السبت ٥ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم عبد الحكيم البقريني

«الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته» لمحمد العزوزي

التعريف بالكاتب

محمد العزوزي أديب مغربي، من مواليد سنة 1980. متنوع الكتابة: يكتب الشعر والقصة بأنواعها، والشذرة، والمقال، والرواية، وأدب الطفل. نشرت له المئات من المقالات والنصوص بجرائد ومجلات وازنة، مغربية وعربية فعالمية. تم التنويه بمجموعته الشعرية: " أشياء آبقة من رؤيا" خلال دورة 2010 لجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، وفائز بجائزة ناجي نعمان الأدبية صنف الاستحقاق دورة 2013. صدرت له:

"كتامة أو حكاية سفر من أجل لوحة حشيش"(رواية).
"حالات سطو في لا وضوح اللامحتمل"(نصوص شذرية).
"كأغنية ضالعة في الهشاشة"(شعر).
"يوميات فائضة عن الحلم والوقت"(شعر).
"تواطؤات على لعبة الحب"(شعر).
"الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته"(قصص).
"الرقية النقدية وصرع النصوص"(مقالات وتأملات).
التعريف بالمجموعة القصصية

صدرت المجموعة القصصية "الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته" عن مطبعة ووراقة بلال، فاس، المغرب، نهاية سنة 2023، وهي سابع إصدارات الكاتب. تقع المجموعة في ثمانين صفحة، وتضم اثنتي عشرة قصة وهي:
عائدون بلا موعد.
المجذوب التائه.
الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته.
الرجل الذي اختلطت عليه وجوهه.
انزياح.
أسئلة معلقة.
الكلب الذي أراد أن يصبح مواطنا.
رجاء لا تزعج المدينة.
القطار لن يعود.
غريب في المكان.
عصفور بلا جناحين.
رأس الدرب.

تختلف القصص من حيث الطول، والرؤية السردية، فالمرحلة العمرية للأبطال، كما تختلف في زمن الكتابة والتأليف، هذا الاختلاف لا ينفي الوحدة العضوية بينها والمتمثلة في الانشطار الذي يعيشه بعض الشخصيات.
لوحة الغلاف

لوحة الغلاف للفنانة فاطمة الزهراء الحيوني، وتحتل جزءا بارزا من الغلاف. تمثل وجها بشريا بألوان متداخلة وقوية، وعاكسا حالة وجدانية ونفسية غير مستقرة، ملامح تعبّر عن التشتت والضياع. إن اعتماد هذه الألوان الصارخة والمتداخلة تعبير عن التوتر النفسي والتعقيد العاطفي. كما أن جمعه الغلاف بين الفن التشكيلي والرمزية العميقة، جعله مدخلا مثيرا للقارئ لاستكشاف محتوى القصة. إن هذه الألوان الحادة والتكوين الفني لها يعكسان جوا نفسيا مشحونا، ما يتناسب مع فكرة "تأجيل الولادة"، التي قد تشير إلى معاناة داخلية أو تأخر تحقق الذات. كما أن كتابة العنوان باللون الأحمر قد يوحي بالحيوية وربما الاستعجال أو التحذير.

وجود شعار واسم الشبكة الوطنية للقراءة والثقافة دليل على الطابع الثقافي لهذا العمل الأدبي المحفز على القراءة، وقد عزّز الكاتب الغلاف بالإشارة لجنس الكتابة بكلمة: "قصص" وهي سمة يلتزم بها جل الأدباء. أما ظهر الغلاف فقد جعل الكاتب به مقطعا من قصة الطفل عجلان بطل قصة: "الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته"، أعلاها صورة الكاتب، وأسفها توسيمي الشبكة الوطنية للقراءة والثقافة، ودار النشر. إن مساءلة هذه العتبة تخلق رغبة في البحار في هذا العمل السردي المتنوع.
قراءة في العنوان

العنوان جملة إسمية تحمل طابعا فلسفيا وتأمليا، إذ توحي بتأخر ولادة طفل؛ ليس بالمعنى البيولوجي، بل ربما ولادة فكرية أو وجودية أو اجتماعية. وإن كانت الجملة الإسمية تدل على الثبات والاستقرار، فإن الكاتب لم يجعل هذا الهدوء مستمرا، إذ استخدم فعل "ملّ" ليكسر الموقف، ويعلن الضجر ويكسر الانتظار الطويل، مما يجعل القارئ يتساءل عن طبيعة هذا التأجيل وأسبابه. وعلى غرار الأعمال الأدبية الأخرى اختار الكاتب عنوانا طويلا لعمله الأدبي، تماشيا مع بصمته ورؤيته لهذه العتبة المحفزة على القراءة.
مضمون المجموعة القصصية

تضم المجموعة القصصية اثنتي عشرة قصة تختلف في مضمونها، لكنها تشترك إلى حد كبير في قلقها الوجودي، وتأثير البيئة والمجتمع على الإنسان، فضلا عن الإرادة والمصير، كما تحمل إسقاطات اجتماعية وفكرية عميقة، حيث تعبر عن نظرة الإنسان المتشائمة أحيانا تجاه الواقع، وعن تأثير الأفكار السلبية على الأجيال القادمة، وتطرح تساؤلات عميقة من قبيل إن كان العالم مكانا مناسبا للحياة، وهل بإمكان الإنسان أن يجد السعادة رغم كل الصعوبات؟ إنها نسجت بأسلوب فلسفي عميق يدمج بين الواقع والخيال، ويستخدم الرمز والتأمل في معنى الحياة والمصير الإنساني.

تيمة الانشطار في المجموعة القصصية

رسم القاص عالم أبطاله بدقة متناهية، ونوّع بين مراحلهم العمرية، فمن جنين ملّ من تأجيل ولادته في قصة: "الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته" إلى عائد من قبره في قصة: "عائدون بلا موعد"، ومن رجل يحمل عدة وجوه في قصة: "الرجل الذي اختلطت عليه وجوهه" إلى رمزية قصة: "الكلب الذي أراد أن يكون مواطنا"، فقصة: "رأس الدرب" ورموزه العميقة، ثم قصة: "عصفور بلا جناحين" يتجلى الانشطار واضحا، ليبقى القارئ مدعوّا للبحث عن الخلفيات، وفك شفرات النصوص ورمزيتها. ذلك أن الكاتب من خلال قصصه يجعل القارئ متسائلا، خالقا تفاعلا بينه وبينه عالمه السردي المتميز بالانشطار، ففي قصة: "عائدون بلا موعد" نجد البطل مندهشا من هول ما يعيشه يقول: "أستفيق على عجل، إحساس بالدهشة انتابني تحسست جسدي وجدته عاريا، تلفه قطعة ثوب ناعمة من كل الجهات، عقدت عقدتين، الأولى عند الرأس، والثانية عند أسفل الرجلين" ص: 5. ليكتشف أنه بقبر، وليتخلص من هذا الموقف قام بحفر ثقب تسلل منه يقول: "إحساس غريب، انتابني، وأنا أنتصب واقفا، كأنها المرة الأولى في حياتي التي أقف فيها" ص: 7. ليدخل متاهة إثبات أنه مازال حيا، وهو الأمر الذي جره للقضاء يقول: "نودي علي إلى المحكمة، بعد أن استجوبوني في المخفر، ولدى قاضي التحقيق، بعد أن وجهوا لي تهم المس بالمقدسات، وتهديد الأمن العام، والتحريض على الحياة، والتمرد على الموت، والعودة للحياة بغير رخصة، وقائمة طويلة من التهم الأخرى الميتافزيقية..."ص: 21. ليتوالى المشهد التراجيدي يقول: "ولما انتهى المحامي الثاني من مرافعته... إذا بهيكل عظمي ينتصب واقفا في قاعة المحكمة، تملك الخوف والرعب الحاضرين، ووقفوا مذعورين مما يرون، لينطق الهيكل: ألم تكفيكم كل هذه السنين، وأنتم تتاجرون بأسمائنا، وأقمصتنا؟ إننا اليوم قررنا كشهداء وبمشاركة جميع الأموات القدامى، والجدد، تنظيم مظاهرة للتنديد، بما لحق بنا من ضرر، من جراء المتاجرة بأسمائنا، وإقلاقنا في قبورنا" ص: 23. أما في قصة "الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته" فقد جعلنا نحلق في عالمه متسائلين عن حدود الممكن واللا ممكن يقول: "لم يكن الطفل عجلان يفكر في المجيء للحياة، أو أن يولد، لأنه متضايق، من التواجد في بطن أمه... بل لأنه ملّ الأحاديث التي تجري بالقرب من أذنه، والتي تشعره باليأس من الحياة" ص: 33. ليقرر المجيء في غفلة انشغال الناس بالانتخابات، ولأنه متضايق ومشاغب منذ البداية فقد: "قام بالتعلق بشغب بجدران الحاضنة، وإتلاف الخيوط التي تربطها به، مما جعل الأطباء يصدرون قرار خروجه من المصحة" ص: 35. ولأنه مستعجل في الأسئلة: "صار يسأل عن كل شيء، الوطن، الوجود، والسياسة، والديمقراطية، والاستقلال" ص: 36. وتتوالى أسئلته المزعجة ليفكر الكل في قتل أسئلته، فحفروا آبارا عشوائية بشكل أصبح معه سطح الأرض كله حفرا، وبسقوطه يوما في إحداها صار الكل يردد اسمه، ويعدد بطولاته. وفي قصة: "الرجل الذي اختلطت عليه وجوهه" تعقبنا السارد الذي تتبع شخصا يحمل وجوها عدة، يستعمل الواحدة حسب الظروف والمواقف، وتتوالى الأيام إلى أن تختلط عليه الأشياء والأحوال، فيحار في أمره يقول: "حار كل من يعرفه، في تعداد عدد وجوهه، أو كم له من وجه... لكن لا أحد ممن يعرفه استطاع أن يعرف كم يملك من وجه أو وجهه الحقيقي..." ص: 39. ويقول: "غسل وجهه أكثر من مرة، لكن كلما مرر منشفة على وجهه خرج له وجه من الوجوه التي يرتديها" ص: 41. ليتوالى الصراع والألم إلى أن طالعه وجه أبيه من المرآة قائلا: "لا ترتعب يا بني، على إضاعتك لوجوهك الكثيرة التي ترتديها، فإنك ولدت أصلا بلا وجه، وكبرت بلا وجه، وعشت بلا وجه، وستموت بلا وجه، وأي وجه من الوجوه ارتديت، يليق بك" ص: 42. وفي قصة: "الكلب الذي أراد أن يصبح مواطنا" ينقلنا إلى عالم الحيوان، وكيف أن كلبا مغربيا أراد أن يغير حياته الكلبية بعد حواره مع كلب أوروبي مستمتع بمجموعة من الامتيازات والحقوق، وبعد سلسلة من الإجراءات لينال الجواز والوثائق ملّ الانتظار وامتد إليه الندم يقول: "ندم على الوقت الذي التقى فيه الكلب الأشقر، وعلى رغبته في أن يصبح مواطنا، يحمل الهويات العديدة، فحياة الكلبية أفضل من الحياة التي يحياها بعض من يتوهمون أنهم مواطنون" ص: 54. أما في قصة: "رأس الدرب" فقد جعل للدرب رأسا يقبّله المارة يقول: "كان للسيد الدرب رأسا جميلة رغم صلعتها، وكان يزداد فخرا، عندما تقبلها النساء عند مرورهن به" ص: 73، بيد أنه سرعان ما بدأ ينحي رأسه ويتعجرف بعدما أوحت له عربة الإيديولوجيا بالأمر التي كانت تمر كل صباح عبره. أمام هذا السلوك قرر النسوة التشجيع على النسل، الذي تكاثر وتكاثر، إلى درجة لم يجد مكانا للجلوس، فتصبح الحياة صعبة يقول: " مع مرور الأيام، قلّ عبور عربة الإيديولوجيا، إلى أن جاء خبر انعطابها في حادثة سير بشارع التحول التاريخي... أحسّ بالخديعة، فلا هو حافظ على رأسه، ولا عربة الإيديولوجيا باقية لتمنحه الإحساس بالعجرفة" ص: 74.

إنه الإبداع بلون الانشطار، السفر الآمن بين الممكن واللاممكن، هو تأسيس لرؤية سردية يحاول الكاتب إرساء لبنتها الأولى. وقد وجد هذا المتن السردي صداه عند المتلقي، حينما تمّ اعتماد بعض النصوص كمنطلقات لامتحانات إشهادية ثانوية وجامعية، وبذلك حظيت المجموعة القصصي بمكانة عند القراء المحترفين، حينما اختارها أساتذة مبدعون موضوعا لامتحانات طلابهم، فضلا عن القراء الهواة.
خاتمة

لقد نجح الأديب العزوزي في نسج عالم أبطاله بدقة متناهية. وبحبكة نقلنا بين الواقعي والتخيلي، ثم بأدبية لا تخلو من رمزية، كان الانشطار عنوانا لمقصديات شاءها الكاتب أن تكون وسيلة سفر إبداعي، لينقلنا عبر نصوص ماتعة إلى حيث الجمال والسمو السردي، هناك حيث، "الطفل الذي ملّ من تأجيل ولادته" كمجموعة قصصية، أو كقصة واردة داخل المجموعة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى