القيامة الكبرى
بك الغوثُ يا قهّارُ من شرِّ صيحةٍ
بها الأرضُ والشّمُّ الرواسي تُزلزَلُ
ويندكّ فوق الأرض صُلبُ جبالِها
فتغدو كثيباً من رمالٍ تَهيَّلُ
وكالعِهنِ منفوشاً يصير نثيرُها
الى تُرب قاعٍ صفصفٍ تتحوّلُ
وبالنسفِ يُرمى في السماء هباؤها
لأقصى فضاءٍ في المجاهل يَرحلُ
تُفتُّ بعصْف الصُّور فتّاً صخورُها
فتبدو كما يبدو السرابُ ويَشكُلُ
فلا هَمَلايا بعدُ يبقى شموخُها
ولا بارتفاعٍ إيفرسْتُ يُبجّلُ
ويُخرج هزُّ الأرضِ أثقالَ بطنِها
ويَهوي خفيفاً كلُّ ما كان يَثقُلُ
فتنهار أركانُ القصورِ ذليلةً
وتنحطّ أبراجُ الملوكِ وتسفُلُ
ومِن ناطحات السُّحْب تنهدُّ عُمْدُها
فليس يُرى منها بناءٌ وهيكلُ
يُدمّر عصفُ الصّور ما كان قائماً
فمِن شامخٍ راسٍ اذا هو خردَلُ
وتلتهم النيرانُ كلَّ مُحطَّمٍ
تُفرقِعهُ في جَوفِها حين تأكلُ
فلا شجَرٌ يبقى نضيراً بزهرهِ
ولا ورَقٌ إلا يهيج ويذبُلُ
ولا عُشبةٌ في الأرض يُرجى نَماؤها
ولا حبّةٌ منها نباتٌ وسُنبُلُ
ولا طيرَ في عشٍّ يظلّ بمأمنٍ
ولا وحشَ تحميهِ صحارٍ ومعزِلُ
وكلُّ نبات الأرض بعد احتراقهِ
يؤول رماداً فوقها يتنقّلُ
فليس على وجه البسيطةِ حاجبٌ
لآفاقِها إلا دخانٌ وقسطلُ
بأمواج نيرانٍ تفيض بحارُها
مفجَّرةَ الأعماقِ تغلي وتُشعَلُ
مُسجَّرةً في لُجّها وضِفافِها
فليس لديها ذو حياةٍ يؤمَّلُ
ترى أعظمَ الحيتانِ فتكاً وقوّةً
يصير صهيراً في لظاها يُحلَّلُ
وتنقلبُ الفُلْكُ العظيمةُ ذرّةً
من الملْحِ يُفنيها على الفور مِرجَلُ
وتنشقّ بالهَول السماءُ فلا تني
تمور كمُهْلٍ بالصواعق تَهطلُ
تُكوَّر فيها الشمسُ حتى كأنها
عِمامةُ رأسٍ بالسواد يُكلّلُ
وتُطوى كما تَطوي السماواتِ فوقها
يمينُ إله الكون تُفني وتُبدِلُ
فلا قمرٌ يبقى منيراً بجوِّها
ولا أنجمٌ إلا تغورُ وتأفُلُ
ويغدو نهارُ الأرض ضوءَ حرائقٍ
وما دونها ليلٌ على الأرض ألْيَلُ
وتُنثر في عمق الفضاء كواكبٌ
تُقلَّع من أفلاكِها وتُزيَّلُ
وتنكدر الأجرامُ بالصّدْم بينها
يُعاد بها خلْقٌ من البدْء أوّلُ
وذلك يومٌ يَكرِث الناسَ هَولُهُ
تراهم سُكارى دون خمرٍ تبلبلوا
يفرّون من رعبٍ الى غير مَخرجٍ
كأنّ حصيفَ العقلِ فيهمْ مُخبَّلُ
فتُصرَف أمٌّ عن عزيز فؤادِها
وعن صدرِها تُقصي الرضيعَ وتذهلُ
ومِن كلِّ ذات الحَمل يسقط حَملُها
وكلُّ عِشارٍ في حِماها تُعطَّلُ
وكلُّ أخٍ ينسى أخاه لِهمّهِ
وكلُّ أبٍ عمّنْ يربّيهِ يُشغَلُ
فما عاد ما بين الأخلّاءِ خُلّةٌ
ولا عاد مِن فقْد الأحبّاءِ مُثكَلُ
لكلّ امرئٍ شأنٌ يُعنّيهِ ثِقلُهُ
وكلٌّ الى بابِ الخلاصِ مُهروِلُ
ومن نفخةِ الصُّور المهُولةِ عصفُها
به كلُّ حيٍّ لا محالةَ يُقتَلُ
ويَصرع سكّانَ السماواتِ صعقُها
مع الأرضِ إلا مَنْ له الربُّ يُمهِلُ
ومِنْ بعدُ لا يبقى سوى اللهِ وحدَهُ
لهُ المُلْكُ فرداً فيه ما شاء يَفصِلُ
فلا ملَكٌ يبقى وإنْ كان مُكرَماً
أميناً لدى القدّوسِ بالأمر يُرسَلُ
أو اختاره ذو العرشِ مِن فضلِ قوّةٍ
لحملِ جليل العرشِ ما عنه يَكسَلُ
أو اختصّه بالموت للروح قابضاً
سريعاً اذا آن الكتابُ المؤجَّلُ
أو اختاره أهلاً لتوزيع رزقهِ
وبالنّبت والغيثِ المَسوق مُوكَّلُ
أو اختصّه بالصُّور ساعةَ نفخهِ
الى ساحةِ البعثِ الخلائقُ تُرقِلُ
ولا جِنَّ باقٍ من خبيثٍ وطيِّبٍ
وفي الانسِ معدومٌ كريمٌ وأرذَلُ
فلا شئَ غيرَ اللهِ يبقى بوجههِ
وكلٌّ سوى القهّارِ يفنى ويَبطُلُ
برى عالمَ الدنيا لِيبلوَ أهلَها
وعالَمَ أخرى للمجازاةِ يَجعلُ
يُعيد بناءَ الكَوْن بعد فنائهِ
جديداً لقانون البقاءِ يؤهّلُ
بقبضتهِ للأرضِ يحمي ودائعاً
حوتْها فما من ذرّةٍ عنه تنصُلُ
ويَمخَضُها مخضَ السِّقاءِ بِوابلٍ
غزيرٍ لِطينِ الآدميينَ يَعزِلُ
ومن بذرِهم تنمو حثيثاً جسومُهم
على صوَر الدنيا تُسوّى وتُكمَلُ
ومن نفخةٍ بالصُّور أخرى هديرُها
تعود به الأرواحُ أحياءَ تجفلُ
تحُلّ حِمى الأجسادِ كلٌّ بشخصهِ
ولا روحَ منها عن حِماهُ يُضلّلُ
يُشقّ أديمُ الأرض عن كلّ ميّتٍ
فينهض حيّاً بالنّداء ويَمثُلُ
ويأخذ ضبعَيْهِ مَلاكانِ سائقٌ
وثانٍ شهيدٌ بالّذي كان يعملُ
فيأتون زحفاً كالجراد نُشورُهم
حُفاةً عُراةً غيرَ أكفانَ تُسدَلُ
بلايينُ لا يُحصي سوى الله عدَّهم
فمُذْ آدمٍ حتى القيامةِ أقبلوا
وأبصارُهم نحوَ السماءِ شواخصٌ
وأكبادُهم بالهول حَرّى تَململُ
وأصواتُ منهم بالثبورِ نحيبُها
وأصواتُ منهم بالدّعاء تَوسَّلُ
وأجسادُهم بالرّعب ترجُف خُشَّعاً
وما عاد ذو لُبٍّ لما حَلَّ يعقِلُ
فما تحتهم أرضٌ كسابق عهدِها
ولا فوقهم تلك السماءُ تُظلِّلُ
حَيارى بما يجري يُجيلون طرفَهم
وكلٌّ الى صوت المناداة يَنسِلُ
بأفئدةٍ طارتْ هواءً لرُعبِها
فليس لها عزمٌ عليهِ مُعَوَّلُ
تكاد لفَرط الخوف يرمي وجيبُها
بأضلاعِهم أرضاً تُداس وتُركَلُ
تروم فراراً من خلال حُلوقِهم
وبالكَظْم في أعلى الحناجرِ تُشتَلُ
تَقلَّبُ كالأبصارِ منهم بحَيْرةٍ
لِبابِ جحيمٍ أمْ نعيمٍ ستدخلُ
فبعضٌ أُهينت بالسّواد وجوهُهم
وزُرقةِ أحداقٍ بشؤمٍ تُؤوَّلُ
ومنهم على شكل القرود شخوصُهم
بما نمَّموا بين الأنامِ وخَتَّلوا
ومنهم بأشكالِ الخنازيرِ صُوِّروا
بما خبُثوا كسباً وفي السُّحت أوغلوا
ومنهم على أمّ الرؤوسِ تنكّسوا
بما أكلوا مالَ الرّبا وتبخّلوا
وعُميانُ منهم دائرون بعُميهم
بما ظلموا في حُكمهم وتغوّلوا
وصُمٌّ وبُكمٌ آخرون بأنّهم
لأعمالِهم بالعُجْب شانوا وأبطلوا
ومنهم أناسٌ يمضغون لسانَهم
وأفواهُهم بالقيح تجري وتُسبِلُ
فكان نفاقاً علمُهم وقضاؤهم
وقد فعلوا ما فيهِ بالقبح هوّلوا
ومِن بعضِهم أيدٍ وأرجلُ قُطِّعتْ
بما كانت الجيرانُ منهم تُولولُ
وبعضٌ على أجذاع نيرانَ صُلِّبوا
بما في رضا الطاغين بالناس نكّلوا
وبعضٌ يفوح النُّتنُ منهم كجيفةٍ
بما مَنعوا حقَّ الزكاة وأهملوا
وبعضٌ جِبابُ القِطْرِ لِزْقُ جلودِهم
بما أنّهم بالكبرياء تسربلوا
وبعضٌ بشكل الذّرّ يكثر وطؤهم
بما استكبروا فوق الأنام ونعثلوا
وبعضٌ بأيديهم قواريرُ من دمٍ
يُلطّخهم منه القتيلُ ويُخضِلُ
وما قتَلوا شخصاً بأيدٍ وإنّما
بما أحدثوا من فتنةٍ وتقوَّلوا
ومنهم وجوهٌ سودُ مالتْ شُدوقُهم
تسيل لعاباً واللسانُ مُهدَّلُ
ويُسقَون من حرِّ الحميم بقدْر ما
سقاهم من الخمر الذميمةِ منهَلُ
وبعضٌ تلظّى من قفاه لسانُهُ
ومِن فيهِ ثانٍ باللهيب مشعَّلُ
بما عاش في الدنيا بوجهَين مُظهِراً
لسانَيْن، كلٌّ في النفاق مؤصَّلُ
وبعضٌ يضجّ الخلقُ من ريح نُتنِهم
فيلقاهمُ لعنٌ كثيرٌ مجَلجِلُ
بما صرفوا نحوَ الزِّناء فروجَهم
وما عنه تابوا مرّةً أو تحوّلوا
وفي الحشْر قومٌ بالبياض تلألأتْ
وجوهٌ لهم بانتْ بفوزٍ تَفَأّلُ
لأجسامِهم أثوابُ زاهٍ بياضُها
وأقدامُهم بالتّبر والدُّرّ تُنعَلُ
يُزَفّون رُكباناً على النُّجُب التي
من الدُّرّ والياقوت والتّبر تُرحَلُ
مجنَّحةً من أرجُوانٍ خِطامُها
ومن ذهَبٍ سَرْدُ الزّمامِ مُسَلسلُ
ومن سُندُسٍ خُضرٍ وثيرُ جِلالِها
بإستبرقٍ غضِّ الحريرِ تُرفّلُ
تطير بهم وَفْداً عزيزاً مُكرَّماً
بصحبة آلاف الملائكِ تَرحَلُ
فتأتي بهم عَيناً طَهورٌ شرابُها
تُزكّيهمُ من كلّ عيبٍ وتُجمِلُ
ويأتون من عينِ الحياة بغُسلهم
فليس بميْتٍ مَن بها اليومَ يُغسَلُ
وقدّامَ عرش الله يوقَف جمعُهم
وقد سلِموا من كلّ نقصٍ وأُكمِلوا
فيُصغي لأمرِ اللهِ حُضّارُ جُندهِ
خذوا أوليائي للجِنانِ وعجِّلوا
لقد أحرزوا منّي رضايَ ورحمتي
فلا ينبغي أن توقفوهم ويُسألوا
على قُطب تقوى الله دارتْ حياتُهم
لهم جنّةُ الفردَوسِ دارٌ ومَنزِلُ
أولئك أهلُ الدّين بالله آمنوا
وما عنه حادوا أو على الناسِ دجَّلوا
وبالحقّ كانوا قد تواصَوا لحُبِّه
وبالصّبر في ضيق البلاء تجمّلوا
ولم تُثنِهم في الله لَوْمةُ لائمٍ
وإن واجهوا أقسى العذاب وقُتِّلوا
أولئك حزبُ الله بالصدق عاهدوا
قضَوا نحبَهم ما ذلك العهدَ بدَّلوا
ترى الناسَ في هَمّ الحساب وغمّهِ
وهم في جِنان الخُلد ساحوا وهلّلوا
وهم عن ظما يوم الحساب وجوعِهِ
بعيدون يأتيهم شرابٌ ومأكلُ
ومن فزَعٍ في ذلك اليوم مُحزنٍ
لهم في سرور الأمْن حِصنٌ ومَوئلُ
وسائرُ خلق الله سيقوا لمحشرٍ
لهُ ظُلمةٌ تُربي الزِّحامَ وتُثقِلُ
فتشتدّ أنفاسٌ وسَيلُ تعَرُّقٍ
ويعلو ضجيجٌ والتضايقُ مُخجِلُ
بسبعة أطواقٍ أحاطتْ جُموعَهم
ملائكةٌ ليست عن اللحْظ تغفلُ
ومن رَهَقٍ يأتون آدمَ شافعاً
ونوحاً وإبراهيمَ كلّاً توسَّلوا
وموسى وعيسى، كلُّهم قد تهيَّبوا
مقاماً يخُصّ المصطفى وتنصّلوا
محمّدُ محمودُ المقام شفيعُهم
يخرّ سجوداً للعليّ ويَسألُ
فيطّلع الجبّارُ من فوق عرشِهِ
عليهم ومن ظلِّ الملائك محفَلُ
فيأمر منهم في الجُموع منادياً
أصيخوا لصوت الله بالحقّ مُقبِلُ
فتنكسر الأصواتُ منهم لرَهْبةٍ
وتخشع أبصارٌ وترعد أرجُلُ
وتفزع من هول النداء قلوبُهم
وتُرفع هاماتٌ اليه وتَوجَلُ
ويُشرف ربُّ العالمين بقولهِ
فيُصغي لبيبٌ في الجموع وأخطَلُ
يُخاطبهم إني أنا الله ربُّكم
ومالكُ هذا اليوم أقضي وأعدِلُ
بعدلي وقِسطي أحكم اليومَ بينَكم
فلا ظلمَ حتى كالفتيل وأضألُ
سآخذ حقّاً للضعيف أضاعهُ
قويٌّ وللمظلوم ما كان يأملُ
وأجزي شرارَ الخلق شرَّ فِعالهم
وأعطي ثوابَ الصالحين وأُجزِلُ
ولا ظالمٌ عندي يجوز بظلمهِ
سوى مَنْ له المظلومُ بالصفح يَقبَلُ
جِدوا ظالِميكم هاهنا وتلازموا
وإنّي عليهم شاهدٌ ومسجِّلُ
فتمضي جموعُ الخلق يَلزَم بعضُهم
لبعضٍ، بأنواع المظالمِ تُشمَلُ
فتشتدُّ أحوالُ العبادِ وغمُّهم
ويعلو ضجيجٌ بينهم وتملمُلُ
ومِن بعدِ جهدٍ يعرفون بأنّهم
جميعاً بوحْلِ الظُلم كانوا توحَّلوا
فيَرجون عفوَ الله عنهم اذا همُ
تَعافَوا وبالاحسانِ طُرّاً تفضّلوا
ويطَّلع الباري عليهم بجهدهم
يُخاطبهم: يا معشرَ الخلقِ أجمِلوا
اذا ما رجَوتم رحمةً فتواهَبوا
مظالمَكم أو للقِصاص تُحصَّلُ
فتغمرَهم في شدّة الضيقِ فرحةٌ
وأكثرُهم مَن بالتواهُب يَجذَلُ
ويبقى عِبادٌ يعظُم الأمرُ عندهم
ينادون: إنّا لا نرى الوهْبَ يَسهُلُ
فيطلُعُ رضوانُ الجِنان عليهمُ
بقَصرِ لُجَينٍ منه ذو اللبِّ يُذهَلُ
بما فيه مِن خُدّامه وأثاثِهِ
فكَمْ مُضمِرٍ: يا ليته ليَ مَعقِلُ
ويأتي نداءُ الحقّ: هذا لكلّ مَن
يجود بعفوٍ عن أخيه وينحَلُ
فيَعفون طُرّاً غير أشخاص قِلّةٍ
ويَمضون كلٌّ للحساب مؤهَّلُ
ومن عندِ عرش الله يأتي نداؤهُ
محمّدُ أقدمْ حَوضُك اليومَ سَلسَلُ
تُروِّي عِطاشَ المؤمنين بشَربةٍ
فلا ظمأٌ من رِيِّها سيُقلّلُ
هو الكوثرُ الموصوفُ بالخير نهرُهُ
فمِن تحتِ عرش الله مجراه يُجبَلُ
بماءٍ كألبان النياق بياضُهُ
مِن الشّهْدِ أحلى في المذاق وأفضلُ
وحَصباؤه الياقوتُ بين زبَرْجَدٍ
وحشيشُهُ بالزعفران مشَكَّلُ
وبطحاؤهُ مِسكٌ تضَوَّع نَشرُهُ
على شاطئيْهِ الدّرُّ نديانُ يَخضَلُ
خليجانِ مِن تسنيمَ يجري نَداهما
عليه ومِن عطرِ الجِنان مُحمَّلُ
يُشَبَّهُ منه الطّولُ ما بينَ أيلةٍ
وصنعاءَ في مَجراهُ بل هو أطولُ
وأقداحُهُ من تِبرِها ولُجَيْنها
ومِن كُثرِها مِثلَ النّجومِ تُخيَّلُ
يفوح بوجْه الشاربين شرابُهُ
فدُون شذاهُ عنبرٌ وقرَنفُلُ
ومِن لذّةٍ تُغري الحصيفَ بطَعمِهِ
يَهون لديهِ الزنجبيلُ ويضؤلُ
فذلك حوضُ المصطفى ووصيّهِ
وعِترتِهِ الأبرارِ بالحقّ فُضِّلوا
ووارِدُهُ مَن كان يسلُك نهجَهم
وفي حُبّهم دنياهُ بالصّدق يبذُلُ
ومَن كان عنهم مُدبِراً ومعانداً
فعند مهولِ الحشر يخزى ويُخذَلُ
ينادي: أما مِن شَربةٍ تُطفئُ الظما؟
وليس لهُ مَن يستجيب ويُنهِلُ
فيفزع للماضين مِن رؤسائهِ
ومَن كان قدِّيساً لديهِ يُفضَّلُ
يُطالبهم أن ينصروهُ مُجادِلاً
فيرجِعُ مخذولاً يلومُ ويَعذِلُ
فما قدّموا غيرَ التّنكّرِ والجَفا
لأتباعِهم قالينَ خانوا وضَلّلوا
ومَن كان منهم بالملذّات فائزاً
غدا ظامئاً في بلّة الرّيق يفشَلُ
ومِن عقبات الحشر يأتون عَرْصةً
موازينُها ليست على الخلْق تحدَلُ
على وزْن أعمال العباد قديرةٌ
مثاقيلَ ذرّات الفِعالِ تُغربِلُ
لها مِن دواوين الخلائق مَورِدٌ
اذا صُحْفُها صارتْ لنشرٍ تُفصَّلُ
فمِن كتُبٍ تعلو بأيمان أهلِها
وأخرى بها غُلَّتْ الى الظّهر أشمُلُ
وفي عَرْصة الديّان يُدعى بلَوحِهِ
وعن قلَم الوحْي المسطِّرِ يُسألُ
ويُدعى بإسرافيلَ للّوحِ شاهداً
بتبليغِهِ الوحيَ الذي فيه يُجعَلُ
ويُدعى بجبرائيلَ يشهد أنّهُ
بتبليغ إسرافيلَ بالوحْيِ يَنزلُ
لكلّ نبيٍّ قام في الأرض داعياً
وكلِّ رسولٍ للرسالة يحملُ
وفي عرْصة الديّان يأتي دُعاتُهُ
شُهوداً على كلّ العبادِ تسلسلوا
فمِن آدمٍ حتى القيامةِ أُحضِروا
إمامٌ ومبعوثٌ نبيٌّ ومُرسَلُ
وكلٌّ شهيدٌ عند أهلِ زمانهِ
عليهم بما أوْفوا وما عنهُ أجفَلوا
وفي عرصة القهّار يُؤتى بنارِهِ
جهنّمَ تُلقي باللهيب وتزجُلُ
تُقاد بآلاف الأزمّةِ صعبةً
على أغلظ الخُزّانِ بالجهدِ تُعتَلُ
بهدَّتها تهتزّ بالخلْق أرضُهم
وكلٌّ يُرى من لفحِها يتفتّلُ
لها زفرةٌ فيهم تُشارف هُلكَهم
وعنْقٌ يُحيط الجمعَ بالنارِ مُقفَلُ
فلا أحدٌ إلّا ويدعو لنفسهِ
سوى المصطفى للناس داعٍ ونَوفَلُ
وأهولُ مرأىً من جهنّمَ جسرُها
صراطاً الى الجنّات بالحقّ يوصِلُ
تمرُّ عليه الناسُ كلٌّ بنورِهِ
على قدْر ما قد كان في الأرض يفعلُ
فبعضٌ كلمعِ البرق يجتاز مسرعاً
وبعضٌ عليهِ بالذنوب مخَردَلُ
وبعضٌ برِجلٍ أو يدٍ صار عالِقاً
يكافح لفْحَ النارِ وهو مجندَلُ
وبعضٌ بزحفٍ يستغيث مكابداً
بطيئاً بأحمال المساوئ مثقَلُ
وأكثرُهم مثلَ الفَراش تهافتوا
رماهم فسوقٌ فيهِ عاشوا وهَوجَلوا
فصاروا الى نارٍ شديدٌ عذابُها
بسبعةِ أبوابٍ طِباقاً تُقفَّلُ
على الظالمين الكافرين بربّهم
سُرادَقُها سيفٌ من الويل مِقصَلُ
لهم قُطِّعتْ أثوابُ نارٍ وفوقهم
يُصَبّ حميمٌ للحشى يتخلّلُ
فيَصهَرُ ما تحوي البطونُ وقبلَها
يُشوِّه أشكالَ الوجوهِ ويَخزِلُ
وإنْ حاولوا منها خروجاً تُعيدُهم
مَقامِعُ أدناها حديدٌ مُكَتَّلُ
لئنْ كذّبوها هازلينَ ببعْثِهم
فليس لظاها في القيامة يَهزَلُ
سعيرٌ اذا أُلقُوا مكاناً بضِيقِها
دعَوا في قيودٍ بالثبورِ وأعْولوا
مِن الجِنِّ والناسِ الكثيرُ ببطنِها
ولا مَخرَجٌ منها اذا سُدَّ مَدخَلُ
بما كفروا لاقَوا عذاباً مؤبَّداً
فليس بهِ موتٌ وليس يُقلَّلُ
وما مِن نصيرٍ يأملون بنصرهِ
ولا مِن وليٍّ كالشّفيع يُخَوَّلُ
وأهونُهم عند الجحيم مقامُهم
على حَجَرٍ منه الدِّماغُ يُسيَّلُ
ومِن شجَر الزَّقّومِ خيرُ طعامِهم
يُحقَّر صَبّارٌ لديهِ وحنظلُ
اذا ما حواه الحلقُ ثار بغُصَّةٍ
ومنه لدى الأحشاءِ غليٌ وأفكَلُ
وإن يستغيثوا من عُطاشٍ يُغيثهم
شرابٌ شبيهُ المُهلِ بل هو أغولُ
ومَن تحتَهم عند اللظى بذنوبِهم
لأقوى الشّوى نزّاعةٌ وتُبزِّلُ
وفي سقَرٍ قومٌ تلوَّح شكلُهم
سواداً فهم كالفحمِ يُفنيهِ مَنقَلُ
وفي حُطَمٍ قومٌ تُدقّ جسومُهم
فتحسَبُهم كُحلاً يواليهِ مِكحَلُ
وهاويةٌ فيها معاشرُ شِربُهم
صديدٌ يذوب اللحمُ منه ويُسحَلُ
وثَمّ سعيرٌ جسّدتْ بلهيبِها
عقاربَ أو حيّاتِ نارٍ تُصلصِلُ
وتُظهِر ألوانَ العذابِ لأهلِها
مذَلِّين في شرّ السلاسلِ غُلِّلوا
ومِن بعدُ تأتي للطغاةِ جهنّمٌ
لها فَلَقٌ في جُبِّه الشّرُّ مُعضِلُ
اذا فُتِحتْ للنارِ أذكتْ سعيرَها
فكلُّ نزيلٍ في الطِّباق يُقلقَلُ
ينادُون فيها صارخين لربِّهم
علِمنا بما كنّا نَرُدّ ونَجهَلُ
فهل مِن سبيلٍ للخروج وعودةٍ
الى غيرِ ما كنّا نخوضُ ونعملُ
فيأتي جوابُ الحقِّ يفضح كِذبَهم
لقد جاءكم منّا نذيرٌ مُعدَّلُ
فذوقوا فما للظالمين مناصرٌ
ولا حيَلٌ كانوا بها قد تحيَّلوا
وقيل لهم أين الّذين بشِركِهم
رضِيتم وإيّاكم أهانوا وسَفَّلوا؟
وكنتم لهم أرجى من اللهِ ربِّكم
تخوضون فيما قد أرادوا وأدغلوا؟
فقالوا أضلّونا وضلّوا فما لنا
سوى اللهِ مولىً ما به اليومَ نَعدِلُ
فما نفعتهم في العذاب ندامةٌ
وليس لهم مَنجى ولا مُتحوَّلُ
ومَن آمنوا بالله صاروا لِجَنّةٍ
بما تشتهيهِ النفسُ والعينُ تحفَلُ
كعَرض السماوات العظيمةِ عَرضُها
مع الأرض بل آفاقُها تتطوَّلُ
ومِن تحتِها الأنهارُ تجري حفيلةً
بأطيبِ أنواعِ الشرابِ تسَلسَلُ
فأنهارُ من ماءٍ وأنهارُ خمرةٍ
وأنهارُ ألبانٍ وأخرى تُعسِّلُ
وأطيانُها مِسكٌ ودُرٌّ حَصاؤها
وياقوتُ في قيعانِها يتألّلُ
لشُطآنها أشجارُ غابت عروقُها
بكُثبانِ مِسكٍ والغصونُ تَهدَّلُ
بأشهى ثمارٍ كاللآلئ شكلُها
على كلِّ ذوقٍ يجتنيها تُفعَّلُ
وفي حافَتَيها الحُورُ كالورد أُنبِتتْ
اذا قُطِفتْ حُبّاً فبالمِثلِ تُبدَلُ
جِنانٌ من الرحمن عدنٌ نعيمُها
مُقيمٌ خلوداً ما لَهُ قطُّ مُبطِلُ
لكلِّ تقيٍ صالحِ الفعلِ صابرٍ
على الله فيما نابَهُ يتوكّلُ
صَدوقٍ سليمِ القلبِ لله حامدٍ
يقيم صلاةً عابداً يتبتّلُ
أولاءِ لهم وسطَ الجِنانِ مَساكنٌ
لها غُرَفٌ بالجَوهرِ الفذّ تُصقَلُ
وفيها لهم أزواجُ حُورٌ كريمةٌ
مطَهَّرةٌ أترابُ عِينٌ تَبعَّلُ
كأمثالِ مكنونِ اللآلئ خَلقُها
ودون شذاها الثّرِّ مِسكٌ ومَندَلُ
قُصِرنَ على أزواجهنّ فما لهم
بهنّ بديلٌ بعدهم يتأهّلُ
يُغنِّينَ أصواتاً يَلَذّ سماعُها
وتُقرَن تسبيحاً وحمداً يُرتَّلُ
يُنادينهم في خيمة الدرّ إنّنا
لكم خالداتٌ بالمَودَّة نُكفَلُ
يُلاقِينَ أقماراً أضاءتْ وجوهُهم
عليهم لباسٌ من حريرٍ مفصَّلُ
ومِن ذهَبٍ حُلّوا أساوِرَ فذّةً
ومِن سُندُسٍ خُضرَ الثيابِ تزمّلوا
على سُرُرٍ موضونةٍ بزبرجَدٍ
وفي نسجِها بالتِّبر والدُّرّ توصَلُ
ومرفوعةً صُفّتْ عليها نَمارقٌ
بها رفرَفٌ من عبقريٍّ ومُخمَلُ
عليها مع الأزواجِ مُتّكأٌ لهم
وآخرُ في أرقى الأرائكِ أمثَلُ
ولا شمسَ تؤذيهم بلافحِ حَرِّها
ولا بَردُهم بالزّمهرير مُعرقَلُ
فهم في ظلالٍ من أفانينَ جمّةٍ
لهم بالقُطوف الدّانياتِ تُنوِّلُ
ومِن حولِهم تجري العيونُ بمائها
على كلِّ مَرجٍ قد ترنّم جَدولُ
لهم خيرُ وِلدانٍ وغِلمانِ خِدمةٍ
ملائكُ في الأرجاءِ دوماً تجوَّلُ
كما اللؤلؤ المنثورِ كلٌّ بسمعِهِ
لِمَولاهُ يُصغي، بالنّداء يُبسمِلُ
وراضين مَرضيّين دوماً صِحافُهم
مِن التِّبر بين المؤمنين تُنقَّلُ
بلَحمٍ شهيٍّ أو فواكهَ غضَّةٍ
بما راق في مَرآهُ والطّعمِ يُؤكَلُ
وكأسٌ من الخمرِ المَعين لذيذةٌ
تطوف عليهم لا تَغيلُ وتُثمِلُ
ويُسقَون كأساً زنجبيلٌ مِزاجُها
شراباً بعَينِ السّلسبيلِ يُسبَّلُ
وأكوابَ كانت من قواريرِ فِضّةٍ
لهم قدَّروها تُستطابُ وتُجذِلُ
ومِن عَينِ تسنيمٍ مِزاجُ رحيقِهم
مِن المِسكِ مختومٌ وما هو يُوشَلُ
ولا لغوَ أو إثمٌ يُراود سمعَهم
تحيّتُهم دوماً سلامٌ مُفضَّلُ
نعيمٌ ورِضوانٌ من الله دائمٌ
عليهم بما في المتّقين تحمّلوا
بما حَرّموا ما كان منه مُحَرَّماً
وما كان حِلّاً في الشريعة حَلّلوا
أولئك حزبُ الله فازوا بوعدِهِ
نعيمٌ مُقيمٌ لا يزول مؤثَّلُ
همُ الجُردُ والمُردُ المُكحَّلُ طَرفُهم
وكلٌّ بتاج المُكرَمين مُكلَّلُ
ويَحيَون لا موتٌ يهُدُّ حياتَهم
ومستيقضين الدهرَ لا نومَ يُخمِلُ
ولا فقرَ مِن بعدِ الثّراءِ ينالُهم
ولا خوفَ أو حزنٌ لهم يتسلَّلُ
لهم ضحِكٌ لا يعتريه بكاؤهم
ولا مرَضٌ فيهم ولا جوع مُزعِلُ
ويروون ما فيهم يُميَّز ظامئٌ
ويُكسَون ما بالعُريِ يظهر مُرمِلُ
تطير بهم أسمى المراكب سرعةً
ومنها لهم فيما يرومون جحفلُ
وهم إخوةٌ في الله لا غِلَّ بينهم
تَزاورُهم بالحُبّ حقّاً يُعلَّلُ
مِن اللهِ يأتيهم سلامُ تحيّةٍ
ومنهم له حمدٌ يدوم ويجزُلُ
وبَعد قضاء الله في أهل نارِهِ
وجنّتهِ، فالموتُ كبشاً يُمثَّلُ
ويُذبَحُ في مرأى الجميعِ وعندها
يُنادى بهم: لا موتَ بعدُ سيُقبِلُ
فيفرح سُكّانُ الجِنانِ بخُلْدِهم
وحسرةُ أهل النارِ تضرى وتأزِلُ
قضى اللهُ ما بين العبادِ بحُكمِهِ
حكيمٌ قديرٌ في الحكومة يعدِلُ
له الحمدُ في بدءِ الحياة وخَتْمِها
هو الآخِرُ الباقي كما هوَ أوّلُ