الراكض إلى حتفه
عقمنفس الطريقنفس البيوتيشدها جهد عميقنفس السكوتكنا نقولغداً يموت وتستفيقمن كل دارأصوات أطفال صغاريتدحرجون مع النهار على الطريقوسيسخرون بامسنابنسائنا المتأففاتبعيوننا المتجمدات بلا بريقلن يعرفوا ما الذكرياتلن يفهموا الدرب العتيقوسيضحكون لأنهم لا يسألونلم يضحكون
بلند الحيدري
كل يوم ، نفس الدرب العاري المصقول بالأقدام المتعبة
المتسربة كالنمل من الأحياء الفقيرة المترامية في الضواحي المتوجه إلى مركز المدينة بانسياب تام .
صعبُ ؛ تمييز الأقدام الواشمة للدرب ، آثار أقدامه تختلط بآثار أقدام الآخرين المتسارعين فجراً إلى المراتع المتفرقة على الأرصفة الكونكريتية في الساحة حول تمثال الحبوبي .
حتى يجدون عملاً يسد رمق الجياع برغيف خبز قفر يسكن الصرخات اللاهية للاجواف المتضورة المحبوسة داخل جدران صامتة لا ترجع سوى صدى الآهات المفجعة للمرضى والجياع والخائفين .
كل يوم ؛ تترصده المستنقعات الموحلة النتنة الراشحة للروائح العطنة والسموم . فشلت كل المحاولات بالعثور على طريق يوصله إلى عمله آمناً مستأنساً بلا كدرة وغبرة رمادية تصبغ صفحة وجهه كالسمنت الخرساني الصلد .
آخر مرة ؛ هطلت أمطار سود غزيرة ، أمطرت السماء الليل بطوله ، ارتفع منسوب المستنقع الزاحف بشراهة إلى منزله عدة بوصات ، اتصلت المستنقعات الأخرى ببعضها ، أزبد وتماوج كالثعبان ثم اقتحم البيت عنوة عبر الكوات والبلاطات المتآكلة .
قبل أن يضع قدمه على عتبة الدار ، ألقى نظرة متسائلة إلى الدرب وتمتم قائلا : صعب علي تدبر أمر الخروج بسلام . ففكر باستعمال بعض قطع الحجارة ، حمل عدة حجارات ورصفها في الماء على مسافات متساوية وحدث نفسه ( لا بد من المحاولة والقفز إذا لزم الأمر على تلك الحجارة ) .
كان ينجو كل مرة من الغرق إلا مرة واحدة . عندما باغته منتصف الليل كان الظلام يتسلل من الأركان المعتمة إلى مناطق الضوء ملتهما الأشياء ، تدفعه ريح عاصفة مزمجرة حتى استولى على كل شيء كالأخطبوط ، رأى المستنقعات تغطي مساحات واسعة على طول الطريق لم تترك أرضا يابسة تطأها قدماه بسلام . ازداد همه واغتم حائرا لا يدري ماذا يفعل !
كانت المستنقعات كالأفواه السحيقة مترعة ببقايا الأسمال و الأدران وصحف ومجلات منقوعة طافية عاكسة صور الحرب والدمار والحصار الذي لاح على وجوه الطفولة المستباحة الفاقدة للبراءة المعتادة حتى بدت كالأشباح من السغب .
كان الغبش رماديا داكنا اجتاز العتبة واضعا قدمه الحذرة المتوجسة فوق أول حجارة ولحق الأخرى بها .اطمأن قليلا ثم خطا الخطوة التالية ثم الثالثة والرابعة . عندما توسط المستنقع ، شعر بالوحدة والسكون ، كأنه في جزيرة وسط المحيط ، تسائل مع نفسه ( هل أستطيع الطيران إلى مسافة ابعد من ذلك ) .
مطّ جسده مزهوا متخيلا أن المسافة لا تستحق هذا العناء . كانت المسافة بينه وبين اقرب موضع بارز تحتاج إلى قفزة موفقة وإلا السقوط في المياه الزرق الآسنة العميقة . تمطى مباعدا بين ساقيه ثم قفز عاليا خفقت أرجله في الهواء كجناحي طائر ذبيح ، لا مست مقدمة حذائه سطح الموضع الذي تمطى كالاسفنجة تحت ثقل بدنه .أنهرست الحجارة كالعجين وهوت قدمه إلى القاع ، كذلك الأخرى المرتجفة في موضع آخر لم يقصده أبدا . سقط في المستنقع مطرطشا الأقذار في كل اتجاه و انكفأ على قفاه منقلبا كالمصروع . شعر بالبلل يتسلل إلى كل جزء طاهر من جسده . مرورا بكل قطعة من ملابسه الصوفية والقطنية ، ازداد ثقله ، اخذ ينزل إلى القاع رغما عنه .خبط المياه بذراعيه بقوة محاولا انتشال نفسه من الغرق . مجرد التفكير بالموت غرقا ، أرعبه وتطلع حوله بعيون جاحضة فزعة. استنجد بالآخرين المارين من بعيد متلفعين بالغبش لا يلتفتون تثقلهم الهموم وتعلوهم الوحول السود ، يعصبون رؤوسهم بعصابات يخشون تدحرجها كأنها أحجار ثقيلة . تبددت قواه ، وهده التعب والإرهاق والخوف انزلق عنوة مستسلماً بجبروت المستنقع الطاغي الذي ارتفعت أمواجه كالسنة اللهب تحيط بالضحية كالإعصار ،لفته سورة عظيمة انبثقت من وسط المياه تحملها روح شيطانية ضاع في خضمها ، لم يبق منه إلا صرخة استغاثة متشظية على جدران حائلة منقوعة مهددة بالفناء والانهيار .
عاد الهدوء إلى المكان وركدت المياه فترة وجيزة ، تسللت أشعة الشمس من خلال فتحات الشرفات و أشجار اليوكالبتوس إلى مياه المستنقع . تكسرت إلى آلاف البقع الضوئية المنعكسة على واجهات البيوت . لم يمض وقت طويل حتى أخذت البيوت تفغر أفواهها على مياه متصلة تغطي دائرة كبيرة مركزها الجثة الطافية وقطرها لا يمكن رسمه بوضوح لصعوبة تعيين المحيط المائي المترامي المتداخل مع الدور الذي شكل اذرعاً عملاقة كالأخطبوط. يمضغ ضحاياه ، يستلهم عنوة صغاراً وكباراً .
احتشد النسوة والصغار على شكل مجاميع صغير ة عند دكات حاجزة أمام البيوت ينظرون بإصرار إلى الجثة الطافية هامسين مع بعضهم كأنهم يحسدونها على السكون والهدوء الذي تنعم به لأول مرة منذ خمسين عاماً .