الجمل والجمال
قالوا: الجمل طلع النخلة، هذا الجمل وهذه النخلة
تحنجل أطفالُ القرية، وأنشدوا المثل التاريخي، (الجمل والنخلة)، لحَّنوه،وغنَّوه، ضاربين على دفوفهم، متجولين في الحواري والأزقَّة، وكل بيت في القرية يعرف القصة منذ بدايتها.
وبدايتها كانت بالأمس القريب؛ فقد حدَث شيء غريب لَم يتوقعه أحد، وأوقف البلدة كلها في ذُهُول، وهم يشاهدون الجمل الصغير يفلتُ مِن يدِ صاحبه، ويسرع نحو النخْلة، ويتسلَّقها بحرفية وخفَّة ورشاقةَ مُدرَّب، ثم ينزل منها بالسهولة نفسها! حتى إن الجمَّال نفسَه ما كان يعرف أن في جَمَله هذه المهارة الفائقة.
دُهش في البداية، وطلب من الجمل أن يكرِّر الفعل، ففَعَل، فانقلبتْ دهشتُه إلى سرور غامر، وبسملة وحوْقَلة، ورقي الجملُ خوفًا من العُيُون المتَطَلِّعة في تطفُّل شديد.
هذه الفِعْلة أنقذتِ الجمل من البيع في السوق غدًا، وأنقذت الجمَّال من الفقر الذي أنشب أظافره، فلم يعدْ لديه أمتعة ينقلها له الجمل، وفي كل بيتٍ تقريبًا نوعٌ من البهائم يستخدمها أصحابها في شؤونهم، فلم يعد لجمله فائدة نقل لا له ولغيره، وبالطبع لن يدخل به في سباق الهجن، كل هذا اضطره للتفكير الطويل قبل أن يقررَ بيع الجمل، فليس معقولاً أن يُبقى على جملٍ يأكل ويرعى من أجل بعض الصوف لعمل الطواقي!
من يومها والجمل والجمَّال في حالٍ منَ النَّشْوة، يرقدان في الظِّلِّ الوارف، وفى الشمس الدافئة، طوال اليوم.
وعند المغرب يجتمع نفر من أهل القرية يريدون أن يروا الجمل وهو يتسلَّق النخلة كالقط السيامي، فيشير لهم الجمَّال بالعصا التي اقتناها حديثًا أن يبتعدوا ويصنعوا حلقة منظمة بدقة وإلا...، فيفعلون صاغرين، وبالطبع هم يدفعون في مقابل هذا المشهد ما يفرضه عليهم الجمَّال.
وهؤلاء المتفرجون لا يدفعون ثمن المشهد فقط، ولكن أيضًا هم يتكفلون بثمن الجلباب الصوف الذي ابتاعه الجمَّال، وثمن تغيير بعض العادات بالنسبة له.
فبمرور الوقت سئِم الجمَّال هذه الحياة البدائية، فقرر أن يطورها.
أولاً: تغيَّر نوع الأكل الذي يتناوله الجمل، فلم يعد يتغذَّى كسائر الحيوانات العُشبيَّة على الحشائش، وأوراق الشجر، والنباتات الشوكيَّة، بل صار يأكل التفَّاح والموز، ويتناول الخبز الإفرنجي، وأنواعًا من التغذية الجيدة والمدروسة بمقادير أُنْشِئ لها مطبخٌ خاص، وعُيِّن لها الخبراء، و.. يشرب العصائر.
ليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل أصبح يُفَكِّر في عمليَّة تجميل لرتْق شفته العليا المشقوقة، فما عاد في حاجة إليها الآن، وهي التي تساعد في تجميع الأشواك الجافة، ومضْغها بكفاءَة عالية كما كان.
ولَم يدفع المتفرجون ثمن إطعامه فقط، بل متعته وترفيهه، والعمل على تحسين أدائه؛ فطموح الجمَّال ليس له حد، فكر كيف يحافظ على الجمل من غدْر الأيام، وربما من المتفرجين أنفسهم، فاتخذ له تعريشة من أغصان، ثم صارتْ بيتًا من حجارة، ثم قصرًا منيفًا!
ومد القصر بعين ماء زلال يمشي في مواسير، فهو غير سكان القرية الذين يشربون الماء الخام من النهر مباشرة.
ثم لاحظ أن الجمل يتعب بعد كلِّ عرْض يقوم به، فعَيَّنَ مَنْ يقوم بتدليك جسده وعمل (السَّوْنا) له؛ ليظل ليِّنًا قادرًا على مُهمَّتِه؛ ولهذا كله كان حمام البخار، وكان يومٌ للاستجمام.
أما بقية الليل فيمضيه الجملُ في صُحبة الجمَّال، أو الجمَّال في معية الجمل، في تراس القصر أمام شاشة العرض التي يسجل عليها مغامرات الصباح بين الجمَل والمتفرجين، ومنها يعرفان مَن حمل نظرات حقدٍ للجمل، ومن ربَّت على ظهرِه في حُنُوٍّ، ويتبادلان أطراف الحديث، وهذا هو طقسهما اليومي قبل أن يخلدا للنوم العميق.
هناك شيء دائمًا يؤرق الجمَّال لا يفصح عنه، ترى لو صعد الجمل النخلة يومًا، ولم يستطعِ النزول، ماذا سيكون الحال؟
أهل القرية أيضًا لهم ما يؤرقهم، يدور الهمس فيما بينهم بأن هناك حديثًا غامضًا يدُور بين الجمَل والجمال نخشى منه على المستقبل، ويقسمون أن الجمل يردُّ على الجمّال بلغة لا يفهمها إلا الجمَّال نفسه، ويؤكدون أن الحوار الطويل الذي يجريه الجمَّال مع الجمل عبارة عن نصائح وتوعية، تضمن لهما الاستمرار في العيش الرغيد والمركز الأبهة الذي تولَّياه.
فعلم الصوتيات أثبت أن الجمَّال يقول للجمل:
– لا تُفَرِّط في حقٍّ من حقوقك أيها الجمل الشجاع.
– لا تكثر الهزار والمزاح مع سفهاء القرية؛ حتى لا يتجرأ أحدهم ويلمس لك ساقًا أو ذيلاً، أو يتجرأ آخر بسبٍّ وقذف، أو يتذكر ثالث أيام بؤسك الطويلة فيعيرك به.
هذه الأسرار بين الجمل والجمَّال بثت القلق للبعض.
وإذا حاول أحدُهم أن يتسلق ليسمع ماذا يقول الجمَّال للجمل، هبَّ الجمل من فوره، ورفسه فأرداه بالقاضية؛ فله أذنان صغيرتان تسمعان دبَّة النملة، وله عينان كبيرتان تُبصران جيدًا في الليل والنهارعلى مداردائرة كاملة، أما أهدابه الكثيفة فبمثابة قرون استشعار يستطيع بها تحديد اتجاه التجسُّس.
ولذلك اضطر الجمَّال إلى بناء سور عالٍ حول القصر، وزَوَّدَه ببعض الحرَس المأجورين، وعاش الجمل في أمان في كنف الجمال يسمع ويخزن ويهز رأسه سمعًا وطاعة واستيعابًا، فكل ما يفعله من أجل صالحه وسعادته.
وذات مساء والجمل والجمّال في حالة من الاسترخاء والحوار، نظر الجمَّال إلى السماء، وقال: يا الله، كيف فاتني هذا الأمر؟!
وهبَّ واقفًا، فهب معه الجمل، وقد أدرك خطورة ما خطر على ذهنِ صاحبِهِ، ففتح عينيه عن آخرهما؛ دليل استعدادٍ لفهم.
قال الجمَّال:
– التركة! هذه تركة مميزة لمن نتركها أنا وأنت أيها الجمل؟
– لو مات أحدنا تسلق الرعاع إلى بيتِنا، وأخذوا مكانَنَا، فهناك مَن يتربص لذلك، يا جملي الجميل، ولهم حلم وأطماع فيما نحن فيه من صدارة، ونحن الاثنان بلا عائلة، هل تموت كلالةً وأنا مثلك، لا بد أن نتزوج أنا وأنت لينجب كل منَّا وريثًا.
تعلمت القرية كيف تقيم الاحتفالات وتقدم التبريكات.
احتفلت القرية كلها بعُرس الجمل والجمال، فالجملُ تخيَّروا له ناقة من أجود النِّياق، قوة وأصلاً، والجمال تزوَّج جميلة الجميلات، مِن أعرق العائلات.
ولأنَّ كلاًّ من العَرُوس والناقة تعرف دورها بالتمام والمهمة التي جاءتْ من أجلها، ولدتْ له الناقة بعد عام بالتمام -وهي واقفة- سليلاً جيدًا، طوله 90 سنتيمترًا، ووزنه 50 كيلو جرامًا، وأخذتْ تُرضعه، فلمَّا وقف على قدميه بعد ساعتين من ولادَتِه، هلَّل الجمَّال وكبَّر، فتجاوب معه أهلُ القرية، وباركوا للجمل، ودعوا له بطول العمر حتى يرى وريثه في مكانه.
أما العروس فقد سبقتها بثلاثة أشهرٍ، وضعتْ وليَّ العهد سليل المجد، وكان الجمَّال قد أجَّل الاحتفال بِمَوْلُودِه حتى تلد الناقة، وها هي قد ولدتْ ووجب الاحتفال، أقام الجمَّال احتفالاً للمناسبتَيْن.
وكما في كل احتفال يلتفُّ أهل القرية، في رقص وطرب ومرح، لكن هذه المرة كان بينهم متربِّص حاقدٌ أطلق عدة طلقات في الهواء وواحدة قصد بها عن عمْد رأس الجمل.
الحزن الذي أصاب الجمَّال كاد يودي به، لولا الأمل الصغير الذي سيكبر ويحتاج رعاية، صارتْ مهمة الجمَّال مُضاعفة بين ابنه وابن الجمل، كان يرضعه الخبرات ويعيد عليه الوصايا، وينظر للسماء داعيًا الله أن يتحقق حلمه، ويمسك الجمل الصغير مكان الجمل الراحل، وحتى يكبر الابن الصغير ويأخذ مكان الأب.
ولكن رغم وجود الأمل ضاع الأمان، فمع كل أملٍ يظهر حاقدٌ، ولا نعرف وقتًا ظهورِه.