الـرّهَـان الـكـَبـِيـر
يلمحني الرحيل متأهباً.. فينتشلني ويخبئني في حقائبه الثقيلة، لا آبه كون الرحلة طويلة.. شاقة.. وخانقة، دائما الأنفاس الوفيرة مقتصرة على مدى الرفاهية.. ونحن داخل تنكات من القصدير.. نتجرع أنواع الدخان في حلوقنا بشراهة.. نعيش مع ضميرنا المكفن، وفي كل مكان نقف فيه كصفائح للزبالة يرمقنا المارقون بتأفف ويلقون آخر فضلاتهم في أفواهنا.. نلوك الأوراق.. الفواتير الغير هامة.. قطع اللبان المعلوكة.. الزجاجات الفارغة.. وأعقاب السجائر بطيب خاطر، ماذا يجني الإنسان من غربته؟
هو الرحيل الذي يقصف الوجدان.. يحجر النفوس، يتناولني العامل بخفة.. يمسح بي الطريق المؤدي إلى القطارات السريعة، مقابل أن أحصل على تذكرة للمغادرة، ألاحظ أن الأرض من تحت جسدي نظيفة..لامعة.. والسبب إما للجودة العالية لوبري.. أو مساحيق التنظيف ذات الفعالية الكبرى. أدخل القطار السريع السريع.. سأنزل في آخر محطة ممكنة.. فالتذاكر هنا باهظة الثمن.. ولن يضيرني أن تكون المحطة في جهنم، يا نار كوني برداً وسلاماً، ينقلب السريع إلى كارثة.. وأنقلب إلى حطبة تلتهما نيران متفجرة من كل عربة تئن تحت وطأة السكة المشعوذة.. شيء يطقطق في أذني.. عظامي.. عظام المارد المتكسر على شفير الهاوية.. هلع ينقض على صوتي.. ويوقظني من متاهتي.. أتحسس بعض الدم المنساب من أنفي.. شيء عارض للغاية، أفتح عيوني..هل أنا ملقى على سريري.. في الحظيرة المهجورة التي ألفتني أم على الجانب الآخر من العالم؟.
مهمل لا أحب أن يكترث بي صقيع الشفقة.
يدخل رب العمل كالزوبعة.. يملأ الهواء قنابل صوتية بشتائمه وثرثرته الصاخبة.. يطردني من راحتي.. يصرخ بأحلامي المرهقة:
– أنتم حقا.. إرهابيون حتى في أحلامكم.. تفكر بتفجيرنا يا كلب.
وفي لحظات ذهولي حيث نسيت فمي مفتوحا كالقبر...اتكأت على عجزي بمواجهة اليهودي الغاضب.. ففتح فاه بالمقابل كفك تمساح وانقض على وجهي.. أكل وجهي.. قضمه ببرودة ومضى بعد أن أمرني بحزم حقيبتي، رمى كلماته العفنة كأجر أستحقه:
– امضٍ قبل أن أُبلّغ عنك.
وهذه العادة التي كدنا نألفها لدى بعض المتعهدين الذين إذا ما أرادوا أن يبخسونا حقوقنا هددونا بإبلاغ السلطات الإسرائيلية عنا، نضطر للمغادرة عندما تكون أوراقنا غير نظامية والتصاريح منتهية ومهرّبين بشكل أو آخر داخل الخط الأخضر.. للبقاء والعمل نعمل كالجراذين في الخفاء مقابل لقيمات خبز مرة لا بأس بها،أًمضي.. كيف سأمضي وأنا منذ سنين أعلق أحذيتي المهترئة على حائط أيامي..أعدّها صباحا وأحصيها مساء لأضيف إليها زوجا آخر يحمل آثار تعاستي،عناويني مطفأة.. بينما شفوق من مصادرة وجهي على هذا النحو.
– ألم تعدني يا معلمي أن تصدر لي بطاقة الممغنط.
– يركلني...يقهقه... وابن عمك مطارد... أبله.
تأكدت وقتها مدى استفحال الحماقة فيّ،متى وفى يهودي بعهد.. وأي شيء ملزم له ضمن القانون الإسرائيلي، لا مستحقات..لا أتعاب سوى مطاردة شرسة من الدوريات التي تلحق بنا لطردنا أو لدفع الغرامات المترتبة علينا.. لنعود نلتحق بالطوابير أمام المعابر ومراكز الإدارة المدنية للحصول على تصريح الدخول المؤقت والمحدد.. يسترسل القهر فينا والذل .
ووطأت قدمي خارج المكان بحذر.. يجتاحني إعصار الأفكار السوداء..لألمح من خلاله السيدة تونيا بكامل أناقتها في بذلة رسمية تترجل سيارتها المرسيدس.. تتجه إلى معقل ورشة العمل، تشبثت بها كالغريق ورطنت العبرية ببراعة:
– سيدتي أنا (بعرضك)..أنت تعرفيني.
أدارت وجهها الصارم الرقيق.. حدّقّـتْ بوجل في ملامحي المنحسرة على متن موجة قاتلة...ثم لفظت اسمي.
– ندال...ما بك.
(بالدال قالت اسمي وليس بالضاد) وما فائدة الضاد هنا... الدال أجمل.
– نعم ندال ..
وقلت لها باختصار ما جرى معي.. هزّت رأسها متمعنة.. طلبت أن ألبس قناع أولا لأخفي وجهي المكشوط.. ووضعتني بعدها في حقيبتها الدبلوماسية المباركة، شعرت بالدفء بعد لحظات قاربت فيها النهاية.
استكنت للاهتزاز وهي تلوح يدها،استقريت في مكان ما ضمن السيارة التي دار محركها صاروخا وصل في أقل من نصف ساعة إلى تل الربيع.. أقصد إلى تل أبيب حيث أخرجتني متباهية لأرى العالم الجديد الذي أتحفتني به.. بالأضواء المشعة.. فجرا على شاطئ المتوسط.. نهارا على الأرض لا يشمل قبة السماء السوداء.. أبنية قائمة بجمالية فائقة تضخ أنوارها، لافتاتها توحي بزخم الأسماء والماركات.. أبراج مصفحة بمرايا مائلة تعكس لون السماء بنجومها المتلألئة.. شوارع عريضة.. مهندسة بانسياب كأنك على مدرج طائرة..ووسط كل هذا تأتيك المساحات الخضراء الندية كأنها الأجزاء المتبقية مما اقتلع، تلمح اليهود بكافة انتماءاتهم المتطرفة.. ينتشرون بكثير من ثقة لا نألفها في جيشهم. مررنا بأحد المتاحف.. تمنيت أن أعرف بوابته العريضة التي زخرت بالنقوش ماذا تخبئ خلفها غير الأكاذيب.. ماذا سيضعون في متاحفهم.. بلعت ريقي لأن السيدة تونيا لاحظت شرودي..وانبهاري اللامُبرر.. فاستهلت حديثها الأول:
– اقرأ هناك على بوابة المقهى....
– ترقبوا الرّهان الكبير.
قرأت اليافطة أعلى الباب بصوت مسموع.. فاستدركت السيدة:
– ليست اليافطة بل على الباب.. وضحكت كأنها تريد أن أحصل على شهادة حسن السير والسلوك من الآن... .
كان مكتوبا (الموت للعرب) بمنتهى البساطة.. ياللغـُربة والغرابة.. قفز قلبي كأرنب ذا أذنين طويلتين متدليتين.. شبحا لا دماء فيه.. مشيرا إلي أن أنجو بحياتي وأقفز بدلا منه في حفرة تبدو وكرا للجبناء. دخلنا من بوابة جانبية للمقهى.. غير تلك التي اكتظ حولها أناس من كل المِلـَل.. تميز القبعات بأشكال شتى.. وملابس وأثواب.. وبدلات رسمية.. كأن العالم اجتمع في قلب تل أبيب المدينة المسروقة في وضح النهار من محارة قابعة على شريط البحر....
جلست كالكلب الأبله حيث وضعتني المعلمة الجديدة.. أراقب الدفق الغامض الذي انهال علي كما لعابي المنهال على قميصي المقرف.. جو خانق برائحة المشروبات والدخان الفاخر بنكهات متعددة.. حتى بنكهة التخدير العام.. وإذ سيدة الأعمال تدخل ملكة متوجة بملابس ترقص من عريها وغنجها.. حيّاها الجميع.. وصارت الطاولات مسرحا مكتظا بالأوراق النقدية الخضراء.. وساحات لجدال طويل.. هتافات السكارى ضحكات خبيثة.. ومقامرات على كافة المستويات.. وبكافة الأثمان.
بلعت ريقي قبل أن أغرق فيه.. وأنّت معدتي الخاوية وقرصتني حتى زمرت معايري المفككة، اعتدلت لحضور الملكة تقف قبالتي.. همست:
– ندال حقيبتك في القبو...ستنام هناك أيضا.
– شكرا سيدتي.... . أجبت باحترام حاد التفاصيل..فليس من اللائق مناداتها بالمعلمة.
– سنتكلم عن عملك في الصباح.. استمتع بوقتك.. وتناول من الطعام ما تشاء من هناك.
ذهبت بتحفز واضح.. واستمتعت بالوجه الآخر للحياة...
الحياة تفاحة ينخرها الدود.. إيجاصة لا يتعادل طرفاها.. سَلـَطة فواكه لذيذة رغم كل شيء.. أتمتع بمكوناتها.. أنسى الدش الساخن الذي لن أحصل عليه بانقطاع الكهرباء.. وشح المياه.. في تلك البقعة المستديرة من الأرض.. بقعة تشبه الكرة ونحن بداخلها ندور.. ننتظر عودة الأرض خصبة.. لتحيا..تورق الكثير من الكرات ذات الفائدة..أما كرتنا اللعينة فيتقاذفها الأبطال بسناماتهم..أبطال من نوع جمال يمشون في صحراء تفقئ العيون بكثبانها الرملية وعواصفها.. نهتز كالسحالي.. نسقط.. لا يهم رغم كل هذا نسعد كوننا حظينا بأكل هذا الابتكار.. سلطة من الفاكهة اللذيذة.
كان الوقت صباح،دخلت المعلمة حظيرتي الجديدة أخذتني من يدي.. أدخلتني الصف .. ظهري للسبورة أمام أطفال شرسين.. مجدلي الشعر ينشدون الهتكفاه* يرددون:
طالما في القلب تكمننفس يهودية تتوقوللأمام نحو الشرقعين تنظر إلى صهيونأملنا لم يضع بعد.
وأملي ضاع في ثقافة بني صهيون.. حدقوا فيّ.. مجرد هيكل عظمي.. يرتجف من البرد، ثم ألقت المعلمة الدرس الأول:
– هذا الإنسان الفلسطيني الذي سينقرض،مجرد شيء لا يمكن أن يهابه أحد، اعتبروه نكته تقول أنه كان يملك أرض لم تكن له يوما..ولم يحافظ عليها.. وهو يموت خائنا لها... لنستمتع يا أبطال. انهالت الهراوات على هيكلي العظمي.. غاب صوتي.. ثم ألقت بي نحو قطار يمر من منتصف المدرسة.. ليدوسني... يعلكني...عجينة لحمية لا تفاصيل لها.
استيقظت مفزوعا.. تحسست جسدي المكسر.. بكيت قهرا كطفل انتزعوه من حضن أمه ورموه في مصيدة الطغاة.. أين نشيدي وحجارتي.. مسبيّ للحلقوم،الغرفة تنهار على رأسي.. كلنا هراء نتواصل باحثين عن أناتنا المفقودة في أنات الآخرين.. والآخرين يوفدون إلينا من غربتهم ورق خريف أصفر.. يتفتت في أول ريح تعصف بأجواء اليقظة.. الأرض أرضنا يا أنذال...أبكي قهرا.
النهار بأوله ولم أنم سوى ساعتين.. عملي بالليل.. والنهار للاختباء والتدثر من أجل عمل ليل طويل مكتظ بالأحداث، ابتلعت حبتين من الأكامول مع إبريق من الماء، جففت دموعي.. وعاودت النوم.
لبست ملابسي التي أعطتني إياها الست تونيا.. وعلقت على صدري عامل غريب..
عاد الصخب.. الرهان لا يتوقف، المرقص مليء بالراقصات.. وأنا أدور بين الطاولات ألملم الكؤوس الفارغة والأطباق.. وأوراق اللعب المبللة بالنبيذ المدلوق عليها، تنفذ إلى دماغي مباشرة تهتهات.. وشوشات تنم عن مؤامرات.. تسقط منها كلمات تدوي في قلبي،حيتان تتكلم...تبتلع اسماك صغيرة ابتلعت قبلا طعما مصنوعا من دمنا.. وحياتنا،أحدث نفسي: سأحتمل كل شيء... الراتب لم أكن أحلم به..سأرسل مبلغا لأبي المستمر في حرث البيارة وإطعام الدجاجات.. وأوفر الجزء المتبقي لمشروع ما ينتشلني من بؤسي...سأحتمل...، ووقعت على وجهي.. أحدهم ركلني بحقارة لم أستطع إلا كظمها.
اليوم التالي كان الجمعة.. ليلة السبت.. المكان مكتظ.. تراه تارة ثكنة عسكرية متخمة بالمجندات والمجندين أوقات استراحتهم.. وتارة سوق أعمال حرة.. وما إن يدخل رجال الشوارع القذرين الملطخين بألوان التهريج حتى تدور رحى القتال التي تنتهي و تبدأ بأمر الإدارة هنا..لا شيء يتم إلا بشكل مبرمج له..الأمور قائمة على الإثارة والتشويق، لا ملل..الساحة وسط المقهى منتفخة بالبشر، مارست عملي بأرق.. وقفت عند البار أٌخدّم.. فإذ بأحدهم يطلب فتح يدي.. وما إن فعلت حتى أطفأ سيجارته في كفي وصفق مبتهجا،ابتهجت بدوري ألما صفعني في أذني التي سمعت توقف الموسيقى، تونيا تربت على كتفي معربة عن إعجابها بعملي.. تنهي بقولها (اليوم يومك)، تصعد المنصة.. تعلن في الميكرفون على الرهان الكبير، ثم فجأة استدعتني كساحر يقدم وصلته السحرية.. تقدّمتْ.. وقفتْ إلى جانبها، لمحت على صدرها كردان ذهب تتزين به.. أطلت أمي منه.. رائحتها ما تزال فيه حتى لو سرقه الصهاينة منذ سنين حين اقتحموا بيتنا يوما بحجة البحث عن أسلحة،طالما وضعت والدتي هذا العقد في أيدينا متباهية باحتفاظها به منذ عرسها.. تخبرنا أنها لن تبيعه إلا لتزفنا إلى عرائسنا، ارتجفت.. أحسست بالغبن.. كززت على شفتيّ أتأمل الكردان.. هو نفسه لن أتوه عن وجه أمي المنقوش على ليراته، يتوهج بريقه.. يحرقني و دموعي.. ربتت تونيا من جديد على كتفي بتشجيع ملقية كلماتها تخبرَ المراهنين على وقع قرع الطبول المثير..:
– من يريد منكم قتل هذا العربي....
علا الصياح في المكان والتصفيق الحار الذي دوى في رأسي وتذكرت العبارات التي قرأتها لدى وصولي، حماس تونيا المقامرة لإحضاري بات جليا.. تداعت الدنيا أمامي، أركان هذا المكان المبهرج تحولت إلى مقاصل تطبق فكيها على رقبتي، أمي من بعيد تندب (ستموت كافرا.. مجرما...)، لم علينا أن لا نعتبر من كلام من نحب، كلماتها دفنتها في أرض أبي المتبقية بعد المصادرة والخصم والردم.. ولم أرضى أن أعمل في أمتار لا تلبي طموح الراحة.. استدعتني أمّي حينها:
– المجرم يا بني من أجرم بحق نفسه.. ولوّع قلب غيره...لا تكن مجرما.
أقسمت أن لا أعود إلا لأنتشلهم من فقرهم وبؤسهم..لكني أعود مجرما من الطراز الفاخر يا أمي.. سامحيني.. اغـفري عـسى ربّي يغفر برضاك، وناديت المشعوذة:
– قدّميني.. اسمي نضال.. وأنا لا أموت خائنا.
انقضضت على الكردان وسط هياج مريع.. وتشنج اليهودية التي لويتُ الطوق على رقبتها ليحزها.. تشبثت به معلنا موتي.. ابتلعت ليراته والأيدي تتهاوى بالسكاكين والشوك والأطباق.. والبنادق على جسدي تشق الطرق فيه.. ليضيع الألم بتهاوي تونيا عند أقدامي.
دمي ينزف..يشكل بركة تعكس ضوءي، جسدي يرتجف كالطائر المذبوح..عيناي ترفـّان لوعة..أمي بين يدي تتلو صلاتها..أقبّل قدميها.. يزحف غبارهما على وجهي المرمم.. أتطهر.. أغفو، يتأكدون من أنّي ألفظ أنفاسي.. وأن حقيبتي التي يحرقون لم تكن تحتوي إلا على ملابس داخلية وخارجية غير مغسولة منذ شهور.
بالضربة القاضية أنتهي.
قطارات سريعة هنا تمر.. قطارات القتل والموت والفجيعة.. تأكلنا.. تدك مساحات عمرنا بلا رأفة.. قطارات سريعة تسحق يومنا من الوريد إلى حقيقة وجودنا فيه.
الهوامش
– الهتكفاه: نشيد المحتل الإسرائيلي