الرقيب
سوى أصوات تقليب المحقق للأوراق أمامه كان الصمت يشمل المكان . يبدو هادئاً حائراً فيما يقرأه من تقارير وشهادات ،وأنا ذاهل لا أدري ماذا أقول أو أفسر ما حدث حتى لنفسي . الغضب مما نراه في تلفاز المقهى ثم الدخان المتصاعد وخطان من الدم ينزلان من العينين . عشرات الشهود قالوا أني لم أفعلها ، ولكن السؤال الذي حير الناس والصحافة والمباحث من الذي اقترب منه ونفذ في غفلة من الجميع؟.رفع عينيه من الأوراق أمامه وقال:
– أستاذ آدم هل لديك ما تقوله؟
– قلت لك كل ما حدث يا سيدي.
– ألم تنس شيئاً؟
نظرات الشك في عينيه أشعر بها حارة كاللهب. قلت بعصبية:
– أنا لا علاقة لي بما حدث له.
– هذا ما تقرر ..ولكن هناك قتيل ..لا بد من قاتل ولا نجد له أي أثر.. لابد من سلاح .. حتى الرصاصتان لم نجدهما .
– يا سيدي هناك شهود كثيرون...
– لم ير أحدهم ما حدث.. الكل شهد بأنه لم يقترب منه إلا أنت.
شعرت بالاتهام يدهمني ثانية.هممت بالكلام ولكنه قال:
– تستطيع أن تنصرف.
لم أصدق أذني.وجدت نفسي أنظر للنافذة الوحيدة بالمكتب وأتطلع للنهار خارجها. لم أستطع الكلام .قمت في عجلة نحو الباب ولكنه باغتني بسؤال:
– أستاذ آدم .. ماذا كنتم تفعلون قبيل الحادث؟
رفعت رأسي مفكراً قليلاً ثم قلت:
– نشاهد النشرة الإخبارية.
هز رأسه مسترضياً الإجابة ، بينما انهمكت أنا في حريتي المستردة بعد أسبوع كامل من التحقيقات.
**************
أصبحت محور الاهتمام في كل مكان أذهب إليه . بعض الصحافيين يعترضون طريقي والأصدقاء القدامى ظهروا ثانية.حتى زوجتي بدأت تعاملني باحترام، ثم قالت في لحظة صفاء:
– يبدو أن الأيام ستضحك لنا بعد طول خصام.
– ماذا تعنين؟
– ماذا أعني؟ الكنز الذي وجدناه .
– أي كنز؟
بدا عليها غضبها القديم ولكنها أخفته بسرعة تحت القناع الجديد.
– أنت مشهور الآن، ونستطيع أن نجني أموالاً طائلة.
وجدت نفسي أقهقه متجاهلاً نظرتها النارية .استطردت مشفقاً على الاحترام الذي أحظى به:
– أنت تحلمين.
ذهب آخر أمل لي في السلام بعد أن بدأت في الصراخ:
– أحلم؟ حتى في هذه أحلم؟ أقول لك فرصة العمر وسنجني الأموال وتقول لي أنه حلم؟ بل أنت الخائب الذي لا يصلح لشيء.عاطل منذ أشهر وتقول لي أني أحلم .ولم لا أحلم ؟ يجب عليك أن تحقق هذا الحلم، بدلاً من الجلوس على المقاهي .
ويبدو أنها شعرت بأنها أخطأت ،أو أن وجهي تلون بأي لون من ألوان الحرج أو الحزن .سكتت ونظرت للأرض . قلت وكأنني أقنع نفسي وأنا أشيح بوجهي بعيداً :
– سأحظى بعمل عما قريب.
قالت بتهكم ولكن هادئ هذه المرة :
– عمل؟ البلد ليس بها عمل للكفاءات فما بالك بمن هم مثلك .يا أستاذ حكومتك قذفت بمن هم مثلك في المرحاض و..
سكتت ثانية فوجهت إليها نظري مستغرباً سكوتها .هالني ما رأيت.كانت عينا زوجتي جاحظتين ،فمها مفتوح ويخرج منه دخان ، في حنجرتها مباشرة يستقر ثقب صغير والدماء تتساقط منه.قبل أن أبدي أي حركة أو رد فعل كانت قد سقطت على وجهها على أرضية غرفة المعيشة.تحول السجاد في لحظة إلى بركة دماء.أرهفت السمع منتظراً أن يهجم أحد ما علي ويقتلني أنا الآخر .مرت دقائق وأنا لا أتحرك حتى أدركت أن زوجتي مقتولة بنفس الطريقة،وأنه يجب عليّ إبلاغ الشرطة هذه المرة .
**************
كان التحقيق مختلفاً هذه المرة ، والضابط أيضاً تخلى عن هدوئه وأدبه. طوال أربعة أيام من التحقيقات لم يظفروا بشيء ذي بال رغم العنف والتهديد بما هو أشد ،حتى تمنيت لو كنت أنا القاتل فعلاً ، إذن لاعترفت وانتهيت. وفي اليوم الخامس بدا الضابط يائساً مكتئباً. توجست خيفة عندما لمحت معه شخصاً جديداً غير من كان يضربني.أمسكت بملابسي من قبل أن يقتربا مني.أخذت أبكي مستعطفاً .ويبدو أن هذا أثار الضابط أكثر، إذ اقترب مني بنفسه وهوت لكمة على وجهي زلزلتني. شعرت بشيء ينكسر في فمي وبدماء تملأه.بصقت سني بتلقائية المعتاد على ذلك ، ورفعت رأسي ونظرت بعيني نصف المغلقة إلى الضابط أمامي ، بينما عيني الأخرى لم أستطع فتحها من أثر تحقيق الأمس.أتاني صوت الضابط يحمل نبرة الوعيد.مكرراً نفس السؤال الذي لم أستطع معه رداً طوال أيام التحقيق:
– كيف فعلتها يا آدم؟
– والله العظيم لم أفعلها
– المرة الأولى صدقناك وقلنا زحام المقهى يمكِّن أي شخص أن يقتل ويهرب..لكن تلك المرة لا..كنت وحدك معها..
لم أتكلم فاستطرد:
– والآن ستخبرنا كيف فعلتها هذه المرة والمرة السابقة وإلا..
هممت بأن أتحدث ولكنه أكمل:
– وأين سلاح الجريمة؟ وأين تذهب الرصاصة التي تقتل بها؟
قلت مستمداً من كلماته أملاً:
– أليس عدم وجود سلاح أو رصاصة يعني أنني برئ؟
– لو أنها المرة الأولى لقلت لك بلى ..ولكن مرتين تعني أنها ليست صدفة.
تنفست بعمق وقلت في محاولة يائسة أخيرة:
– سأعترف بما تأمرني به أياً كان.
– أريد الحقيقة.
قلت برجاء:
– ليست عندي.
طغى اليأس على وجهه، وحل التعب محل الغضب في صفعته الأخيرة وكأنه يؤدي دوراً مملاً. التفت لمن خلفه وقال:
– اذهب به إلى العنبر.
كان العنبر بالنسبة لي حلماً، سرير ونوم حرمت منهما طويلاً، وفي الصباح خرجت إلى الحوش ورأيت الشمس فنسيت آلام الضرب وعيني المغلقة . في حوش السجن كانت الأنظار تتجه إلي في رهبة وتقدير.لم يجرؤ معظم المساجين على الاقتراب مني خشية أن يلقوا مصير الضحيتين ، وأشاعوا أن لي قدرات خارقة والبعض قال أني لست بشراً ولكن معظم الأقوال كانت تمجد ولا تلعن، لم يقترب مني سوى محمود.كان الوحيد الذي أتحدث إليه بهمومي وحيرتي.كنت أعرف منه ما يقال عني في الصحف التي يتم تهريبها له.قال لي بأن سلاح الجريمتين واحد وأن المسافة التي انطلقت منها الرصاصات هي سنتيمتر واحد. وقال بأنه رغم صعوبة توجيه اتهام لي لأن الرصاص غير موجودة ولا السلاح إلا أن الجميع متأكد أنني الفاعل بطريقة ما .في مرة أثناء سيرنا المعتاد قلت فجأة:
– هل تصدق ما يقال عني؟
– أنا لا أؤمن بالخرافات..لذلك أنا هنا.
– وما الضرر أنك لا تؤمن بالخرافات؟
– مروجو الخرافات أقوياء ويهمهم ألا يظهر أمثالي.
نظرت له وأنا لا أكاد أفهم.اكتشفت أني خلال أيام تعارفي به لم أسأله عن سبب وجوده هنا.نظر حوله وأشار لي أن أنتظر. غاب دقائق ثم عاد وأخرج من تحت ملابسه كتاباً وقال:
– اقرأ هذا وستفهم
قرأت العنوان (نحو الغد) وكان اسم الكاتب(أحمد شعراوي).بدأت أقرأ مادة الكتاب في نفس اليوم قبل أن أنام.استفزني الكتاب وشعرت بأنه يهدم كل ما حولي وكل ما عرفته في حياتي.يتحدث في حقائق تاريخية من مصادر معروفة .يفسر الأحداث والنصوص تفسيراً غير الذي تعودته .مكثت أقرأ في الكتاب عدة أيام منعزلاً عن العالم حتى أنهيته في ليلة مقمرة .استيقظت في اليوم التالي ومشاعر جمة تنتابني . فوجئت بهرج وحركة غير معتادة وأقاويل تتنقل بين المساجين .سألت أحدهم فنظر إلي في ذعر وقال وهو يبتعد:
– صاحبك محمود..وجدوه في زنزانته مذبوحاً.
شهقت في فزع وأنا أشعر بالموت يرفرف فوق رأسي للمرة الثالثة. عانيت ساعات من الوحدة والعزلة.لا أحد يقترب مني.لا حراس ولا مساجين.حتى انتهوا من جثة محمود واستداروا إلى الشهود يبحثون عن الفاعل. أشار الجميع إليّ فعدت إلى الضابط مرة أخرى.
**************
كان أول ما قلته للضابط عندما دخلت عليه:
– لا علاقة لي بالحادث من أي جهة.
كان يجلس صامتاً ينظر إلى عيني مباشرة شاحباً وتطل من تحت عينيه علامات الأرق.أخذت أنظر في عينيه تارة ثم أحول نظري إلى الأرض تارة أخرى وأنا أتخيل ما سيفعله .قال أخيراً:
– وجدنا هذا الكتاب معك.
– نعم ..إنه كتاب محمود.
– الكاتب أحمد شعراوي؟
– نعم
– أمس عثر البوليس على أحمد شعراوي مقطوع الرأس في سيارته .
لم يعنِ الأمر شيئاً في البداية ،ثم اتضح الأمر .محمود وشعراوي في نفس اليوم وبنفس الطريقة؟
– لك صلة بالموضوع.
هممت بأن أطلب الرحمة لكنه لم يدع لي فرصة للكلام واستطرد:
– هذا رأيي الشخصي ..ولكن الجميع يشهد بأنك لم تتحرك من الزنزانة.
عادت إلي الطمأنينة ثانية فأردف وهو يشعل سيجارة ويقوم من مكانه:
– ولكنني مصر أن لك علاقة بالأمر .
قلت بلهجة تودد مصطنعة وقد تحول شعور الطمأنينة إلى إشفاق عليه:
– كيف؟
قال وهو يجلس أمامي:
– لا أعلم ولكني لن أستسلم لهذا الغموض.
أحسست أنه غير واثق مما يقوله..هززت رأسي متظاهراً بالفهم.
– سنفرج عنك حتى حين.
أخفيت فرحتي ولم أرغب في الحديث خشية أن تخونني تعبيرات وجهي، قال وهو يربت على فخذي:
– ولكن صدقني ستعود هنا.. في جريمة أخرى أو حين أجد رابطاً يجمع ضحاياك.
كانت الحرية التي أحلم بها محض أوهام.الجميع يبدو متأكداً أنني الجاني مثل الضابط تماماً .النظرات المتطلعة الخائفة تطاردني أينما ذهبت. في المقهى انكمشت حالماً بالمعسل وكوب الشاي.حمدت الله أن الجميع مشغول بمتابعة أخبار العراق والمظاهرات المتأججة في بلاد العالم.أخذت التعليقات تنهمر والتهليل يعلو والنقد والسباب يصيب الجميع:
– ملعون أبوك يا بوش.
– قل ملعون أبو الجبناء.
– الخيانة عيني عينك.
– أين عهد الرجال؟
– الأصول أن نلبس الطرح.
– هذا شرف لن نناله..لسنا من أهل الطرح بل بالداعرات أشبه.
أنهيت الشاي وتركت الحساب وخرجت خوفاً من المشاكل المنتظرة.سمعت بعدها أصوات تكسير زجاج بالمقهى ثم فرقعة وصرخات عديدة .رجعت ونظرت فوجدت كل شيء يتكسر بدون سبب وبعشوائية، وكل شخص يمسك برأسه أو جزء من جسده فجأة والدماء منه تسيل فيصرخ لاعناً. جريت وقد قررت الابتعاد عن هذا المكان .هاجس طرأ بعقلي أن لي بالأمر علاقة وأن الضابط لن يرحمني لو وجدني هناك. من ميدان إلى آخر ومن شارع إلى زقاق إلى شارع.الأنظار تلاحقني والجميع يبتعدون عن طريقي. وجدت نفسي بعيداً عن مكان الحادث فتوقفت عن الجري ملتقطاً أنفاسي.أحسست بأن هناك من يتابعني. نظرت بجانبي فوجدت امرأة تمسك بجريدة وتبادل النظر بين وجهي وبين الجريدة في قلق.قبل أن أبدي أي حركة أسقطت الجريدة وجرت من أمامي . دفعني الفضول لقراءة ما في الجريدة ..وجدت صورتي وصورة الضابط وخبراً يقول:
– العثور على جثة ضابط في المباحث قُتل بانتزاع مخه حياً .
(تمت)