أم أنّه وفق توجيهات الأقوى؟
نواصل تناول الآليات التي تحكمت بمولد الحداثة الأوروبية كما بدت للدكتور جورج طرابيشي، وكان قد رصدها تتخلّق على مستويات عديدة، قاربنا منها في مقالةٍ سابقة العلمنة الدينية، ونقارب الآن العلمنة الثقافية،على أنْ نتابع تلك المستويات في مقالات قادمة:
يقول جورج طرابيشي بعد تحديده الآليّة الأولى في العلمنة الدينية: "وثانيها العلمنة الثقافية. فمنذ بوكاشيو (مؤلف الديكاميرون) في القرن الرابع عشر إلى رابليه (مؤلف غرغنتوا) في القرن السادس عشر تطورت حساسية أدبية جديدة، ذات منزع دنيوي ومنعتقة من ربقة التصور الديني للعالم. وهذه الحساسية الجديدة هي التي تمخضت، مع سرفانتس ودونكيشوته في القرن السادس عشر، ودانييل دوفو وروبنسونه في القرن السابع عشر، عن ظهور نوع أدبي جديد هو الرواية التي هي بالتعريف فن متمحور حول الإنسان في مصائره الدنيوية".
عندما كنت صغيراً في قريتنا، كنت أطربُ لسماع الشباب والشابات وهم يغنون "الدلعونا" إذْ تنعقد الأصابع في دبكةٍ رتيبةٍ، فيحتكّ الجنسان في فرحٍ جليّ، يملأ ساحةَ القريةِ في ما يشبه انتصاراً على المنع، والقمع، والتحريم، والأعراف الصارمة. فقط، في هذه المناسبة يكون الاحتكاك بين الجنسين منتزعَ السماحِ من أولياء الشرع بقوةِ العرس، وتعهّد أصحابِ الفرح بعدم تجاوز الحدّ. وكلما سمعتُ وصلةً غنائيّة، كنت أتعجّبُ من قدرة المغنّي أو المغنّية على ترتيب هذه الكلمات البسيطة، بهذا الشكل الفني الجميل. أحفظها عن ظهر قلب، وعندما أعودُ إلى البيت، أسأل والدي، إنْ كان هذا الأمرُ حراماً أو حلالا، وأنا ما كان يهمني كثيراً أن يكون الأمرُ حراماً أو حلالاً، لكنني كنت أسألُ لأوحي إلى أبي أن تربيته لي لم تذهب هدرا، فأنا أسألُ عن مكارم الأخلاقِ وأحرصُ عليها كلَّ الحرص.كان يقول المغنّي وهو ليس محترفاً؛ إلا أنه يغني في الأعراس كما يغني غيره، وكذلك هي كانت تفعل مثلما يفعل غيرُها:
لَكْ حاجي تْدُوري لَكْ حَاجِي تْدُوريمثل الدربكّة بِكِتْفِ النّوريستَّ عْشرْ بيـك وشيخـين وخوريعَنِ محاكاتِـك ما بيمنعونا
ليس هناك من حاجةٍ لشرح هذا البيت من "الدلعونا" اللبنانية، إلا ما يمليه اختلاف اللهجات بين المناطق العربيّةِ المختلفة، فمفردة "لكْ" في اللهجةِ اللبنانية تستخدم للتنبيه، والعرفُ الاجتماعي القرويّ يعيب استعمالَها مع كبار السنّ والقدر. ومفردة" حاجي" تحملُ مدلول الأمر"كُفّي" أو المضارع "يكفي"؛ وإذا انطلقنا من كون اللغةِ وسيطاً بين التفكير والفكر، فإننا أمام لغةٍ تشي باعتمالِ المواقف الاحتجاجيّة العنيفة داخل الذهن في رفضِها لأصحاب الوصايةِ الدينية والزمنية على مشاعر المحبّين، وتتمثّلُ هذه الوصاية بممثل الإقطاع "البيك" وممثلي الإكليروس" شيخين وخوري". كما أنّ فعل الدوران "تدوري" هنا المسند إلى المعشوقة لا يعني دوراناً مادياً محسوساً؛ بل هو دوران معنوي، يدلّ على محاولة التملّص من الاستجابةِ الصريحة، ما يعني أيضاً أنّ السلطةَ التي تغضُّ الطرف عن تصريحِ العاشقِ بعشقه، تحرّمُ تحريماً قطعياً على المعشوقةِ أنْ تصرّحَ بموقفها الحقيقي، فتلجأ إلى الدوران بالكلام، أو بالنظرات، واحمرار الوجه، والتلعثم، وما يشابه. ويدفعنا عقد المشابهةِ بين الدربكّة/ الطبلة، والمعشوقة التي تضنّ بجوابها، إلى ترصّد وجه الشبه بينهما. وذلك من خلال ترصدنا لحقيقةِ المشهد الذي بدا للمغني.
كيف بدت الدربكّةُ في كتف النوري؟
إنها آلة نقريّة، تُصدر إيقاعات متساوية زمنياً عند المحترفين الذين يتدربون على استعمالها تحت إشراف مدرب خبير بالأوزان، ووحدات الزمن. وغير متساوية زمنياً عند مستعمليها عن طريق السماع. وربما تكون الإشارة إلى الدربكّة في كتف النوري إشارة إلى إيقاعاتها المضطربة.وتأسيساً على هذا يمكننا أن نقول بأن المغنّي يمنح المعشوقة اضطراباً وجدانياً، يمكننا أن نفهمه من خلال فهمنا لاضطراب الإيقاع المنبعث من كتف دربكّة النوري، فهو الشهير بذلك.
إنّ الاضطراب هنا، بوصفه وجهَ شبه بين معشوقةٍ ودربكّة نوري، يمكن ردّه لدى المشبّه/ المعشوقة، إلى ذلك التحايل على السلطة القيمية المتمثلة بتحالف الإكليروس والإقطاع. ولدى المشبّه به / دربكة النوري، إلى ذلك التفاعل الجمعي مع سلطةِ النوري الإيقاعية على أفراح الناس.
فكما أنّ موقع النوري في التراتبية الاجتماعيّة يكون موقعاً مختلفاً، ومع ذلك لا يتمّ الفرح إلا بتسلّطه؛ كذلك هو موقع الإكليروس والإقطاع هو موقع مختلف، ومع ذلك لا يتم الفرح أو الحزن إلا بتسلطهما.
إنّه احتجاجٌ شعبيّ، على ذاك التحالف، هدفُه الحرية.. حريةُ الوجدان، وحريةُ التعبير عنه. وما النص الأدبيّ الشعبي سوى دليلٍ على مصداقيّةِ ذلك الاحتجاج، لجهةِ التعبير عن الوجدان الشبابيّ بعامّة، عندما يصطدم بكوابح ثقافية تعتمد بقوّة على ركائز سلطويّة.
هل يمكننا أن نحسبَ هذه التعبيرات والإبداعات، بوصفها عناصر مكوّنة للثقافة، تأتي في بواكير الانقلاب المرجوّ على الثقافة السائدة، لتمّهد إلى العَلمانية؟ حيث إنّ هذا الاصطدامَ مع السلطةِ القيمية المركّبة؛ يحمل في طياته الانفلاتَ من الفلك التابع إلى فلك آخرٍ، قد لا تكونُ ملامحه تحدّدت في ما أشرنا إليه من أدبٍ شعبيّ، بل كل ما تحدّدَ هو الاحتجاجُ على واقع الحال. وإذا كان من شأن التربة الموّارة بالاضطراب في العلاقةِ بين الإنسان المنتمي إلى جماعة، والثقافة التي تشكّلُ هويةَ انتمائه؛أن تكون المنبت الصالح للعلمانية؛ فيعني هذا أنّ حركة الشعوب نحو مستقبلها، ستصل في نهاية المطافِ إلى نتيجةٍ واحدة! وهذا أمرٌ مستغرب فعلاً. ولا يخفف من كونه مستغرباً، أننا نعيش اليومَ في قريةٍ كونيّة، نطل فيها من شبّاكٍ في مسكننا على آلاف الساحات، ويمكننا التواصلُ مع آلاف الأشخاص. ذلك أن التنوّع، هو السمة الملازمة للبشر، مهما تطوّرت وسائل التواصل، أو تعددت النوافذ المفتوحة في ما بينهم؛ ستبقى الخصوصيّةُ القوميّة مهما بلغت شراسةُ العولمة من جهة، وفداحة الوهن القومي من جهةٍ أخرى. ولا تحسبَنّ ما تراه في الاغتصاب اللغويّ الذي تسلل إلينا عن طريق بعض الساسة وبعض المثقفين الكسبة في بعض المواطن، دليلاً على رداءةٍ بنيوية في مناعةِ الخصوصية القومية؛ فليس ذلك إلا أثراً لانتصار الغرب على العرب، ومنْع المهزومين من ممارسة النقد الذاتي لتجاوزِ أسبابِ الهزيمة، وذلك عبر منعهم من إقامةِ دولتهم القومية، ومن تجديد ثقافتهم الإسلامية وعصرنتها، وإنشاء الكتلة الحضارية التي تتسع لهم ولإبداعاتهم، في مختلف المجالات الصناعية، أو التجارية، أو الزراعية،أو الفقهية، أو الأدبية، أو الفلسفية، أو الفنية، أو العلمية. ما رأيك بأربع مئة مليون عربي لا يستطيع المبدع منهم أن يوصل إبداعه إلى من يجب أن يصل إليه، إلا بشروطٍ لا تعرفها على وجه الدقة إلا الأجهزةُ المختصّة في كل قطر؟ هل تستطيع يا أستاذي الكريم أن تقولَ لي لماذا أنت وغيرك لا تمارسون التعليم في أوطانكم؟ وأنت تعرف ماذا أقصد. وقلّ أن تجد جامعةً في العالم ليس فيها أستاذ عربي، وقلّ أن تجدَ مركزَ أبحاثٍ في العالم لا يوجد فيه باحث عربي، وقلّ أن تجدَ مكتبةً ذات قيمةٍ لا يوجدُ فيها كتابٌ عربيّ. ومع ذلك نحن متخلّفون، ولن نكون متقدمين إلا إذا أعلنّا قطيعةً مع ثقافتنا. وبكلّ بساطة، إنّ إعلان القطيعة مع ثقافتنا، ومع هويتنا القومية لا يكفي؛ بل المطلوب أن نتعهد بتمويل "إسرائيل" بوصفها المنتَجَ الغربيّ، والمتعهد الحصريّ أمام الغرب بالحفاظ على الوهن العربيّ، وأمن التخلّف العربي واستمراره.
يحسب العربيّ نفسه منتصراً، أو فُرِضَ عليه أن يسلك سلوك المنتصر، بعدما افتعلَ الاستعمارُ كياناته بحدودها، وأنظمتها، وبرامج التعليم فيها، وأناشيدها الوطنية، ومواعيد احتفالاتها وأعيادها، وتقاليد التشريع فيها، وجعل السيادة الوطنية عند كلِّ حدٍّ يسهر على صيانته مخفر مدرّب على وقف الانتقال من وإلى، إلا وفق القانون المقدّس، حتى بات الاتصال بالغرب أو بالعدوّ أسهل من الاتصال بأي عربيّ خارجَ حدود القطر. وما الحاكم العربيّ إلا المؤتمنُ على هذه الحدود، وعلى الخصوصية "الوطنية" المزعومة، وتكون هذه الخصوصية بمقادير الانفتاح على الغرب، وهي مختلفةٌ من قطر إلى قطر بحسب حاجةِ المستعمر، ومقاصدُ هذا كله، تسخيف الهوية وما تنطوي عليه من عناصر ثقافية أساسية، يصبح الحليم بإزائها حائراً بين السياق الثقافي العربيّ الإسلاميّ المهزوم/المنتصر زعماً، والسياق الثقافي الغربيّ الاستعماريّ المنتصر/ المهزوم زعماً. فلا العادات ولا التقاليد ولا الأعراف ولا الرموز ولا الإبداعات ولا التعبيرات.......... تلبي حاجاتنا في غمرة التحولات التي أحدثتها الثورة العلمية المتفجرة أبداً في الغرب، ولا إدارة الظهر لها بحجةِ تقادمها يسهلُ علينا. في ظل هذا يجدُ البعض منا أنّ المجتمعَ العربيّ عقيمٌ بسبب ثقافته المتقادمة، فهو مجتمعٌ تتناهشه ثقافة الفتنة الموروثة منذ مئات السنين، وما من حلّ لهذه المشكلة إلا بإزاحة هذه الثقافة قلباً وقالباً، ورميها في البحر، واستيراد ثقافة الغرب "الناجحة" التي أثبتت جدواها في مواجهة الفتن الدينية في بلادهم. فالعلمانيةُ ثقافة تنامت عندهم منذ القرن الرابع عشر، ولست أدري السبب الذي جعلَ من رواية بوكاشيو، ذات تأثير بالغ بعد مئات السنين؛ إذ رآها الدكتور الجليل جورج طرابيشي إرهاصاً بالرواية التي تتمحور حول المصائر الدنيوية للإنسان، ولماذا لم تكن "ألف ليلةٍ وليلة" إرهاصاً للموقف الأدبي والفني نفسه عند العرب، علماً أنّ أثرها واضحٌ جداً في "ديكاميرون" بوكاشيو، وأجمل ما في "ألف ليلةٍ وليلة" أنها تتمحور حول قدرة المرأة على ليّ كلمةِ السلطان الجائر بواسطة السرد الجميل..؟؟؟؟؟ فإذا كان الأمر يتعلّقُ بقانون التراكم الثقافي؛ فهذا يجب أن يصحّ في كل أمّة، ولا يعود الكلام علمياً إذا صحّ التراكم في أمةٍ ولم يصحّ في أخرى. وهنا لا ينبغي لي أن أعدّ هذا الحوَل الثقافي بريئا - وليعذرني أستاذي لاستخدامي هذه المفردة؛ فهي دقيقةٌ في موضعها- فالعلمانية ليست دواء ناجعاً للقضاء على الفتن في ديارنا، بل هي للتخلّص من ثقافة ديارنا بطريقةٍ تتناسب مع سلوك المنتصر الحقيقي، فالانتصار على العرب في ساحات القتال العسكري، لا يعني شيئاً ما لم يلازمْه، أو يتبعه انتصار ثقافي، وقد يكون الانتصار العسكري حافزاً كي يمارس العربيّ نقداً ذاتياً؛ فيطلّ على ثقافة المنتصر بهدف تجديد ثقافته لا بهدف استبدالها كما لو أنها ثوب أو أداة.
نعم، ينبغي أن نطلّ على ثقافة الآخرين، وذلك امتثالاً لمتطلبات قانون التطوّر، وبعيداً عن الرغبات والأماني، يجب أن نقف عند مسألة العلاقةِ مع ثقافة الآخرين موقفاً موضوعياً قدر المستطاع، سنحاول أن نعثر على الأسباب التي تحولُ دون تبنيها بالكامل، ليس من باب التخندق في موقع "الأصالة" ولا من باب التصدّي لرياح "التغريب"، بل من باب الموضوعيّة التي تفرضُ علينا أن نتحرّى الأسباب الحقيقية لفشل التغريب والأصالة معاً:
1. إنّ الذي يحدِّد الكيفية التي تبدو بها ثقافةٌ ما؛ يكمنُ في ثقافة الآخرِ المطلّ عليها؛ حيث الأهداف والأسباب الموجبة.ولا يمكن للمطلّ على ثقافة الآخر إلا أنْ يرى حاجتَه فيها كما تبدو له تحت تأثير الأهداف والأسباب الآنيّة والتاريخيّة الموجبة.
• فقد يكون الشعورُ بالدونية هو الحافزُ الأساسُ للإقبالِ على تلك الثقافة، فيستمدُّ المتلقي منها ما يرفع شأنه، ويتغلب بالتالي به على دونيته الموهومة، إذْ إنّ الفرق بين ثقافة وثقافة هي بالهوية وليس بالرتبة.
• وقد يكون الرهابُ الأقلّوي أمام ثقافةٍ مهيمنةٍ تستمدُّ قوّةَ تسلّطِها في الغالب من تاريخ احتضانها للمستبدّين؛ فيرى فيها المتلقي لثقافة الآخرِ ما يحصنه من تلك العلاقة الفاسدة بينه وبين ثقافةِ بني قومه.
• وقد يكون نتاجَ وعي حقيقيٍّ بمتطلباتِ واقعه؛ فيرى في ثقافة الآخر ما يسعفه في تلمّس السبيل إلى التطور والرقيّ؛ لا بل إلى اطمئنان الإنسان وهنائه.
2. إنّ ثقافة الآخر، من المفترض أن تكون نتيجة تراكمٍ، وتناسخ، وتناسل متتابع على مدى قرونٍ وقرون، ولها ما كان يقتضيها وما كان يقتضي ولادتها، ويقتضي استمرارها أو نسخها. ولا أعتقد أنها تكون نتيجةَ قرار متخذٍ في أيِّ محفلٍ من محافل الآخر؛ إلا بهدف حرفها عن مسارها، وهذا ممكن.
• عندما يطلّ أحدنا على تلك الثقافة؛ إنما في الحقيقة يطلّ على مظاهرها في الفاعلية الذهنيّة، وآثارها في الفنون، والآداب، والعلوم الإنسانية، والتطبيقية، والتكنولوجيا.. وسواها.
• كما يطلّ على مظاهرها في السلوك اليوميّ، وآثارها في العادات والتقاليد والأعراف والتعبيرات والإبداعات....
• إنّ الموقف من هذه المظاهر سيبقى انفعالياً ما لم يتجاوزْها إلى السياق التطوري للحياة التي اقتضتها. سيبقى انفعالياً حتى ينخرط المطِلُّ على تلك المظاهر في المركّب الثقافي للآخر(وهذا لن يكون إلا فرديا، ومن المستحيل أن ينجحَ مجتمعٌ بالانخراط الجمعي في ثقافةِ الآخر).وقد يقال هنا إن السياق التطوري هو الكشوفُ العلميةُ التي أعطت أجوبة عن اسئلة المعرفة العريقة، وهي لم تعد ملكاً لأمةٍ دون سواها؛ نقول: نعم؛ ولكن الكشوف العلميّةَ هذه تقدّم معرفةً عن الكون والإنسان والزمن كما هي، ويبقى الفرق بين أمةٍ وأخرى في كيفية استثمار هذه المعرفة، وتوظيفِها في صالح الإنسان أو في تسخيفِه؛ تبعاً لاختلاف مكوّنات إنسانيّة الإنسان من مكانٍ إلى مكان.
3. وثالث هذه الأسباب يكمن في حقيقةِ التثاقف أو التعارفِ بين الأمم، مؤدّاها في أنّ انتقال المظاهر الحضارية من مكانٍ إلى مكان؛ قد يكون يسيراً، أو ميسّراً؛ إلا أنّ العلاقةَ بين الإنسان وبيئته وما ينجم عنها من مواقف من المكان، والحياة والموت، ومكانة الإنسان في الوجود، ليس بالسهولة أن تنتقل من مكانٍ إلى مكان. فالشعوب لن تغيّر معتقداتِها من دون أن يكون هناك عوامل ذاتية جعلتها تصطدم بهذه المعتقدات في مسيرتها التطوريّة الطبيعيّة.
4. ورابع هذه الأسباب، يمكن اختصارُه بأنّ الذي يحُولُ دون تبنّي ثقافةِ الآخر ــــــــ حتى إنْ بدَتْ كما هي ـــــــــ مردُّه إلى مقدار الحاجة إليها. ومهما نظّرَ المنظِّرون، وعلت أصواتُ المروِّجين، وتصنّعَ التلفزيونيون بشأنِ عادات الآخر وتقاليده وأعرافه، فإنّ المرجعيّةَ الأولى للنهضويين الحقيقيين قائمةٌ في موروثهم الثقافيّ، ومعتقداتهم الدينية، بغضّ النظر عن الرجعيين والانتهازيين، من الساسةِ ورجالِ الدين. ولا ينفي هذا مطلقاً أن تكون ثقافة الآخرِ أيضاً من الحوافزِ الهامّة في هذا المجال، بل أيضاً يمكن أنْ تكون مرجعيّة التقدم والنهوض، ولكن تأتي رتبتُها في الدرجةِ الثانية بعد التراث والماضي العريق.
نحن نعرفُ أنّ العناصر المكوّنة للثقافة هي نفسها العناصر المكوّنة للهويّة القومية، ولا يعني أبداً أنّ المساسَ بالعناصر الثقافيّة تعرّضٌ للهويّةِ القوميّة، فالهويّةُ ستبقى تأخذُ شرعيّتها واستمرارها من طبيعةِ استجابتها للتحدّي الذي يستهدفها، ولسوف تُبرز على الدوام ما يقتضي الواقعُ إبرازَه منها؛ لأنّه مدارُ التحدّي؛ فإذا كان الإنسانُ هو المستهدَف،كأنْ يُقال مثلاً: "إنّ الثقافةَ العربيّةَ مثلاً تتجاهل قيمة المرأة وإنسانيّتها"؛ فإنّ الإحساس الجمعيّ بضرورة إبراز المكانة الإنسانيّة للمرأة في الثقافة القوميّة؛ سيحظى باهتمامٍ بالغ، وقد يؤدّي ذلك الاهتمام إلى الثورة الجذريّة والشموليّةِ والعلميّة، على الثقافة السائدة، واقتراحِ بدائل تنسف السائدَ نسفاً، وقد يؤدّي ذلك إلى عمليّة تنخّلٍ لبعض العناصر، وتعزيز بعضها على حساب البعض الآخر.كل الاحتمالات ممكنة فليس هناك من نتيجةٍ واحدةٍ يتحتّمُ بلوغُها. وعليه ستأخذُ الهويّةُ مميزاتها من عناصرها ولا يعني هذا أنها مُسخت، بل هي نتاجُ انصهار العناصر المكوّنة لها. هناك عادات وتقاليدُ وأعراف تختفي باختفاء مبررها، و يقتضي تطوّرُ المجتمعاتِ عاداتٍ وتقاليد وأعرافاً أخرى؛ فلماذا لا تكون قيم أخرى؟ وتعابير وإبداعاتٌ أخرى؟ فالمسألةُ ليست قراراً يُتّخذُ في محفلٍ ما، بل هي طبيعيّةٌ صرفة. وهنا، أقول طبيعيّة، تهرّباً من مفردةِ "حتميّة"، حتى لا يُفْهمَ منها أنّها "آلية"، وذلك أنّ تهاوي عادةٍ بانعدام ما يقتضيها، وحلول عادة بدلاً منها، ليس بالأمرِ اليسير؛ فـ"المحافظةُ" مغريَةٌ لأنّها لا تتطلّبُ أيّ نشاط، بل يكتفي المرء بالتمسّك بها، ومعها يزعم أنه أصيلٌ، وحريصٌ، وعريق،.. وإلى ما هنالك من المفرداتِ الشعاراتيّة. بينما ما يتطلّبه التطوّرُ فيه مغامرةٌ يلزمها شجاعةٌ وجدانيّةٌ وأدبية لا يحبّذها الذين أغوتهم السكينةُ؛ فأوهت هممهم، وأقعدتهم دون الحراك باتجاه الكشف والارتقاء.
أضف إلى ذلك، ما هو أنحس من "المحافظة"، فهي أمرٌ تمليه طبيعة العلاقات بين الأجيال واختلاف المتطلبات الحياتية بين جيل وآخر. ومكمنُ الأنحس، هو في ارتباط مصالح البعض بها؛ فيسعى إلى المدِّ بعمرها، وينشأ تحالفٌ رهيبٌ بين أركان السلطة الاجتماعيّة، ليكون للإقطاعِ ورجالِ الدين أدبٌ وفتاوى واجتهادات، من شأنها إرباك الجهود وإحباط الهمم.
هل يمكن للحداثةِ أن تتعايش مع التصور الديني للعالم؟ طبعاً قد يكون السؤالُ هذا تكريراً لما قام به شيخ الفلاسفة اليوم "هابرماس" ولكنّه حقيقةً يمثّلُ حالَ المعترضين على العلمانيّة في دنيا العرب والإسلام، ولعلّنا نستطيعُ أن نؤثّرَ أكثر لو كان شاهدنا غير عربيٍّ، وغيرَ مسلمٍ، ذلك أنّ العرب والمسلمين لا يتأكدون من صوابيّةِ أسئلتهم الموؤودةِ في نفوسهم إلا إذا نطق بها غيرُهم، فالثورة العلمية التي بلغت ذرى عالية في أوروبا مع نيوتن، وكوبرنيكوس، و داروين، وأينشتاين، وفرويد، وسواهم، جعلت ما قام به "بوكاشيو" و"رابليه" و"سرفانتس" و"دانييل دوفو" يبدو كما لو أنّه تأسيسٌ ثقافي للعلمانية، تنامى على مدى قرون مع تنامي الحياةِ العلمية في أوروبا! واشتدّ إلحاحُ التغيّرِ في الحياةِ الاجتماعية، وكثرت الأسئلة، وتفاقمت المعضلات الأخلاقية، حتى تمحور الفن الروائي تماماً حول مصائر الإنسان الدنيوية وانعتق من ربقة التصور الديني للعالم. وقد رصد أحد القساوسة الأوروبيين "جوتفرايد كونزلن" واقع الدين المسيحي في المجتمعات الأوروبية، وجاء بنتائج أقل ما يقال فيها إنها كارثية على الدين المسيحي بعامة#، وقد عزز ما ذهب إليه القس جملةُ إحصاءاتٍ ذكرها محمّد عمارة، منها" أن الذين يؤمنون بوجود إله في أوروبا ـ حتى ولو لم يعبدوه ـ هم أقل من 14% من الأوروبيين.. "!# وكان قبل قرنٍ من الآن قد حملَ هنري آدامز# على العلمِ الذي جذب الفلسفةَ إليه، فكانت رؤيته الثاقبة الناقدة لعلاقة الناس بالعلم والعكس بقوله:"إن الدين الجديد المتمثل بالعلم يمارس خداع النفس تماماً كالخداع الذاتي الذي يمارسه الدين القديم، واعتقد أن طريقته العلمية - ببساطة - قناعٌ يخفي وراءه وحشية ويأس عصر العدمية"#.
إنّ البعدَ عن التصوّرِ الدينيّ للكون، يتحقّقْ في تشيّؤ الإنسان، باعتباره جزءاً من الكتلة الكونيّة المتحرّكة بلا قصد؛ فهل هذا من إنجاز العلم أم من إنجازِ الإنسان المهزوم أمام المعنى؟
لقد كان أعلن الإنسان الحداثي تأليهَ عقلِه، وانعكس ذلك سلوكاً مبدعاً للآلة التي توسطت بينه وبين عمله، ثم راحت هذه الآلةُ تتطوّرُ بين يديه لدرجةٍ تزعزعت معها أركانُ العقل، وظهرَ التردّدُ والوجل، حتى عادَ يؤمن بالأساطير، ويبدع بلغةٍ غير مفهومة، بلغةٍ أسطوريّة، وكثر الانطواء والجنون، والتعشّق الذاتي،والانتحار، وهو الذي كانَ قد نعى الدين والإيمان، بحجةِ أنه أسطوري غير مفهوم.
إذن؛ ما أسس له "بوكاشيو" و"رابليه" و"سرفانتس" و"دانييل دوفو" لم يأتِ بالنتيجةِ المتوخّاة،ولم يكن ما انتهى إليه في مرحلة ما بعد الحداثة غرباً؛ مغرياً للحداثويين العرب.إذْ إنّ الانعتاق من ربقةِ التصوّر الدينيّ للعالم، لم يكن سوى أثرٍ طبيعيّ لثورةٍ علميّة جعلت الإنسان واثقاً من نفسه، ومن عقلِه، في ظل ظروف التحالف الاستبدادي (بين الكنيسة والإقطاع) الذي كان يكبس على نفسه وعقله؛ فصار باستطاعته بعد إدراكه لدوران الأرض حول الشمس، وبعد اكتشافه قانون الجاذبية، وبعد بلوغه أعماق البحار وأبعد الآفاق، أنْ يندفع في أسلوبٍ جديد يسميه الحق الطبيعي، فأنتج بممارسته لهذا الحق استبداداً آخر،يستند إلى العلم والمعرفة، وإلى سلّم قيمٍ جديد حتى باتَ سنداً للقوّةِ الغاشمة، والفاضحة لوحشية الإنسان الغربيّ. من عبد الآلة، إلى عبد السوق، وقيمِ السوق، إلى عبد القهرِ والقاهرين، وفوق كلِّ هذا عبد المالِ وما يعني ذلك من معاكسةٍ حادّةٍ لمقولةِ السيّد المسيح:" لا تعبدوا ربين: الله والمال" فالنتائج المحبطة للإنسان الغربيّ جاءته من مقولةٍ موازية بسهمٍ معاكس أطلقها ربُّ الحداثة:" لا تعبدوا ربين: المال والله" فإذا كان تلامذة السيّد المسيح قد امتثلوا لربّهم، وسخروا أنفسهم دعاةً لربٍّ واحد، هو الله ؛ فإنّ مظهرَ الامتثالِ هذا في الحياةِ مواجهةٌ في داخل الإنسانِ بين "النفس الأمّارةِ بالسوء"، و"النفس اللوامة"، ما يعني أنّ مساراً قيمياً يهدفُ إلى تحقق كرامةِ الإنسان في علاقته مع ربّه/ الله الخالق، ومع نفسه مرضاةً لله،سيحكمُ سلوكَه،ما يجعلُ المؤمن مطمئناً في دنياه وإلى مصيره النهائي. أما امتثال تلامذة ربّ الحداثة وما بعد الحداثة، فقد كان مواجهةً حادّة بين الحقائق العلمية، وما يقدّمه الدين من معرفةٍ عن الكون والإنسان.
والعلم يقدّم حقائقه استناداً إلى التجربةِ المحسوسة والملموسة والمعقولة، ونتيجة لتلك المعرفة والعقلنة، طوّر الإنسانُ وسائله، ما جعل الحقائق أكثر يقينية. بينما الدين لم يقدّم أيّ إثباتٍ على مقولاته عن الكون عن طريق التجربة؛ ماجعل الشكَّ بدايةً مقدّمةً للانعتاقِ من التصوّرات الدينية برمّتها. وإذْ تبدّى بعدما بلغَ العلمُ مبلغاً متقدّما، أنّه لم يستطع أن يوفّرَ الطمأنينةَ للإنسان، تبدّى أنّ الدين كان مع "أسطوريته" أحرص على الإنسان من العلمِ مع "يقينيته"، ويمكننا أن نضيف إلى هذا القول، إنّ أسطورية الدين ليست نهائية، ولا يقينية العلم حقيقية؛ فمن كان يعتقد أن البعضَ سيكون بمقدوره أن ينسف نسبية أينشتاين ونظرياته عن الزمن والضوء نسفاً لن تنهض منه الفيزياء بسهولةٍ!؟ كلّ معلوماتنا عن الكون قد تكون ذاتَ يومٍ مثار سخريةِ أجيالٍ وأجيال، وقد يكونُ ما نحسبه اليومَ أساطير الأولين إنْ هو إلا علمُ قومٍ لم نسلك سبيلهم إلى الإحاطةِ بالحقيقة.....
هل كان هذا نتاج سيرورة إجباريّةٍ لتطور العلم، أم كان نتاج استثمار العقليّة الرأسمالية له ؟ "لقد كان الإيمان بالتقدم هو القوة المحركة للغرب طوال ما يقارب المئة والخمسين عاما، ولقد انتهى الغرب أخيرا إلى إدراك عبثية ذلك الإيمان وعقمه"#.لا أعتقد أن بوكاشيو في ديكاميرونه كان يستدعي في إبداعه الروائيّ، شخوص روايته للتحرك باتجاه هذه المصائر الدنيوية، ولئن كان التقدم العلميّ العظيم لابدّ له من أن ينعكسَ ثقافةً،سلوكاً ذهنياً أو حركياً، نفسياً أو اجتماعياً، فكرياً أو فلسفياً؛ فإنّ الأكيد أيضاً أن المسؤول عن توجيه هذا الانعكاس هو الواقع الذي يحصل فيه هذا التقدّم العلمي المذهل، هذا الواقع الذي ثار على حداثته ليكون حرًا من تسلّطِ العلم عليه، وليكون حراً من تأليه العقل، وتأليه الإنسان. فقد أودى به التقدّم إلى مهاوي التفلّتِ من كلّ عقال، إلا الذي يؤثرُ على زيادة أرباح الرأسماليين، ومقامراتهم في تفكيك عرى الإنسانية وحق الدفاع الثقافي، والرسولية الفكرية أو الفلسفية أو الدينية، بحجة العلم الذي لم يلحظْ حقيقةً مطلقةً خارج الذهن. وأنْ يكونَ للعلمِ طلابٌ، وباحثون، ومراكز بحثية خارج هيمنة الغرب الرأسمالية؛ فهذا ممنوع! هم يتكفلون بتأطير العالم خلفهم عبر نشر لغتهم، ومناهج التعليم عندهم، ونظرتهم للتعلّم، والطالب، والمعلم، وليس هناك حقيقة مطلقة، ما يعني أن القلق والشكّ والاضطراب هي المصائر الدنيوية التي يجب أن يكونَ عليها طلاب العالم أجمع بمن فيهم طلاب أمريكا وأوروبا، وليس ذلك إلا خدمةً لتطلعاتِ النهمِ الرأسمالي اللامحدود. لقد "نَجم عن تدمير الصورة النيوتونية [الميكانيكية] للعالم شيء من التواضع [العقلي] وانتعشت الميتافيزيقيا وازداد الاهتمام باللامعقول ولم يعد العلم بسيطا … وقد كشف النقاب عن كون غامض مقدر لجزء منه أن يبقى غامضا، كما وقذفنا بأحجيات لا يستطيع العلم حل ألغازها داخل أعمق أعماق الحقيقة. وهكذا أصبح العلماء أكثر تواضعا. وأخذوا يتحدثون عن الكون الغامض بدلا من حديثهم عن التقدم نحو المعرفة الكاملة"#. العلماء أدرى بما يتوصلون إليه، فهم يبذلون جهوداً جبّارة باتجاه المعرفة، وهذا ما يستدعي انعكاساً ثقافياً -لم يحصلْ - في مجتمعاتهم يتناسبُ مع المنجزات. ولكنّ العقليةَ التي تستثمرُ المنجزات العلمية، لا تدعُ الأمورَ تجري بشكلٍ طبيعي، فبما تمتلكه من إمكانات مادية هائلة، ووسائط اتصالٍ وإشهار ضخمة، نجدها قادرةً على إيهام الخلقِ بأنّ الذي يظهرُ عبر الشاشات هو المظهرُ الثقافيّ الطبيعي لتلك الكشوف والفتوح العلمية العظيمة.
وأخيراً؛ لا بدّ من الإشارة إلى أنّه من الظلم احتساب التحوّلات الثقافية، تحت تأثير الاغتصاب الإشهاري الرأسمالي للمجتمعات الإنسانية، هو التطور الطبيعي الحتمي لمسار الثقافة من القرن الرابع عشر حتى يومنا هذا! لربما يكون الأمر أكثر دقةً لو أننا اعترفنا فعلاً بأن العالم اليوم يعيش حضارة إنسانية واحدة، وبإمكان الثقافات أن تتلاقح وبإمكان الشعوب أن تتعارف، ومن حق كلّ ثقافة أن تسعى لطبع الحضارة الإنسانية بطابعها،وهذا مجال يتسع لكلّ الشعوب ولكلّ الثقافات، وينجم عنه ما هو لصالح الإنسانية جمعاء. ويفسد الأمر بل ستكون نتائجه خطيرة جداً، عندما يسعى الأقوى عسكرياً إلى فرض ثقافته مسخّفاً ثقافات الآخرين، ومدّعياً تفوّق ثقافته، لكونها أثراً مزعوماً لآخر ما توصّلت إليه مراكز الأبحاث العلمية.