الحافلة
تبدو لي الحافلة غبية. غبية أكثر من اللازم. في المنعطفات تستدير مثل امرأة بدينة جدا وتجد صعوبة كبيرة في ذلك. في الطرق الضيقة تجد الحافلة صعوبة أكبر. تسبب مشاكل كثيرة في السير وقد تصدم سيارات أصغر منها مثل فيل هارب من حديقة للحيوانات أو جلمود فولاذ صدئ حطه السيل من عل.
لا أكره الحافلة من دون سبب. عندما أكرهها فإني أفعل ذلك لسبب وجيه. فالحافلة ليست غبية فقط, بل فيها تتجمع عقد الناس وأشياؤهم الظاهرة والباطنة، وفيها تتفجر نزواتهم التي بدلوا الغالي والنفيس في سبيل إخفائها.
يركب المتسولون الحافلة ويتظاهرون بعاهات غريبة. أحيانا يتمشون مثل بطة عرجاء فيبدون مثيرين للضحك. يريدون الصدقات عبر تصنع إعاقات غبية. يزعجني أكثر ذاك المتسول الذي يدعي العرج. يصعد حافلة وهو يعرج برجله اليسرى, وفي حافلة أخرى يعرج باليمنى. ذاكرة المتسولين قصيرة, هذا ما قاله الحكماء, وربما قلتها أنا ونسبت ذلك للحكماء.
تجتمع كل المساوئ في الحافلات. المتسولون, المتسللون الذين لا يشترون تذاكرهم, المجانين, الموسيقيون الذين يستعطفون جيوب الركاب بألحان وأصوات مقززة.
المتسول الذي يركب كل الحافلات رفقة صديقته, التي يدعي أنها أخته, يزعم دائما أنهما أتيا من مدينة بعيدة وانقطعت بهما السبل. يقول إنه يريد العودة رفقة أخته المريضة إلى منزلهما مساء اليوم نفسه. بعد شهر يصعد الحافلة ويقول للركاب أنفسهم الكلام نفسه ويعطيه الناس الدراهم نفسها بعبارات التأسف نفسها التي يرسمونها على وجوههم. لم يقل الحكماء إن ذاكرة ركاب الحافلات قصيرة أيضا.
وحده المغني الذي يعزف أوتارا شجية على أوتار عود حقير مصنوع من قوقعة سلحفاة يكسب دراهمه بجد. يغني كلاما حكيما ولا يبتسم. يصعد من الباب الأمامي ويجلس قرب السائق ويغني عن الحياة والمرض وقلة ذات اليد. لا يمد يده إلى أحد، الركاب هم الذين يمدون إليه أياديهم بالدراهم. يقبضها بتأفف ظاهر ويشكر الله على نعمه ثم ينزل من الباب الخلفي نحو حافلة أخرى تاركا دمعا متحجرا في مآقي الركاب. إنه أحسن متسول عرفته حافلات الرباط. يتمنى الركاب لو يصعد دائما لكنه لا يفعل. يغيب أياما أو أسابيع ثم يعود. إنه أشبه بمتسول أرستقراطي بملابس قديمة لكنها نظيفة. عيونه مثل عيون قط دلّله الشبع، وشعره يميل إلى الصفرة. في الصيف يرتدي قمصانا بيضاء أو بألوان فاتحة, وفي الشتاء يتدثر بمعطف بني طويل, أو بجلباب أسود ثقيل.
المجانين عادة لا يؤدون ثمن التذكرة والقابض لا يطالبهم بذلك. عادة ما يجلسون في المقاعد الخلفية ويصمتون. حمقهم لا يمنعهم من التفكير في أن مصيرهم سيكون الطرد من الحافلة لو أتوا عملا غير عاقل.
المجنون الذي يسميه الناس عباس يرفض الإهانة التي يلحقها به القابض حين يرفض مطالبته بثمن التذكرة. يغضب عباس ويصرخ "تعال خذ ثمن تذكرتك.. هل أنا مجنون حتى تمر من أمامي مر الكرام؟ خذ ثلاثة دراهم وأعطني تذكرة... لو عدت إلى فعلتك هاته ولم تعطني تذكرة فسأفقد عقلي يوما ما". القابض العاقل ينصاع لتهديدات عباس المجنون ويبيعه تذكرة.
عباس أكثر مجانين حافلات الرباط تعقلا. أحيانا يدندن بكلام يلحنه بطريقته ولا يؤذي أحدا. يتحدث كثيرا بعربية فصحى يزن فيها الفاعل والمفعول والنعت والبدل والمبتدأ والخبر. يؤدي ثمن تذكرته مثل أي مواطن عاقل وينزل في حي "يعقوب المنصور".
لكن المغني الطروب والمجنون عباس مجرد استثناءات. أنا أكره الحافلات لأنها كما قلت غبية. تنعطف بصعوبة وتصدر صوتا مثل ديناصورات العصر الطباشيري. آه لو اشتريت سيارة... سيارة جديدة بمحرك قوي, ومن الأفضل أن تكون زرقاء حتى أعلق فيها دمية صغيرة برتقالية اللون وأقف في إشارات المرور الحمراء. أسعد كثيرا بالتقاء هذه الألوان الثلاثة. الأزرق والبرتقالي والأحمر.
لكن أسوأ ما يحدث في الحافلات هو تحالف الصيف والسكارى, أو اجتماع الحرارة برائحة النبيذ الرخيص وصراخ الرضع. حينذاك تصبح الحافلة لا تطاق. يفتح الناس النوافذ ويحركون كل ما في أيديهم رغبة في إيقاظ هواء يطرد عطانة الجو.
تحدث أشياء غريبة في الحافلات, لذلك أكرهها. أكرهها وأتمنى شراء سيارة. سيارة جديدة بمحرك نظيف لا تتوقف بي في طريق سيار في منتصف الليل.
في الأسبوع الماضي طلق رجل امرأته بالثلاث في الحافلة. هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث. لم يجد هذا الرجل الغبي مكانا أصلح لذلك من الحافلة. رجل غبي اختار مكانا غبيا ليطلق امرأته الغبية بالثلاث أمام ركاب أغبياء.
حكايات الحافلة أشبه ما تكون بقصص الرسوم المتحركة. حكايات عبثية ومن دون معنى، مثل حكاية القط والفأر حيث تنتهي عداوتهما المزمنة بصداقة متينة. لم يحدث هذا بالضبط للرجل وزوجته, أو التي كانت زوجته, لكن ذلك حدث والسلام, وهذا ما يجعلني أكره الحافلة أكثر. إنها بدينة مثل فيل وتستدير في المنعطفات بصعوبة.
بدأت حكاية الطلاق البائن في الواحدة بعد الظهر. ركبت الحافلة كالعادة في ساعة يكون أغلب الناس يتناولون غداءهم أو يبحثون عن جزار يشترون منه قليلا من اللحم المفروم ليطبخوه بسرعة ويأكلوه بسرعة ويعودون إلى عملهم بسرعة وينامون فوق مكاتبهم بسرعة.
الجو حار والحافلة لم تكن ممتلئة, لكن كل المقاعد تقريبا عامرة. حين تمتلئ الحافلة بالفعل فإنه لا يصبح فيها مكان لذبابة. في محطة ثانوية صعد رجل وزوجته, وابنة صغيرة كانا يناديانها هيفاء, ربما كانت في سنتها السادسة أو السابعة.
سائق الحافلة يعرف الرجل. سلم عليه بحرارة وداعب رأس الطفلة وحيا باحتشام الزوجة القصيرة. القابض أيضا يعرف الرجل وزوجته وابنتهما هيفاء. سلم عليهما وداعب الطفلة التي كانت تبتسم وهي بين النوم واليقظة.
تكلم القابض مع الرجل وتبادلا الدعابات. عرف ركاب الحافلة أن الرجلين يشتغلان معا في الشركة نفسها للحافلات بدليل أن الرجل لم يشتر تذكرته ولا تذكرة زوجته وابنته. شكا القابض للزوجة كون زوجها, الأعلى رتبة في الشركة, يتعسف أحيانا في إنزال العقوبات بالعاملين لأسباب تكون في أغلب الأحيان تافهة. قال بين الجد والمزاح إنه يكون أحيانا عرضة لتلك العقوبات. ضحكت الزوجة من شكوى الرجل وقالت إنها ستعاقب زوجها. ضحك الزوج من شكوى صديقه وقال إنه سينتقم منه لأنه شكاه إلى زوجته. ضحك الركاب من شكوى القابض وضحك الزوجان بينما طفلتهما هيفاء تنظر إلى الناس والأشياء من دون أن تتكلم.
الزوجة قالت للقابض إنها ستضرب زوجها حين يعودان إلى المنزل مساء عقابا له على ما يقوم به في حق عمال شركة الحافلات. قالت ذلك على سبيل الدعابة طبعا.. والله أعلم. الركاب ضحكوا من كلام المرأة وزمّ شاب وسيم شفتيه وتمنى أن تمنحه الأقدار زوجة مرحة مثل هاته.
الزوجة المرحة تتكلم بصوت مرتفع ويسمعها كل ركاب الحافلة التي تعبر شوارع فسيحة بها سيارات قليلة. المرأة أعجبها ضحك الناس من تهديدها لزوجها بالضرب فقالت إنها ستذيقه علقة العمر هذه الليلة. ضحك الركاب والسائق والقابض فرفعت الزوجة يدها وداعبت زوجها كأنها ستضربه على رأسه. ضحك الزوج وقال لها إنها لو ضربته فسينتقم من كل العمال, وليس من القابض وحده.
العزاب في الحافلة تمنوا أن يمنحهم الله زوجة مرحة مثل هاته, والمتزوجون تمنوا لو صحبوا معهم زوجاتهم لكي يرين بأم أعينهن هذه الزوجة المرحة والرومانسية جدا. أما الفتيات العازبات والنساء المتزوجات فتمنين أن يكون زوجهن مثل زوج المرأة المرحة, يداعبنه في الحافلة أمام عشرات الركاب ويتظاهرن بضربه على أم رأسه وهو ساكن مثل طفل وديع.
حين وصلت الحافلة منطقة "الوزارات" حيا الزوج القابض والسائق ونزل رفقة زوجته التي كانت تضحك وتدفعه بلطف كي ينزل وتهدده بالضرب. ضحك الزوج ونزل من الحافلة وهو يحمل طفلته هيفاء.
كان ركاب الحافلة ينظرون بغبطة إلى الزوجين السعيدين وهما يتبادلان الدعابات في الشارع. تحركت الحافلة وقالت راكبة شابة لصديقتها "أنظري كم هما سعيدان.. ليرزقنا الله زوجا مثله".
كانت عشرات العيون تتابع الزوجين وطفلتهما وهما يبتعدان نحو شارع قريب متفرع من شارع الوزارات المحاذي للحديقة العامة. أنا أيضا لم أستطع منع نفسي من التأثر بهذه الحياة السعيدة للزوجين وتمنيت أن يرزقني الله سيارة, سيارة بمحرك جديد.
في المساء خرجت من العمل منهكة. محطة الحافلات قرب محطة القطار غالبا ما تكون متخمة بالناس في انتظار الحافلات. الموظفون يخرجون من عملهم في وقت واحد تقريبا ويصبح صعود الحافلة إنجازا صعب المنال. هذا سبب إضافي يجعلني أكره الحافلة. غبية وبدينة وتجد صعوبة كبيرة في الاستدارة في المنعطفات وتمارس الدلال على ركاب بؤساء.
في مكان من المحطة يتصاعد صراخ امرأة تشتم أحدا وصوت رجل يشتم أحدا. الناس يتجمعون حول مصدر الصراخ. عادة ما يتلهى الناس بالنزاعات الخفيفة في انتظار قدوم الحافلات. أحيانا أعتقد أن شركة الحافلات توظف أشخاصا يتبادلون الشتائم ويتنابزون بالألقاب في محطات الحافلات حتى تخفف من ملل الركاب.
ارتفع الصراخ أكثر وتجمع المزيد من الناس حول الرجل والمرأة. الظلام الذي بدأ يخيم على المكان يجعل الناس يقتربون منهما أكثر.
جاءت حافلة وركب القليل من الناس وبقي الآخرون يتفرجون على الشجار. أنا نفسي لم أستطع مقاومة الإغراء. توجهت نحو الزحام. المرأة المرحة نفسها في حافلة بعد الظهر والزوج المرح نفسه والطفلة هيفاء نفسها. الزوجة تشتم زوجها وتقول له إنها صنعته بعدما كان متشردا تائها في الشوارع. قالت إنها جعلت منه إنسانا ومنحته عملا بعدما كان عاطلا يبحث عن قوت يومه ولا يجده.
استلطف الناس هذا الشجار وأحاطوا أكثر بالزوجين. الزوج يتفادى زوجته وهو يحمل هاتفه النقال. حين تطارده يلتفت نحوها ويهددها بأنه سيحطم أسنانها. الطفلة هيفاء تبكي وتمسك بيد والدها فتجرها والدتها بعنف وهي تشتمها.
جاءت حافلة أخرى وركب القليل من الناس. الآخرون فضلوا متابعة الشجار على الهواء مباشرة. خلف زجاج النافذة رأيت الزوج يتجه نحو الباب الأمامي للحافلة. صعد وحيى السائق بانفعال وجلس في المقدمة. تبعته زوجته وهي تجر بعنف طفلتها هيفاء وخلفها عشرات الناس الذين صعدوا بدورهم. امتلأت الحافلة فجأة وشتمت المرأة زوجها وهددها هو بأنه سيحطم وجهها إن استمرت في إهانته. قالت إنه متعود على الإهانة. تحرك السائق وصمت الركاب في انتظار إجابة الزوج. قالت له "إذا كنت رجلا أجبني". قال لها على الفور "أنت طالق.. وبالثلاث".
صرخت المرأة واستدارت نحو الركاب وسألتهم أن يشهدوا على كلامه. أخرجت هاتفها النقال ونادت أمها "ألو.. أمي.. لقد طلقني... طلقني بالثلاث.. أخرجته من الفقر وهاهو يطلقني بالثلاث في الحافلة.. أمي.. إنه طلقني في الحافلة أمام مائة راكب".
بكت المرأة وكادت تصفع ابنتها الجميلة هيفاء. لم يكن في الحافلة مائة راكب. ربما عددهم يفوق السبعين بقليل.
استدارت الحافلة عند منعطف بين شارع "جون كينيدي" وحي "مابيلا". المنعطف ضيق ويوجد قرب محطة لتوزيع البنزين. أحيانا أقول في نفسي ماذا لو فقد السائق سيطرته على أعصابه واقتحمت الحافلة المحطة. لا أفكر فيما يمكن أن يحدث. الحافلة يمكن أن تفعل أي شيء. إنها مثل فيل هارب من حديقة للحيوانات. أكثر ما يزعجني فيها أنها تستدير بغباء في المنعطفات وتصدر أصواتا مثل ديناصورات.