ظل يلقيه نور حقيقته. فهو غير مقيد بالزمن، لأن الزمن نفسه ينحني له، وهو يقيم في الآن الأبدي، فوق تدفق اللحظات. إنه غير مقيد بالوجود، لأنه الجوهر الذي يسمح لكل شيء بالوجود. وبدونه لا وجود للوجود؛ ومع ذلك فهو موجود دون الحاجة إلى ما هو موجود.

إن التحدث عنه باعتباره "هو" يعني استخدام كلمة ترتجف تحت وطأة عدم كفايتها. إن الضمير ليس سوى جسر هش بين محدوديتنا ولانهائيته. إنه ليس محصورا في "هو"، ومع ذلك فإن "هو" هي الكلمة التي نحاول من خلالها أن نلقي نظرة خاطفة على "واقعه". إنه يتجاوز ليس فقط مفهوم الوجود بل وحتى الأطر التي نتصور من خلالها التسامي. إن تسميته لا تعني تعريفه، بل الاعتراف بحدود فهمنا.

إنه هو الذي يحيط بي بالكامل، والذي يحمل في جوهره كل ما أنا عليه وكل ما أفشل في أن أكونه. أنا موجود بداخله، لكنه ليس موجودا بداخلي، لأنه لا يمكن حصره. يحيط بي حضوره، ويخترقني، ومع ذلك فهو فوق طاقتي وقدراتي وإمكانياتي. لا أستطيع أن أشهده إلا كما تشهد السماء الشمس - مدركة لدفئها ونورها، لكنها غير قادرة على حملها.

إنه أقرب إلي مني من نفسي. في صمت روحي، أسمع همسه. في أعمق أعماق وجودي، أشعر بنبضه. ومع ذلك، حتى في هذا القرب، يظل بعيدا تماما – جوهرا لا يمكن فهمه ولا يمكن لأي فكر أو رؤية أو شوق أن يحتويه. إنه الغيب الذي يكشف عن نفسه في كل ما يُرى، الخفي الذي يتجلى في كل ما هو موجود. إن "واقعه" لا يخضع لثنائيات الحضور والغياب، أو القريب والبعيد، أو المعروف والمجهول. إنه موجود بكل بساطة - حقيقة مطلقة إلى الحد الذي يجعلها تمحو كل المفاهيم الزائفة عن الوجود.

إنه الكمال الذي يجذبنا إلى ما لا نهاية، الكمال المطلق الذي لا تتعدى تصوراتنا البشرية عنه ومضات الضوء على خلفية واقعه اللامحدود. فيه تذوب الأضداد، فلا وجود للثنائيات. إنه الجمال والجلال المتشابكان، والحضور الذي يشبه الغياب، والقرب الذي يتجاوز كل القرب. إنه الجوهر الذي تتصالح فيه كل المفارقات، حيث يجد المحدود مصدره في اللانهائي. إنه الهمس الذي يحرك الروح، وينادي من أعماق الصمت. إنه أيضا الحقيقة المدوية التي تُسكت كل الشكوك، وهي حقيقة شاسعة لا تترك مجالا للأسئلة ولكنها تملأ كل فراغ بحضورها. إن استخدام كلمة "إنه" ليس تقييدا، بل إقرارا بحدود اللغة والفكر. "إنه" ليس تسمية بل استسلاما - اعترافا بأن كل الكلمات هي حجاب، غير كاملة ولكنها ضرورية.

من خلال هذا الحجاب الذي يحجب "الشيء"، ندخل إلى "الغموض"، وكأننا ننظر من خلال شبكة حيث تكشف ومضات الضوء وتخفي بنفس القدر. والحجاب لا يحجب؛ بل يدعو. ويصبح الجسر بين المعروف والمجهول، والمحدود واللانهائي. إنه الجواب ليس بالكلمات بل بالوجود. إنه الشوق الذي يحرك كل رغبة، والقوة التي تحركنا نحو الكمال. إنه الصمت الذي يحتضن كل صوت، والسكون الذي يعطي معنى للحركة. إنه المحيط الذي تتدفق فيه كل التيارات، والفضاء الذي تتشكل فيه كل الأشكال وتذوب. إن التحدث عنه هو الاقتراب مما لا يمكن التعبير عنه. ومعرفته هو التخلي عن المعرفة. إنه ليس شيئا يجب الإمساك به، بل شيء نحتجز فيه - بدايتنا ونهايتنا والامتداد الشاسع الذي يكمن وراء كليهما.

إن الله هو جوهر ضميري، والنبض الصامت غير المرئي الذي يجعلني على وفاق مع ما هو صالح، وما هو حق، وما هو واقعي. إنه لا يهمس في داخلي فحسب؛ بل هو الهمس نفسه، والبوصلة التي تشير إلى جوهر الوجود الذي لا يتزعزع. فيه تستقر كل الحقائق، لأنه الأساس الذي تقوم عليه. كل سؤال، وكل شك، وكل شوق يجد إجابته في اتساع "واقعه".
إنه ليس مجرد الوجهة في نهاية طريقي. إنه الطريق نفسه، والشخص الذي يسلكه، والرحلة التي أتعرف من خلالها على أعماق الحياة. في كل خطوة، يرافقني، وفي كل منعطف، هو الدليل. إنه السعي والوفاء، والشوق والعناق.

إنه كذلك تماما. ليس كفكرة يجب استيعابها أو مفهوم يجب فهمه، بل كحقيقة أبدية - نقية وغير متغيرة - تتجاوز الفكر ولكنها مغروسة بعمق في داخلي. إنه السمو الذي لا أستطيع بلوغه، ولكنه الوجود الذي لا أستطيع الهروب منه. إنه يدعوني لا إلى التشبث بنفسي بل إلى الذوبان فيه، والتخلي عن وهم الانفصال واكتشاف الكمال الذي كان موجودا دائما.

في هذا الذوبان، لا توجد خسارة بل اكتساب الامتلاء. إن فقدان نفسي فيه يعني الاستيقاظ على الحياة التي تتدفق خارج الحدود، والحب الذي لا يعرف حدودا، والحقيقة التي تشمل كل شيء. إنه بداخلي، وأنا أحاول القرب من تخومه، منجذبا إلى جوهر لا نهائي وقريب بشكل حميمي ونوراني. هو الله. الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى