الغسـّالة
أمامَ الغسّالةِ الآلية في سلة بلاستيكية بيضاء، وَضعت ربّةُ البيت ثياباً متّسخة.... بنطالَ زوجِها
الأسود، قميصَها المزهّرَ، وجوهَ المخدّات ، جواربَ أولادها، و... لعبتين .
أرنبٌ بريٌّ مصنوع من الفروِالبني ... وديكٌ أبيض صغير، له عُرْفٌ من الجوخِ الأحْمر .
نظرَالأرنبُ إلى باب الغسّالة الدائريّ، فبدا له كعين مرعبة ، جفنُها معدنٌ صقيل، سطحُها زجاجٌ سميك، بؤبؤها رغوةٌ وفقاعات.
خاف ...نصبَ أذنيه الطّويلتين ، هَمسَ :
– ديك . اُنظرْ إلى الغسّالة ... اسمعْ صوتَها، لقد التهمتْ وجبةَ غسيلٍ كاملة بلقمة واحدة، وهاهي
تَهضمُها، آخ ... الظاهر أنّها سـتلتهمنا بعد قليل.
أخرجَ الدّيكُ رأسَـه من كُمّ البنطال، قال:
– لا تذكّرْني ... أكادُ أموتُ فزعاً .
– والحلّ ؟
– لايوجدُ حلٌّ ، سنُغسَلُ ونُنشَـرُعلى الحبل .
ارتجفَ الأرنبُ ، قال:
– من أذنيّ طبعاً، أعرف.. وَسـتُلقَطُ من عُرفِكَ بلقّاطة.
– لنبقى يوماً كاملاً، لكننّا ...سـنصبحُ نظيفين طيّبي الرّائحة.
– ألم نكنْ نظيفينِ قبل أن يلعبَ بنا الأطفالُ ؟ والله...إنني أفضّلُ أن أدخلَ مَعِدَةَ ثعلبٍ على أن أدخلَ بطنَ هذا الوحشِ المعدني .
حرّك الدّيكُ جناحيه، قال:
– أرنب، هذا قَدَرُنا.والحقيقةُ أننّا متّسخان زيادةً على الّلزوم، اُنظرْ إلى نفسِك .
– معك حقّ .لكنْ يمكن لربّة البيتِ أن تنظّفَنا في الحمّام كأولادها، نحنُ حيوانانِ، أمّاأنْ ندخلَ الغسّالة
و...آه...لا أسـتطيعُ التخيّلَ، سـأهرب !
– ماذا ؟! أعِدْكلمتَكَ الأخيرةَ لو سمحت .
– سـَ ... أهـ ... رب ، هل سمعت ؟ سأذهبُ إلى الحقول.
– لا... الظّاهرُ أنّ رائحةَ مساحيقِ الغسيلِ قد أثّرتْ عليكَ . أنتَ تُخرّف.
– قلْ ما يحلو لك ... وداعاً .
وقفزَ الأرنبُ من السّـلّة، راكضاً عبرَ البابِ المواربِ إلى الشارع .
صراحةً ..ظنّ الأرنبُ أنّه نجا لِمُجَرّد خروجه من البيت، لكنْ .ما إنْ داسَ الإسفلتَ بقوائِمه حتّى زعقتْ في وجهه مزاميِرُ السيّارات، ركضَ كالملسوع ناصباً أذنيه قافزاً من رصيفٍ إلى رصيفٍ، ومن ساحةٍٍ إلى ساحة، حتىوصلَ أخيراً إلى حديقة، وبلمح البصرِدَسّ نفسَه تحت شُجيراتِ الورد، وراحَ يلتقطُ أنفاسَه.
كانت حديقةً جميلة ، مليئةً بالأزهار الملوّنة المزروعة ضمنَ أحواضٍ هندسية مُنسّـقة ، تتوسّطُ كلَّ حوضٍ
شـجرةُ نخيلٍ عالية، تحتضنُ أعشاشَ عصافير.
ومِمّا زادَ في ارتياحِ الأرنب، ذلك الرّذاذُ النّاعمُ المتطايرُ من نافورة الماء الرخاميّةِ وسْطَ الحديقة .
قال الأرنبُ بصوتٍ حالم :
– أين الحقولُ.في أيّ جهةٍ هي؟ لابدّ أن أعتمدَ علىحاسّة الشمّ فأنا أميّزُرائحتَها مهماكانتْ بعيدة.
أخذَ نفَساً عميقاً، وبدلَ أن يشتمّ رائحةَ البراري، امتلأتْ رئتاهُ بالدّخانِ الأسود .
نظرَ حولَه متضايقاً، رأى الأبنيةَ العالية تنتصبُ كالرّماح، شـعرَ بأنّه في سجنٍ كبير.
تمنّى لو تحوّلَ إلى قطّة، لكان تَسـلّقَ الشّجرةَ ورأى حدودَ المدينة.
فكّرَ أن يرجعَ إلى البيت، أن يُغسلَ و يُنشرَ مع صديقه، لكن كيف ؟ لقد ضاع !
واستسلمَ للنوم.
في المنام ... رأى نفسَه يلعبُ مع إخوته الأرانبِ في البراري، يدخلونَ في وكرٍ ويخرجون من آخر...
يقضمون الجزرَ ... يتسابقون و...
تتغيّرُ زُرقةُ الفضاءِ فجأة ، لتصبحَ حمراءَ كلونِ عُرْفِ الدّيكِ الجوخيّ.
يلمحُ في السّماء شـبكةً معدنية هائلة، تَهبطُ ببطءٍ نحو الأرض .
يسمعُ أصواتاً مُفزعةً تُصدِرُها الحيوانات.
الشّبكةُ تَهبط ..العصافيِرُتزقزقُ مذعورةً.. الأسُود تزأرُ.. الذّئاب تعوي.. الغزلانُ تنفرُ..أفراسُ النّهر تتركُ الماءَ وتركضُ كتلالٍ متحركة ... الفيَلة تُلوّح بخراطيمها تحاربُ الْهواء.
الشّبكةُ تسـقطُ كأنّها لطّاشةُ ذبابٍ كبيرة تَهوي فوقَ بعوضة.
والحيواناتُ تركضُ جماعاتٍ، القطُّ بجانبِ الفأر، والنّمرُ بجانب الغزال ، كلّهم يريدُ الخَلاص.
والشّبكةُ ترتطمُ بأجسامهم ، تحبسهم جميعاً، تحملهم جوّاً... تنْزِل بِهمُ البحرَ، ترفعُهمْ ... تنْزِل بِهم ثانيةً،
ثمّ ترميهم في أقفاص حديدية ، كلّ نوعٍ يُسجن وحدَه، القطط... الفهود... الفيلة... و... الأرانب.
يأتي الناس متفرّجين .
– الله ما أضخمَ الفيل!
– انظرْ إلى الفهد، كأنّ جلدَهُ مثقوبٌ بطلقاتٍ نارية.
– ذاك أرنب ... اضربُوه.
ويفيقُ الأرنبُ مرعوباً، دون أن يدري أنّ كلمةَ اضربوه ليست مناماً، فأحدُ الأطفالِ لَمَحَهُ ونادى متعجّباً:
– ذاك أرنب ، اِضربوه.
ومن بين الحجارة النازلةِ فوقَه كالمطر، تمكّنَ الأرنبُ من الفَرار، وبدأ رحلةً جديدةً بين العجلات والأقدام .
ركضَ وركضَ حتى كادَ يموتُ تعباً.
وبغتةً ... انزلقَ تحتَ حاويةِ قمامةٍ، وقفَ يستجمعُ أنفاسَـه، و...
لمحَ صديقَه الدّيكَ مَرمّياً بجانبِ أحدِ الأكياس ، كان نظيفاً بلون الثّلج، اقتربَ منه بلهفةٍ، قال :
– ديك ... مرحباً يا أعزّ صديق.
فتحَ الدّيكُ عينيه بصعوبةٍ، دون أنْ يُجيب.
– لماذا لا تتكّلم ... ماذا جرى ؟
وبمشقّةٍ كبيرةٍ ... أشـارَ الدّيكُ بطرَفِ جناحهِ إلى جهاز الصّوتِ داخلَ صدرِه .
– آهٍ.. يالصديقي المسكين، لقد رمَوكَ لأنّ جهازَ صوتِكَ تعطّلَ أثناءَ الغسيل، ولم يعدْ أحدٌ يسمعُ صياحَكَ الرنّان . إنّهم قُسَـاةٌ، تعالَ ياصديقي الجميل ...دعْني أحتضنْك .
وعندَ منتصفِ الّليل ...
وبينما كان عاملُ النّظافةِ يجمعُ القمامةَ، لمحَ تحت الحاويةِ لعبتيِن متعانقتـين نائمتين ▪