العقل العربي في القرآن
صدرت في عام 2005 عن المركز الثقافي العربي في بيروت دراسة نقدية بعنوان" العقل العربي في القرآن" للدكتور سعد الكموني، وننشر فيما يلي مقدمة الدراسة التي أعدت لشهادة الدكتوراة لكاتبها.:
ما هي اهتمامات العقل العربيّ، التي اقتضت النص القرآنيّ، وعلى هذا النحوِ دون سواه؟
هذا هو السؤال الكامن وراء هذا العمل، وقدْ نَجَمَ عن التأمّلِ الطويلِ في آيةٍ كريمةٍ يَطلبُ بها الله سبحانه، إلى نبيّه "محمّد" أن يقول ما مضمونُه الأمرُ بالسيرِ والنظرِ في الأرض، بغيةَ معرفة بداية الخلق " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" .
بإزاء هذه الآية الكريمة، افترضْتُ أنّ معرفة الكيفيّة التي بدأ الله بها الخلق كانت في صلب اهتمامات الإنسان العربيّ، وهذا ما اقتضى أنْ يأمرَ اللهُ نبيَّه بما أمرَه، كما أحالت هذه الآيةُ إلى ما يُفهم منه أنّه منهجٌ واجب في السبيل إلى المعرفة. ومظاهر ذلك المنهج الذي دعا إليه القرآن، تبدو من خلال فعلَي "السير، والنظر"، وهذا يعني أنّ الإنسانَ العربيّ لم يكن يعتمد هذا المنهج في السبيل إلى التحصيل المعرفي، وهذا يفتح أمامنا أفقَ التعرّفِ إلى ملمحٍ بالغ الأهميّة من ملامح العقل العربيّ .
إنّ التعاطفَ بين هذين الفعلين، يجعلنا أمام دعوةٍ إلى الموضوعيّة ؛ فهما فعلان من عالم الواقع، ويشيران إلى سلوكٍ واقعيٍّ في تحصيل المعرفة. وذاك يشير إلى أنّ المنهج الذي يشكّل ملمحاً من ملامح العقل العربيّ يتّصف بالبعد عن الواقعيّة والموضوعيّة.
إذن؛ ينطوي هذا الأمر على ظاهرة تستحق الوقوف عندها، فهي تثير فينا الشغف للتعامل مع النصّ القرآنيّ، على أمل الوقوف فيه على ملامح العقل العربيّ الذي اقتضاه. وذلك إيماناً منا بأن معرفة ملامح العقل العربيّ، تشكّل حاجةً ماسّةً للعمل النهضوي، إذْ لا يمكن الانطلاق إلى مستقبلٍ حضاريٍّ إنسانيّ قائم على الحقّ والعدل، على قاعدة التلقّي الانفعاليّ للمناهج الحضاريّة السّائدة؛ فالمستقبل الحضاريّ الإنسانيّ، ينتظر منّا أن نبدأ بممارسة النقد العلميّ لذواتنا، وتقاليدنا التفكيريّة الموروثة، ومحاولة تجاوز ما يجب تجاوزه، ومحاولة تعزيز ما يجب تعزيزه، وتعميق ما يجب تعميقه، وهذا يتطلّبُ الاستفادة من المنجزات الحضاريّة العصريّة، بالتفاعل معها تأسيساً على كوننا نسعى إلى الإسهام الفاعل في البناء الحضاريّ الإنسانيّ.
وكما أنّ التلقّي الانفعاليّ للمناهج الحضاريّة السّائدة، لا يجعلُ منّا مسهمين في البناء الحضاريّ الإنسانيّ، كذلك التلقّي للموروث الحضاريّ بالتبعيّةِ ذاتها، فهو يحوِّلنا إلى كائناتٍ أثريّة، تَطْلُبُ إلى الهيئات العصريّة أن ترعاها، وتحافظ عليها ليس إلاّ. فالمطلوبُ بإزاء التراث والحداثة أنْ نحدّدَ أهدافَنا في أن نكون على نحوٍ تاريخيٍّ ما، فنأتي إلى منجزاتنا الحضاريّة، نعيد قراءتها بانفتاحٍ نقديّ، فيكون ذلك إسهاماّ منّا في البناء الحضاريّ الإنسانيّ الحديث.
ومن هذا الباب كان إقدامي على هذا العمل، وبالتشاور مع أستاذي الجليل الدكتور علي مهدي زيتون. وبما أنّ التعامل مع النصّ القرآنيّ الكريم، يستلزمُ جهوداً كبيرة جدّاً، ويحتاجُ إلى تعاون بين جملةِ باحثين، وهذا غير متوفّر؛ فإنّ كثيراً من الأهداف المضمرة قد تنحّى مرحليّاً، من دون أن يكون لذلك أيّ تأثيرٍ على الفرضيّات والأسئلة والمنهج.
لمعالجة هذه الفرضيّات، والإجابة عن تلك الأسئلة؛ عمدْتُ إلى معاينة النص القرآنيّ، وملاحظة العقل العربيّ فيه، والتعرّف إلى حركيّة هذا العقل. لذلك؛ قسَّمْتُ بحثي إلى أبوابٍ وفصول تتوزّع المعالجة؛ فكان الابتداء بمحاولة التعرّف إلى العلاقة بين النص والمتلقّي، ومقتضى هذا الباب في أنّي افترضْتُ النصّ القرآنيّ الكريم،بوصفه نصّاً أدبيّاً، أخذَ نحوه بمقتضى قدرة المتلقّي على الفهم.
وللتعامل مع هذه الفرضيّة أخذ هذا الباب عنوانين أساسيين، هما "النصّ ومكوّناته" ويهدف هذا العنوانُ إلى التعريف بالنص بمقتضى حاجة هذا البحث، وأتناول فيه اللغة بوصفها وسيلةً للتفاهم، ومظهراً للتفكير، واكتناهاً للرؤية،فبدأنا بالوقوف على حدّ الكلام،ثمّ تناولنا المكان والزّمان والمجتمع بوصفها العناصر المكوّنة للنص.
أمّا العنوان الثاني فقد كان "المتلقّي منتجاً للنص"، والغرض منه بيان اختلاف النص من قارئ لآخر وذلك نظراً لطبيعة مكوّنات الذهن، فتناولنا فيه علاقة المتلقّي بالمكان وبالزّمان وبالمجتمع، بوصفها عناصر مكوّنة لهويّة المتلقّي ومرجعيّة له.
ثمّ عمدنا بعد ذلك إلى البحث في العقل ومكوّناته؛ فارتكزنا إلى عنوانين أساسيين أيضاً، هما " العقل، تعريفُه وحركيّته" فتعاملنا فيه مع مفردة عقل كما وردت في المعاجم العربيّة من خلال "لسان العرب" لابن منظور، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي، وقد رأينا لذلك أهميّة بالغة في تمكيننا من الوقوف على دلالة هذه المفردة في الاستخدام الأوّليّ لها من قِبَلِ أهلها، وفي الوقوف على تطوّر هذه الدلالة، وما باتت تعنيه في رحلتها التطوّريّة.
كما تعاملنا مع هذه المفردة" عقل" كما وردت في استخدام الشعر العربيّ لها في مرحلتيه الجاهليّة والمخضرمة، و ذلك بهدف رصد رؤية الوجدان العربيّ لمقتضيات استخدام هذه المفردة.
ومن ثمّ، تناولنا الآيات القرآنيّة التي انطوت على الفعل " عقل " بمختلف تصريفاته وقد بلغ تعدادها في القرآن الكريم تسعاً وأربعين آيةً،وننطلق في تناولنا هذا من كون القرآن الكريم قد استخدم كلام العرب لتوصيل مراميه إلى العرب ومنها إلى الإنسانيّة، الأمر الذي يعني أن هذا الاستخدام قد اقتضته الإمكانيّة التعبيريّة التي تكتنزها المفردة العربيّة،كما اقتضته الإمكانيّة العلاميّة التي تنطوي عليها هذه المفردة لدى العرب. وأنْ نتناولها بالمعاينة والتحليل في بيئتها القرآنيّة ؛ فإنّما بذلك نرمي إلى الوقوف على إمكانيّاتها الدلاليّة الوظيفيّة في مجتمع المتلقّين.
أما العنوان الثاني فقد كان "العقل ومكوّناته" إذْ كنّا في رصدنا ذاك الاستخدام لمفردة "عقل" في اللسان والوجدان العربيّين، وفي القرآن الكريم، قد وقفنا على الدلالة الرحميّة لهذه المفردة، في أنّها تمثيلٌ لهاجس الأمن وجوديّاً وحياتيّاً،أو لجانب الحدّ والضبط (القانون والسلطة) سواء كان ذلك في العلاقات المجتمعيّة أو في العلاقات مع الكون وأثاثه. ومقتضى ذلك الهاجس القانونيّ كامن في كون المكان فالتاً أمام العربيّ وكذلك الزمان الذي يمضي به وبالأشياء والأمكنة،كما المجتمع الذي يفترسه الغزو والثأر والتنقل والحاجة.
وتأسيساً على ما قمنا به، عمدنا تحتَ هذا العنوان "العقل ومكوِّناته" إلى مقاربة المقتضيات المسوّغة لهذا الاستخدام بدلالاته المرصودة سابقاً،معتمدين تقسيماً تبسيطيّاً، قوامُه العقل والمكان،العقل والزّمان،العقل والمجتمع.
أمّا الباب الثالث، فقد تضمّن بحثاً في النصّ القرآنيّ تحت عنوان "القرآن الكريم والإنسان العربيّ"، فتناولنا القرآن الكريم ابتداء، بمحاولةٍ منا لتعريفه تأسيساً على معاينتنا للآية الكريمة " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" ، كما عمدْنا تالياً إلى تناول القرآن الكريم والحياة العربيّة فأسسنا عملنا على رواية ابن هشام لموقف العرب من الدعوة المحمّدية "يا محمد، إنّا قد بعثنا إليك لنكلِّمك، وإنّا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخَل على قومِه مثلَ ما أدخلتَ على قومِك، لقد شتمْت الآباء، وعِبْتَ الدين، وشتمْتَ الآلهة، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة.." فعدَدْنا هذه الأمور عناصر أساسيّة في العلاقة بين العرب والقرآن الكريم وهي علامات على مواقف العرب من العلاقةِ مع الماضي، والعلاقةِ مع الغيب، والعلاقة مع الجماعة.
وقد أفضى بنا كلّ هذا، إلى مقاربة اهتمامات العقل العربيّ في الباب الرّابع والأخير، من خلال تتبعنا لبعض أسماء الله الحسنى في النصّ القرآنيّ الكريم، بوصفها مفردات استخدمها النصّ لتقدّم الله جلّ جلاله للمتلقّي، بحسب اهتمامه.
فالنصّ القرآنيّ،هو آيات مصرّفة بالأمثال والمواعظ والحِكم، والأخبار والأوامر والنواهي، ذو وظيفة إيقاظيّة في الفرد والمجتمع. توجّه إلى الفرد العربيّ كائناً اجتماعيّاً، بمكوّناته الاعتقاديّة والثقافيّة التي تشكّل هويّته القوميّة، وأعاد صياغتها ودفعها إلى العالَم بهويّةٍ أخرى، واعتقاداتٍ مختلفة. وأبرز من هذا كلّه أنّه أعاد ترتيب مناهج التفكير والنظر الإنسانيين. وحاولنا في هذا الباب، أن ندرس بعض أسماء الله الحسنى في مظانِّها المتعدّدة في النص، ضمن علاقتها ببيئتها اللفظيّة، منطلقين من فرضيّةٍ مؤدّاها أنّ الله سبحانه لم يقدّم ذاته كما هي قدرته كاملةً، بل قدّم منها ما هو بمقتضى الحاجة الإنسانيّة للمعرفة، وللمضيّ في الوجود على هدىً من الأمر، وما هو بمستوى قدرة الإنسان على الفهم والتصوّر.وقد قسّمنا هذا الباب إلى أربعة فصول توالت تحت العناوين الآتية : الله باعتبار ذاته، الله باعتبار صلته بمخلوقاته، الله باعتبار علاقته بالإنسان، الله باعتبار علاقة الإنسان به.
أمّا لجهة المنهج الذي سأتّبعه لإنجاز هذا البحث، فهو في اعتماد النص بنيةً تنطوي على عناصر تنتج المعنى من خلال العلاقات القائمة بينها بموجب علم النحو، فيرصد الظواهر الأسلوبيّة في النص بوصفها ميزة الرؤية فنتعامل مع الظاهرة وصفاً وتحليلاً مستبعدين أيّ رأيٍ مسبقٍ قدر المستطاع.
ويحتاج هذا المنهج في معاينة النصوص وصفاً وتحليلاً، إلى مصادر و مراجع معجميّة، ونحويةٍ، وأسلوبيّة، وألسنيّة تعزّز قدراتنا على معاينة النصّ واكتشافه. وأنّ النصّ موضوع البحث والتحليل هو النصّ القرآنيّ الكريم؛ فإنّ ذلك لن يؤثّر على التزامي المنهج المتّبع في تشدّده باستبعاد الآراء المسبقة، مع تقديري العميق إلى كلّ الذين تعاملوا مع النصّ القرآنيّ تفسيراً وتأويلاً ، فالذي حدث أنّي اطلعت على جهود بعضهم من باب العلم بالشيء، لا من باب الركون إلى قراءاتهم واعتمادها، وهنا لا يمكنني أنْ أنكر فضلهم في إنارة بعض الجوانب النحويّة والمعجميّة، وقد استفدت منها في هذا المجال ، من دون أن يؤثّرَ ذلك على الوجهة التي يمكن من خلالها أن أفضي إلى مناخ النصّ، لكونه مرتبطاً بالتحليل للعناصر اللغويّة وغير اللغويّة التي تُنْتِجُ المعنى من علاقاتها البنيويّة.
وجدير بي أن أذكرَ هذه التفاسير هنا من باب العرفان بالجميل ، فهي لم تُذكرْ في المتن لعدم توفّر المقتضى المباشر، وهي:"الدرّ المنثور لجلال الدين السيوطي، تفسير الصنعاني لعبد الرزاق بن همام الصنعاني،معاني القرآن لأبي جعفر النحاس،تفسير الثعالبي للثعالبي،تفسير الثوري لسفيان الثوري، تفسير أبي السعود لمحمد بن محمّد العمادي أبو السعود،تفسير مجاهد لمجاهد بن جبر المخزومي، تفسير الواحدي لعلي بن أحمد الواحدي،تفسير البغوي للحسين بن مسعود الفراء البغوي، زاد المسير لابن الجوزي، تفسير النسفي لأبي البركات النسفي، روح المعاني للألوسي.
وأخيراً ، أتوجّه بالتحيّة الكبيرة إلى شركات البرمجة العربيّة، وأخصّ بالذكر شركة صخر/ القاهرة، والعريس/بيروت ، والتراث/عمّان ، وأعتذر منها أنّي استفدت من أقراصها المضغوطة عن طريق غير شرعيّة، وذلك لن يحول أبداً دون البوح بالامتنان لها كلّما سنحت الفرصة، فخدماتها المعرفيّة جليلة ، ولن أسمح لقصر ذات اليد، أن يكون عائقاً أمام سبيلي إلى التحصيل المعرفي.
وقبل أن أضع القلم ، أتوجّه بجزيل الشكر إلى أستاذي الجليل الدكتور علي مهدي زيتون، لما أبدى من اهتمامٍ بي، ولما حفاني به من رعايةٍ وتوجيهٍ جديين ، كان لهما الفضل الكبير في إتمام هذا العمل .
والحمد لله ربّ العالمين