الأربعاء ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

العودة إلى الغياب

عاد بين صمت يلتف حوله كوشاح من غبار، كأن الزمن نفسه تجمّد عند حدود أقدامه. لا هوية معه سوى صدى خطواته، ولا تاريخ إلا الأشكال التي تشق الظل في الأزقّة.

الأرض تحت رجليه لا تثق به؛ تتلوى بين الواقع والوهم، وتصدر صريرًا يشبه الذاكرة، ذاكرة لم يعشها بعد. حجر على الرصيف، وجدار يختبئ خلفه ضوء خافت، يهمس باسمه بلغة المدينة نفسها التي ظلّت تنتظره بلا موعد.

الأزقّة تتنفّس وحدها، تموج كأعصاب في جسد قديم، تعرف خطواته قبل أن يخطوها، وتقرأ أنفاسه قبل أن يسحبها، وترصد رغباته التي لم يجرؤ على نطقها في الغربة.

الهواء يثقل صدره بالغياب، يملأه بما فقد، بما لم يكن يعرف أنّه يحمله، وما لم يعترف به لنفسه. في كل نَفَس ظلّ لحكاية قديمة، وصدى صمت طويل، وشيء يصرخ بلا صوت بين الطين والجدران والجوع الذي لا يشبه الجوع.

الأبواب مغلقة على أسماء لم يولد لها وجود، والنوافذ تطل على وجوه تشبهه، ولا يتذكّرها. من رحل، ومن لم يُخلق بعد، وما لم يُخلق إلا حين يمر هو.

على الرصيف شعر بأن المدينة تراقبه؛ ليست مدينةً بمعناها المعتاد، بل مسرح لصمت قديم، لذكريات محشورة بين الطين والظل، بين ما تبقّى وما فُقد.

كل شيء مألوف وغريب، قريب وبعيد عن اللمس، نور وظلال.

هنا تبدأ العودة الحقيقية: ليست بالمكان، ولا بالزمان، بل بالرحلة بين الفراغات.

الظلال تتحدّث بلغة الأحلام؛ لغة لا تُفهم، بل تُحس.

الضباب يبتلع الوقت، يلتهم الأشياء ويعيد تشكيلها كما يشاء.

الأسماء القديمة تتحرك بين الأصابع، تختبئ، تظهر، تتبدّد، تلمس أطراف روحه، فتجعل قلبه يهتز بين ما كان وما صار، بين ما يحلم به وما تركه الغياب.

وفي زاوية مظلمة، حيث تتقاطع الأزقّة كعروق خفيّة على جلد المدينة، شعر بشيء يشبه وطنه، أو شيئًا كان يظنه وطنًا، لم يعد يعرفه بعد الآن.

بين النوافذ المغلقة والطرقات المليئة بصدى الغياب، يبدأ حلم العودة؛ حلم الغربة في وطنه، حيث كل شيء حاضر، وكل شيء غائب، حيث لا يمكن أن تعود كما كنت، ولا أن تنسى كما يفرض الواقع.

هكذا تبدو له: ملمس هش، رائحة مشفّرة، وألوان مبهمة، تعرفه، وربما هو فقط من لا يعرفها.

بين الأزقّة الضيّقة، حيث تنحني الجدران وتهمس بالأسئلة قبل أن تُطرح، بدأ الرجل يمشي بخفّة، وكل خطوة أثقلت قلبه بالذكريات.

ساحة صغيرة بدت مألوفة، محاطة بظلال لم يعرفها؛ كرسي مهترئ، نصفه مغطّى بالغبار، والنصف الآخر يتلألأ في ضوء غريب، كأن المدينة تريد أن تُريه نصفها الماضي ونصفها الحاضر.

رأى امرأة تجلس على الرصيف، وجهها ضبابي، والعينان لا تعرفانه، تبتسم بابتسامة مألوفة، كابتسامة لحظة غابت منذ زمن الغربة.

اقترب منها، شعر بأنها انعكاس للمدينة، انعكاس للحنين، لا كيان حي يمكن أن يمسكه أو يسأله عن رحلته الطويلة.

همس: "لقد عدت." صوته اختفى قبل أن يصل إلى مسامعه؛ المدينة ابتلعت الكلمات قبل أن تولد.

استمر في المشي، كل زاوية تحكي له قصة لم يعشها، وكل نافذة تحمل وجهًا يذكّره بشيء ضائع لم يعرفه في الغربة:

طفل يركض خلف كرة غير مرئية، امرأة تحمل طائرًا يلمع في يديها، رجل يقرأ صحيفة بلا كلمات؛ يختفون حين يقترب، كأشباح من زمن آخر، لا يريد أن يراهم إلا قلبه وحده.

وصل إلى جدار كبير مطلي بطلاء متقشّر، كلمات مكتوبة لم يفهمها، شعر بأنها موجّهة إليه:

"من يعود لا يعود كما كان،

ومن ينتظر لا يرى كما يرى.

اسمع الظلال."

جلس على الرصيف، وبدأ يسمع المدينة تتنفّس، تموج كالنهر تحت الطينوالضباب.

كل شيء حي، لكنه لا يُرى بعينيه؛ مألوف وغريب عن لمسه. المدينة كانت رحلة داخل نفسه الآن، لا مجرّد مكان خارجي.

كل شارع، كل زاوية، كل ضوء خافت، كل باب، هو باب إلى شيء آخر، يحتاج أن يُفكّ بلا كلمات، يُحسّ بلا اسم، يرى دون أن يُرى.

هكذا بدأ الرجل يختبر العودة: ليست في اللقاءات، ولا الأصوات، ولا الأشياء، بل في الفراغات التي تتركها المدينة في قلبه، وفي اللحظات التي يكتشف فيها أنه لم يغادر الغربة يومًا، وأن وطنه الحقيقي كان داخله، مختبئًا بين الظلال.

بدأ يمشي أعمق في الأزقّة؛ كل زاوية اختبرت رحيله الطويل، كانت تنتظر عودته ليكتشف ما تركه خلفه: جدار، نافذة، حجر، يحمل صدى صوته الغائب عن المكان نفسه.

رأى مكتبة مهجورة، رفوفها فارغة، تلمع بألوان لم يرها من قبل؛ ألوان تُحسّ في أطراف الأصابع، وكأن الكتب التي لم تُكتب بعد تنتظره ليقرأها.

داخل المكتبة، مرآة كبيرة معلّقة على الحائط؛ حين نظر إليها، لم يرَ وجهه فقط، بل تداخلت صور المدينة داخله، أصبح انعكاسه انعكاسًا لكل الأزقّة، لكل الأسوار المتهالكة، لكل الأطفال الذين لم يولدوا بعد.

ابتسم، دون معرفة سبب ابتسامته؛ كل شيء حوله غريب، وكل شيء مألوف.

خارج المكتبة، ساحة مظلمة، نافورة جافّة، لكن الماء يتلألأ بصوت لا يسمعه سوى قلبه.

جلس رجل عجوز على حافة النافورة، شعره مثل الغبار، وعيناه كالعينين اللتين فقدهما الرجل في الغربة.

قال: "لقد عدت."

لم يرد العجوز بالكلمات، بل بالسكوت، بالوميض الخافت للظلال؛ المدينة تتحدث من خلاله.

شعر الرجل بأنه فهم شيئًا: العودة ليست بالمكان، ولا بالزمن، بل بوعي القلب، بفراغاته، وبقدرة الروح على أن تعرف نفسها من جديد.

في الأزقّة الخلفية، التقى بفتاة صغيرة تحمل صندوقًا مليئًا بالضوء. حاول أن يسألها عن المكان، عن الماضي، عن الغربة، فتحت الصندوق، فانطلقت ألوان لا يمكن وصفها في الهواء، غلفته، أحاطت به، وجعلت الأزقّة تتوهّج كما لو كانت مدينة تحت الضوء الأوّل للخيال.

حين حاول لمسها، اختفت، لكن أثرها بقي محفورًا في صدره، في قلبه، في الظلال المتلوّية حوله.

بدأ يفهم شيئًا آخر: كل ما غادره في الغربة لم يكن فقط في المكان البعيد، بل بداخله؛ كل الوجوه التي أحبها، كل اللحظات التي فقدها، كل الفراغات التي حملها، تعود الآن، لكنها ليست كما كانت، بل كما صاغها الزمن والغياب والحنين.

كل شيء حوله أصبح لغة مشفّرة، رموزًا تنتظره ليفكّها، ليفهم أنّه لم يعد كما كان، وأن المدينة لم تعد كما تركها.

في المساء، حيث تختلط ظلال المباني بالضباب، وقف على تل صغير يطل على المدينة كلها. لم يرَ المدينة كما عرفها، لكنه شعر بها؛ بصوتها، برائحة الغياب، بالحنين المختبئ بين كل حجر وكل نافذة.

هنا، على هذا التل، اكتشف أنّ العودة ليست رجوعًا إلى مكان، بل انفتاح على تجربة كاملة: مواجهة الغربة التي لم تنته، مواجهة الماضي الذي لم يغادر، مواجهة الحلم الذي لم يُخلق بعد.

في صمت المدينة المتنفّس بين الظلال، بدأ يخطو خطوات جديدة؛ خطوات لا تعود إلى ما كان، بل إلى ما يمكن أن يكون:

مدينة مختلطة بالواقع والخيال، بالغربة والوطن، بالحزن والحنين، بالضوء والظل،

مدينة بين الأصابع، حيث كل شيء ممكن، وكل شيء مشفّر، وكل شيء حي، حتى وإن لم يُرَ.

جلس على حافة التل؛ المدينة تمتد أمامه كنسيج من الضوء والظل، ككتاب لم يُفتح بعد، كحلم يختبئ بين الأصابع. لم يعد يعرف إن كان قد عاد أم أنه لم يغادر أبدًا، لم يعد يفرّق بين الغربة والحنين، بين ما خسره وما وجده، بين الحقيقة والخيال.

الريح تمر بين المباني تحمل أسماء لم يولد لها وجود، همسات المدينة التي تتحدث بلغة لا يفهمها سوى قلبه.

أغلق عينيه للحظة، شعر أن كل خطوة في الأزقّة، كل ظل على الجدار، كل صوت يختبئ بين الرصيف والجدران، كل شيء أصبح جزءًا منه، وجزءًا من المدينة، وجزءًا من الغياب الذي يحمله منذ سنوات.

في الداخل، اكتشف سرًا بسيطًا وغامضًا : العودة ليست إعادة للأماكن، ولا لقاء بالوجوه، ولا ملء الفراغات، بل معرفة أن الغربة، الوطن، الحنين، الماضي، المستقبل، كلها ظلال تتراقص داخل قلبه.

فتح عينيه؛ المدينة تتلألأ بين الظلال والضباب. لا شيء يرحّب به، ولا شيء يرفضه، لكنها موجودة، كما هو موجود، كما هي الحياة: غامضة، مختبئة، مكتنزة، لا يمكن الإمساك بها إلا بالإحساس، بالوعي، بالرحلة نفسها.

ابتسم، ليس لأن شيئًا انتهى، بل لأنه فهم شيئًا لم يكن يعرفه: العودة الحقيقية لا مكان لها، ولا زمان، ولا كلمات، بل رحلة بين الظلال، بين ما كان وما يمكن أن يكون،

رحلة بين الأصابع، بين الغياب والحضور، بين الحلم والواقع.

في صمت المدينة، حيث لا صوت سوى صدى قلبه، شعر أخيرًا أنه لم يعد غريبًا، ولم يعد وحده، وأن كل شيء، حتى الغربة نفسها، أصبح جزءًا من ذاته، جزءًا من المدينة، جزءًا من الظلال التي تحمل اسمه بلا نطق، بلا عنوان، بلا بداية ولا نهاية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى