الحـــصـــار
حاصرها الزمن وقوض حياتها، واستحالت الى جسد بلا روح. تحولت "فاطمة" الزوجة الشابة، الى سجينة من نوع آخر. رمتها سهام الزمن بين أحضان الملل والنسيان. بعدما أشاح عنها زوجها وجهه وتركها تواجه مصيرها لوحدها. سلقتها الناس بألسنتها القاسية. احتمت بحيطان بيتها الاسمنتية وتركت روحها وجسدها في مهب الريح، لا تقوى على الصراع. صارت وسادتها الخالية، كاتمة أسرارها. ففي كل ليلة تزحف عندها وتحضنها بكل شوق وحب وتحكي حتى يستوطن النوم جفونها دون أن تدري. سألت وسادتها "كم مر من الوقت حتى الآن؟" أرادت ترتيب أوراقها. أعادت السؤال كأنها تتحدث الى أحد: "كم مر من الوقت على طلاقي؟" كانت عاجزة عن محاصرة سنوات عمرها الفائتة التي تسللت من بين أيديها دون أن تشعر. بكت كثيرا حتى ارتوت جفونها الشاحبة من ملوحة دموعها الحارة. ارتمت كجثة هامدة على سريرها، محاولة البحث في ذاكرتها عن ملجأ يحميها من الماضي.
كسرت كل المرايا بالبيت، كرهت أن ترى صورتها في المرآة وما فعله بها الناس والزمن. مر من الوقت الكثير، اشتعل الرأس شيبا واحتلت التجاعيد كل ركن من ملامحها الجميلة، كلما حاولت أن تتذكر ماضيها وتعد الأيام، تخطئ وتعيد العد من جديد. صرخت بألم شديد: هل يمكنني ان أنسى أيام عمري؟". فتحت نافذة غرفتها ونظراتها مشتتة تبحث عن شيء ضائع في الأفق، قالت بصوت حاد وحزين:" من يعيد الي أيام عمري، لقد سرقوها مني؟"
استقبلت فاطمة الحياة في بيت صغير من أحياء المدينة القديمة. من أسرة متوسطة تتكون من ستة أبناء وبنات. تعمل الأم أحيانا في البيوت لمساعدة الأب الاسكافي. غالبا ما يقضي يومه كله دون أن يتجاوز بعض الدريهمات. كبرت العائلة وكبرت الطلبات. كانت فاطمة، البنت الكبرى، تطمح أن تكمل دراستها وتحصل على عمل وتقضي على الفقر الذي لازم أسرتها.
استيقظت في ذلك الصباح، لا تستطيع أن تغادر السرير. هالات سوداء احتلت عينيها الباهتتين، اتجهت صوب الحمام وعادت منكسرة الظهر والحركة، تحتمي بغطائها ووسادتها. دفنت رأسها وأحكمت اغلاق كل الشقوق التي تمر من بين فتحاتها أنوار صباحية. رغم ذلك، تدفقت داخل الغرفة أصوات بشرية، وضجيج السيارات. كانت تعشق الحركة، تعتبرها هي الحياة الشيء الذي جعلها تختار السكن في هذا الحي رغم ازدحامه الشديد. أخذتها ذاكرتها الى يوم كانت تستيقظ باكرا، وتفتح النوافذ وتمطر كل الغرف بأشعة الشمس وهواء الصباح المنعش. وتعد وجبة الفطور وتنتظره. كانت خفيفة كنسمة هواء تعيد الحياة للبيت، لا تمل ولا تضجر.
جرس الهاتف يرن، رفعت السماعة، ينقطع الصوت الآتي من الطرف الآخر. لم تفهم فاطمة هذه اللعبة التي صارت لها مدة وهي على هذه الحال. ما ان ترفع السماعة، حتى تشعر بحرارة أنفاس متتالية تكاد تخترق الهاتف، لكن لا تتكلم. كأن أحدا يريد أن يطمئن عليها من بعيد ويعلم بأنها مازالت على قيد الحياة. تنتظر هي الأخرى، وتشعر بألفة تلك الحرارة وتتمنى أن تطول تلك اللعبة، لعبة الحياة والموت، صارت كغريق يتعلق بحبل غير متين.
يوم طلقت فاطمة، رفضت الخروج، كأنها خائفة من شيء ما في الخارج. استحال بيتها الأنيق والجميل الى كهف من الكهوف الغابرة. خيالها متهالك، عادت من جديد الى غرفتها لا تلوي على شيء. لمحت كتابا على سريرها، احتضنته برفق وهامت معه في الماضي الجميل.
دقات خفيفة على باب الغرفة، صوت أمها يقول لها:
– ما زلت مستيقظة يا فاطمة؟ لقد لمحت النور في غرفتك. وتابعت:
– أنت فتاة محظوظة. الزواج سيريحك من الكتب ووجع الراس. ظل الصمت سيد المكان. ثم أردفت:
– لخالك فضل كبير علينا. لولاه لما استطعنا العيش في مثل هذا البيت. لقد جاء البارحة يطلبك للزواج لابنه المهاجر-صرخت حتى زلزلت أركان الغرفة، وأخذت أدرع الغرفة ذهابا وإيابا، رفضت الزواج من أول وهلة، استعطفت الأب، توسلت الى أمها قائلة:
– أمهلاني الوقت حتى أكمل دراستي.
كانت العقول صماء، قال لها والدها:
– الزواج سترة، أحسن من أي دراسة.
وتابعت الأم كأنها تزكي كلام الأب:
– لن تنفعك الدراسة أو الوظيفة في شيء. مستقبلك هو زوجك.
غادرت سريرها، وهي تردد " يوم ولدت، قلت حاضر. يوم زوجوني، قلت حاضر. يوم طلقت، قلت حاضر. لم يعرف فمي سوى كلمة حاضر."
تزوجت فاطمة، وأقيم عرس كبير، رقص فيه الكل وشرب حتى ساعة متأخرة من الليل. عاشت فاطمة، تلك اللحظات بين الحلم واليقظة، حاولت أن تقنع نفسها بالفرح حتى تدرك قيمة تلك اللحظة التي يقولون عنها لحظة العمر. مضى كل لحال سبيله وواجهت لوحدها الضجر والملل. كانت تقضي ساعات طوال أمام التلفاز في انتظار عودته من تجارته. كلمت نفسها ذلك المساء بصوت عال:" يجب أن أعود للدراسة. لقد وعدني بذلك." هيأت المكان والزمان وأسكبت عليهما من روحها الحالمة طقسا رومانسيا وانتظرت لحظة عودته بقلق وفرح. من بين تعليمات الأم لها، أن تطيعه ولا تناقشه. لأن الرجل لا يحب المرأة التي تناقشه كثيرا. شعرت بحضوره قبل أن يفتح الباب. ارتفعت دقات قلبها وتغير لون وجهها كأنه أول لقاء لها في حياتها.
ارتأت فاطمة أن تضيء تلك اللحظة، بالشموع حتى يساعدها على الكلام وتسعفها الحروف. هيأت العشاء، وعينيها كلها انتظار. هل سيثني على مجهودها؟ هل سيبتسم لها ويرسل اليها قبلة حب وهو الآت من البلاد المتحضرة؟ في غفلة منها، كسر الصمت الذي استوطن الغرفة وقال لها بصوت قوي:
– ما هذه الانارة الخافتة؟
حاولت فاطمة استعراض كل ما تعرفه عن الشمع ودوره في حياة العاشقين. قاطعها والاكل مازال في فمه:
– لا أستطيع أن آكل بهذه الطريقة.
قامت بشكل آلي وكلامه مازال يتطاير في الهواء، أطفأت الشموع وكانت بداية نهاية بداخلها. عادت وجلست وهو لا يكف عن الحديث عن تجارته. حاولت أن تقذف بصوتها بين كلماته الكثيرة، تاه عنها صوتها وهربت منها الكلمات. انتظرت كما تعودت دائما الانتظار، في لحظة من لحظات مضغه للأكل، قالت له بسرعة شديدة كمن يشعل نارا ويهرب:
– أحمد، انني أفكر في موضوع كنت قد وعدتني به قبل الزواج.
لم يكف عن المضغ، وقال لها بنوع من اللامبالاة:
– بخصوص ماذا؟
صار الأمر صعبا بالنسبة اليها، تاهت بعينيها بعيدا عن مائدة الأكل، تبحث عن كلامها الضائع. ثم دفعت من فمها بعض الكلمات كأنها تفشي سرا:
– موضوع الدراسة. صمت رهيب. حاولت انقاذ الموقف:
– هناك الدراسة عن طريق المراسلة.و..قاطعها بعنف وتوتر وقال لها:
– لو كنت أرغب في الزواج من موظفة أومن لها شهادة، لكنت فعلت.
رمت الكتاب جانبا وتقوقعت على نفسها، رن الهاتف من جديد. همست لروحها الهالكة"ياه، من يا ترى افتكرني؟" رفعت السماعة من جديد، لا صوت غير الأنفاس تتقاذف كأمواج عاتية وتحدث بلبلة جميلة بداخل فاطمة، تجرأت وقالت بصوت متردد:
– ألو،
لا جواب. وانقطع الخط.
جلست تنظر الى الهاتف وتتمنى لو لم تتكلم لكي تحضن تلك الأنفاس لمدة أطول. تكلمت بصوت مرتفع وهي تحاور نفسها "عائلتي؟ لا أظن. لقد اتهموني بالخيانة، وعدم الحفاظ على اسم العائلة. لكن تلك الأنفاس أعرفها وتعرفني جيدا. صديقاتي؟ كلهن خفن من المرأة المطلقة كأن بها مرض معدي."
لم تدرك فاطمة كم من الوقت فات وهي تدك بقدميها أرض الغرفة. سقطت كورقة الخريف فوق سريرها. ابتلعها الصمت والسكون والأغطية التي تحمل ألف حكاية صغيرة وكبيرة. نامت بين أحضان النوم تبحث عن عدم العودة.
بكت كثيرا من أجوبته القاسية، قام الزوج وولج غرفة الجلوس في انتظار قهوته.
منذ زواجها به، صارت جزءا من جلساته وحكاياته حتى كؤوس الشاي التي تعشقها هجرتها من أجله. في يوم احضرت كأسين من القهوة وجلست الى جانبه، قالت له والابتسامة تستوطن كل ملامحها:
– أتدري يا أحمد، انه عندما كنت صغيرة، كنت أعتقد أن القهوة لا يشربها الا الرجال. لست أدري كيف جاءني هذا الإحساس. قاطعها وعينيه لا تفارقان التلفاز:
– انها حقيقة. لم تستوعب اجابته وتابعت:
– انني اذكر حادثة وقعت لي، كانت أمي قد هيأت القهوة لأبي وعمي، دخلت للغرفة قبل أن يلجها أحد، وأخذت في تقليد أبي في شرب القهوة. اذ بي أصفع على قفاي بقوة حتى سقطت أرضا. كانت أمي تقول لي والغضب يتطاير من عينيها:
– القهوة للرجال. من يومها وأنا أسأل لماذا القهوة للرجال فقط.
وضع قهوته جانبا، أطفأ ما تبقى من سيجارته ذهب للمرحاض وعاد يعدل من سرواله وقال لها وهو يتهيأ للجلوس:
– احمدي الله اذن، أنني سمحت لك بشرب القهوة.
استيقظت فاطمة بفزع، لم تعد تتحكم في الزمن، تمشي على ردهاته دون أن تتوقف. تهرب من قسوة اللحظة الى الماضي القريب. تحتمي بين أوقاته الهادئة وتبتسم لأصواته العذبة. لم يبق لها سوى الماضي ونيسا. خرجت من البيت هروبا من هواجسها القاتلة، مشت كثيرا تحت المطر، تركته يلامس كل أعضاء جسمها الهالك ويرويه من شدة الظمأ. يحضنها كما يحضن العاشق حبيبته. عادت الى بيتها مبتلة لكن تحمل نفسا جديدا. فتحت كل نوافذ البيت، طردت كل أيام الماضي الحبيسة بين جدران بيتها. ارتمت في حوض حمام ساخن مغمضة العينين، وسافرت الى يوم الزفاف. يوم حملت كل نساء العائلة الشموع وأضاءت بها الحمام الشعبي، يمشين بخطى متثاقلة ويزغردن والعروس وسطهن لا تتكلم. لا يكفن عن الزغاريد والغناء كأنها طقوس احدى القبائل البدائية. هكذا كانت تراقبهن بعينيها الحزينتين وهي تحاول عبثا الهروب من تلك الأصوات البشرية التي كسرت صمت الحمام وزاحمت صوت الماء. ناجت نفسها وهي مازالت تحتمي بماء الحوض الساخن "هنا على الأقل أستحم بإرادتي. "اختلطت دموعها بالماء، تزينت العروس، كانت جميلة الجميلات كما قيل لها. ازدحمت القاعة بالأصوات البشرية والآلات الموسيقية، وفاطمة في مكانها خارج كل هذا الهرج والمرج. لم تمنع عنها زينتها الإحساس بالكآبة والغبن. لم تعد ترى الا رؤوسا وأجسادا تتمايل كأشباح ترقص على أنغام ساحرة وستكون هي القربان. حاول الاقتراب منها، رفضت و قالت بكل قوة:
– جسدي ملكي لوحدي.
صفعها حتى ارتمت على الأرض، وبكت بحرقة وقالت:
– حاضر.
سكتت الطبول والأصوات لما صمتت فاطمة. انسحبت روحها من بين الأجساد المتلاصقة، تبحث عن نسمة هواء تعيد اليها الانتعاش الهارب.
جلست على كرسيها لما هيأت كأس قهوة احتضنته بين راحتيها، وقبلته وهمست اليه"وأخيرا أستطيع أن أستمتع بمذاقك بكل حرية."
في يوم من الأيام المتشابهة في حياة فاطمة، طرق أحدهم الباب، قامت تخب في ثيابها وتسأل:
– من الطارق؟
فتحت الباب دون أن تنتظر جوابا، كان أحد الباعة المتجولين يريد أن يبيعها عطرا أو صابونا بنصف الثمن.
رجعت أدراجها، وهي تتساءل "لماذا هجروني بعد ان طلقت؟" وأردفت" جسدي هناك، ما أعيشه حاليا ما هو الا كابوس. يجب على أن أخرج من هنا ولن أعود أبدا."
خرجت من بيت كانت اختارته في لحظة فرضت عليها. فتحت عينيها وفتحت الباب وأغلقته وراءها دون الالتفات وذهبت تبحث عن أثار أولى خطواتها التي كانت هناك، حتى تستعيد قوتها وحيويتها وأحلامها.