الاثنين ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٢
محمد دكروب رئيس تحرير الطريق التي عاشت ستين عاماً:

الرقيب الداخلي يحاصر الأدب الجديد في لبنان

لا يستطيع منصف إنكار الدور الذي لعبه مثقفو اليسار ومطبوعاته في دعم ثقافة الاستنارة التي تعلن حرية العقل كما لا يستطيع أحد إنكار أن هذا الدور الآن تراجع على الأقل في العشرين عاماً الأخيرة التي شهدت صعود تيارات أخرى منها الأصولية الإسلامية في وقت تواكب مع أنهيار الاتحاد السوفيتي الذي اعتبره البعض مؤشراً على انهيار آخر أصاب المنظومة الاشتراكية ذاتها، وفي إطار هذه التحولات الدرامية أصيبت معظم مطبوعات اليسار بزلزال قوي أدى الى مفارقات مدهشة.. ففي حين تعثرت مجلة "اليسار" التي كانت تصدر عن حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في مصر استطاعت مجلة "الطريق" التي تصدر في بيروت عبور هذا المأزق والاستمرار، ليس فقط بقوى الدفع الذاتي وإنما بصياغة جديدة تعقد فوق أزمة اليسار ذاته.

الأهرام العربي
تتابع هذه المفارقة عبر حوارين الأول: مع المفكر محمد دكروب ، رئيس تحرير الطريق، الذي احتفلنا معه بصمود هذه المجلة وعبورها الى العام الستين والثاني مع الكاتب حسين عبد الرازق، رئيس تحرير مجلة "اليسار" ، التي توقفت عن الصدور نهائياً بعد إعلان الحزب عن إصدار مجلة جديدة تحمل اسم "اليسار الجديد"، والحواران معاً بحثا عن إجابة عن سؤال: لماذا يتراجع اليسار في مصر ويتقدم في لبنان؟

رغم سنوات عمره التي تعطي لأول وهلة انطباعاً بالكبر إلا أن طفولة ما نمت بيننا ونحن نتحدث وشباباً دائماً لمحته وهو يقفز من عينيه ليعلن لي بفرح حقيقي أنه الآن وصل الى سن الجلالة ومعها وصل الى اللحظة التي تستحق الفرح لحظة أن أكملت "الطريق" عامها الستين والطريق لمن لا يعرف تكاد تكون المجلة الفكرية العربية الوحيدة التي ظهرت في القرن العشرين واستطاعت أن تصمد وتستمر رغم عديد من التحديات لتصل الى هذه اللحظة الاستثنائية بكل المعاني تلك اللحظة التي اخترنا أن نشارك فيها صاحب الفرح الناقد اللبناني محمد دكروب.

 قلت له كيف استطاعت "الطريق" الصمود والوصول الى هذه اللحظة التي لا يمكن وصفها إلا باللحظة الاستثنائية؟

قبل أن أجيبك أحب أن أشير الى أن الطريق كعجلة لها تاريخ فقد صدرت بجهد مجموعة من الكتاب منهم رئيف خوري وانطوان ثابت وإبراهيم يزبك وكانت على علاقة بالشيوعيين اللبنانيين والسوريين لكنها كانت أوسع من أن تكون للشيوعيين فقط ومرت بعدة مراحل وكانت في مرحلة تعتمد في تمويلها على الشيوعيين كحزب لكن مع التحولات والتطورات استطاعت المجلة أن تستقل مالياً وتمول نفسها حتى تأخذ استقلالية فكرية أكثر بحيث تمثل الآراء المنشورة فيها أصحابها ولا تكون معبرة عن حزب أو تيار معين ويمكن أن تلاحظ أن الأعداد الأخيرة امتنعنا فيها عن كتابة الافتتاحية التي كانت تنشر قديماً تحت عنوان "رأي الطريق" حتى لا تفسر هذه الافتتاحية كرأي للمجلة واستبدالها بمقال رأي يقدمه أي كاتب بشرط أن يكون مناسباً لموضوع العدد.

 ولكن كيف حسمت المجلة خيار التمويل خاصة أن العادة جرت في عالمنا العربي أن تتعثر المجلات الفكرية المماثلة لغياب التمويل غير المشروط؟

تستطيع هنا أن تتحدث عن معجزة تكمن وراء مشروع "الطريق" واستمرارها فهي مجلة لا تدفع ولم تدفع مكافأة لأي كاتب نشر فيها طوال ستين عاماً والغريب أن عدم الدفع أعطى دوافع وحوافز حقيقية للكتاب الذين اعتبروا أن مساندة المجلة هو دعم لمشروع ثقافي وهذا جانب من المعجزة أما الجانب الثاني فيرتبط بطبيعة قراء المجلة فنحن نمتلك نمطاً من القراء يدفعون للمجلة مبالغ تجاوز كثيراً قيمة الاشتراك السنوي فيها وهذا نمط لا يزال موجوداً في لبنان بشكل خاص ويتزايد على نحو لافت على الرغم من أن كثيرين كانوا يتوقعون إغلاق المجلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي على اعتبار أنها مجلة يسارية ولكن بفضل هؤلاء القراء تمكنت المجلة من الاستمرار بشكل أساسي وضمن معجزاتنا أننا لا نملك هيكلاً ثابتاً للمحررين ويكاد التحرير يقتصر على جهد كريم مروة ومحمد دكروب.

 لكن مع تقديري لما تقول أتصور أن المجلة تراجعت فعلاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ضمن تراجع عام شمل جميع مطبوعا اليسار؟

هذا ليس صحيحاً فقد تزايد عدد القراء على نحو مدهش لنا شخصياً فنحن نطبع كمجلة فكرية حوالي 6 آلاف نسخة وهو رقم كبير قياساً الى طبيعة موضوعات المجلة وأقصى رقم يمكن أن تطبعه مجلة شبيهة هو 3 آلاف نسخة والسؤال: لماذا زاد عدد قراء "الطريق" بعد الانهيار والإجابة ببساطة أننا في الطريق تجرأنا مبكراً على فتح الباب للنقاش حول النظرية الماركسية ذاتها وفي الاشتراكية كمشروع إنساني وأجرينا عملية "غسيل دماغ" ونجحنا في إقناع قرائنا أننا نكتب ما نكبته عن قناعات تمثل أصحابها ولا تعبر عن أحزاب أو تيارات وأصبح كل كاتب مسؤولاً عما يطرحه من أفكار ونشرنا الكثير من الدراسات التي تناقش وتناقض آراء الكثير من قناعات الشيوعيين وعندما حدث الانهيار لم يرتبك مشروع "المجلة" خاصة أننا كنا نتابع بالتحليل في الفترة ذاتها مؤشرات على انهيار النظام الإقليمي العربي قبيل حرب الخليج الثانية واعتبرنا أن ما حدث مقدمة لمراجعة أشمل حول مشروع التنوير العربي ومستقبل الأحزاب العربية وبمعنى ما أصبحت المجلة منبراً لطرح السؤال وليس لتقديم أجوبة يقينية مما أوجد لها أرضية من جمهور جديد بين الشباب الذي هزته تلك الانهيارات وبات متشككاً في كل الإجابات التي طرحت أمامه سابقاً وهذا أعطى حيوية في العلاقة بين المجلة والقراء.

 اسمح لي أن أسألك سؤالاً مباشراً يرتبط بمشكلة التمويل فطوال السنوات السابقة عرف العالم صوراً متعددة من تمويل المطبوعات والمنابر التي تتبنى أيديولوجيات معينة ألم تتعرض "الطريق" لأي إغراء من هذا النوع؟

طوال تاريخها لم تقبل الطريق تمويلاً من أي جهة، كانت تأخذ فقط دعماً مالياً من الحزب الشيوعي اللبناني لفترة طويلة ولكنها كانت ملزمة خلال تلك الفترة بالخط الماركسي السوفيتي وهذا في رأيي الشخصي أحد أسباب تخلف التجربة الاشتراكية العربية هو نتاج التزامها بالخط العام للماركسية السوفيتية أو الدولة السوفيتية وهو أمر أعاق نمو فكر ماركسي عربي مستقل يبحث في واقع الحياة العربية ومشكلاتها وبالتالي تأثرت المجلة بكل هذه الأمور ومع تجاوز خط الحزب الشيوعي اللبناني والتحرر منه أوائل السبعينيات بدأنا النقاش بجدية حول الماركسية ذاتها وقدمنا مساهمات مهمة لكتاب برزوا بعد ذلك ومنهم مهدي عامل الذي نشرنا مقالاته التي كانت خارجة جزئياً عن خط الحزب والطريف أننا كتبنا في مقدمة هذه المقالات مقدمة لتبرير نشرها كمقالات معبرة عن رأي كاتبها وليس عن رأي المجلة ولكننا بالتدريج تعودنا وعودنا قارئنا على هذا النوع من المقالات النقدية في محاولة لتطوير مشروعنا الفكري.

 ظهرت "الطريق" في ذروة أجواء الاستقطاب الفكري بين اليمين واليسار وتبعتها بسنوات مجلات أخرى منافسة نذكر منها مجلة لبنانية ظهرت في الستينيات وكانت تمول مباشرة من المخابرات الأمريكية وهي مجلة "حوار" هذا بالإضافة الى توهج مجلة أخرى مثل "الآداب" العريقة وكانت تعبر عن المد القومي في عنفوانه فكيف تعاملت المجلة مع مثل هذه الأجواء؟

إضافة الى ما ذكرت من مجلات كانت هناك أيضاً مجلة "شعر" التي كانت أقرب الى الليبرالية الغربية وكانت بشكل واضح معادية للماركسية وكانت تبشر بالشعر الجديد وهذه فضيلتها الوحيدة لكنها لم تكن ترى في الغرب سوى وجهه الديموقراطي وتغفل عن وجهه الاستعماري وكانت هذه خطيئتها أما خطيئتنا نحن فهي أننا لم نر من الغرب إلا وجهاً واحداً هو الوجه الاستعماري وأستطيع أن أزعم أننا من خلال ما ينشر في الطريق بلورنا تياراً جديداً هو مزيج من الفكر القومي العربي المتحرر الذي خرج من الأحزاب القومية والى جواره فكر ماركسي جديد لا يتقيد بالخط العام للأحزاب الشيوعية العربية باختصار هو فكر يربط بين الديموقراطية والاشتراكية في تركيبة لافتة للنظر وإيجابية للغاية.

 بوصفك تدير مجلة توصف بأنها مشروع ثقافي ناجح في رأيك لماذا تفشل المشاريع الثقافية الأخرى؟

كتبت مرة عن طه حسين دراسة وعن مشروعه النهضوي ورأيت ولا أزال أرى أن هذا المشروع وغيره فشل لأنه وضع بأفكار ترتبط بالنهضة الأوروبية وأفكار التنوير الفرنسي أكثر من ارتباطه بالعامل الاجتماعي العربي أي بالطبقة الوسطى التي من صالحها إنجاح هذا المشروع.

 إذا تركنا مشروع الطريق وانتقلنا الى مشروع رئيس تحريرها محمد دكروب فإن المتأمل في كتاباتك على صعيد النقد الأدبي خاصة كتاب "الأدب والثورة" يلحظ أنك ومنذ البداية كنت متحفظاً على منهج "الواقعية الاشتراكية" على عكس كثير من النقاد الماركسيين الذين عملوا على إشاعته بعد صدور كتاب "في الثقافة المصرية" لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس؟

أولاً علاقتي بكتاب محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس تحدد علاقتي بالنقد الأدبي ذاته وربما تندهش إذا علمت أن من سعى الى جمع مقالات العالم وأنيس ونشرها في بيروت والذي دعا حسين مروة لكتابة مقدمته المهمة لهذا الكتاب التأسيسي هو أنا لأنني كنت ضمن فريق من المثقفين الشبان في بيروت تحمسنا لهذه المقالات التي عارضها طه حسين في مقاله الشهير "يوناني فلا يقرأ" ولفترة طويلة شغلني هذا الكتاب ولكن بعد فترة لفت نظري في الكتاب بعد ذلك النقد القاسي الموجه الى نجيب محفوظ والى طه حسين على العكس من الرؤية التي تبناها الكاتب لمست ما يمكن أن أسميه "الرؤية الاشتراكية في أدب صاحب نوبل" والفكر التحرري عند عميد الأدب العربي وهذا ما جعلني أطرح تساؤلاتي النقدية على الكتاب والمنهج الذي يتبناه ومن ثم دافعت عن محفوظ وعن طه حسين بل إنني وصفت محفوظ بأنه كاتب "مناضل" فيما دفعني الإعجاب بفكر طه حسين الى إنجاز كتاب كامل عنه سيصدر قريباً تحت عنوان "على هامش سيرة طه حسين".

 ولكن كيف تطور مشروعك النقدي من كتاب الأدب والثورة الى كتابك الأخير "تساؤلات أمام الحداثة" وهو بدوره كتاب لا يخلو من الحديث عن خطايا نقاد الحداثة؟

تستطيع أن تقول إنني اكتشفت أن نفس العيوب التي يرتكبها نقاد الواقعية الاشتراكية هي ذاتها التي يرتكبها نقاد الحداثة بمعنى التعصب والأخذ من المناهج الغربية بشكل ميكانيكي دون رؤية ما يطرح النص الأدبي المحلي على النقد من تساؤلات جديدة لها علاقة بالبيئة وسياقاتها الاجتماعية والسياسية وتوصلت الى أن هذه الأخطاء في العمق هي مواقف سياسية وأنا مؤمن بضرورة الاستفادة من المناهج الغربية وإجراءاتها المعرفية لكن انطلاقاً من واقعنا.

 محمد دكروب الناقد اللبناني .. كيف يتابع الأوضاع الثقافية في لبنان وهل يشعر بمثل ما أشعر به من خطر على مساحات الحرية التي بدأت في التراجع؟

أنا قلق من الأوضاع في العالم العربي كله وبالأخص في لبنان لأننا ليس جزيرة حرية في العالم العربي فنحن جزء منه ونصاب أيضاً بنفس أعراضه المرضية رغم أننا نمارس بعض الحريات لكن علينا أن نعترف أن السنوات الأخيرة شهدت بعض التراجعات و الاعتداء المتواصل والمنتظم على الحريات العامة في لبنان مما خلق "رقيباً داخلياً" في نفوس المبدعين اللبنانيين مما أوجد كابحاً حاصر الأدب الجديد ولكن هناك نقطة ضوء في نهاية النفق تمثلها الرواية اللبنانية التي تعيش ازدهاراً لافتاً فيما تعيش الأنواع الأدبية الأخرى في ركود بسبب الخوف الذي يحاصر مبدعيها.

الأهرام العربي -العدد 268
دمشق – سيد محمود حسن


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى