الثقافة
ــ الثقافة والمثقف /محاولة تعريف:
إن للثقافة تعاريف مختلفة ومتنوعة، وقد عدها بعضهم فوصلت عنده إلى 160تعريفا، وهي في كثير من جوانبها مرادفة لكلمة حضارة، ولكن أسوق هنا واحدا من التعاريف التي أميل إليها وأحبذها ،وهوأن:"الثقافة هي المخزون الحي في الذاكرة، كمركب كلي ونمو تراكمي.. مكون من مُحَصِّلة العلوم، والمعارف، والأفكار، والمعتقدات، والفنون، والآداب، والاخلاق، والقوانين، والأعراف، والتقاليد، والمدركات الذهنية والحسية، والموروثات التاريخية، واللغوية، والبيئية.. التي تصوغ فكر الانسان وتمنحه الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تصوغ سلوكه العملي في الحياة..).
ولعل أطرف تعريف بقي عالقا بذهني منذ يفاعة سني هو :"الثقافة هي ما يبقى في الذاكرة بعد أن ننسى كل شيء".
ويبدو أن تنوع وتعدد تعاريفها يشي بعدم الحسم فيها.
أما المثقف فهو الشخص الذي يكتسب ذهنيا الأشياء المذكورة أعلاه.
لكن ثمة نظرة أو نظرات إلى هذا المثقف نفسه، من حيث طبيعته ومن حيث وظيفته.ولعل من أبرز المفكرين الذين تعرضوا لهذه المسألة المفكر الإيطالي غرامشي.
فالمثقف عند هذا المفكر هو مثقف نموذجي وعضوي.
والمثقف النموذجي عنده نوعان،النوع الأول هو الذي يخلق المعرفة، بمعنى أنه ينظر - من التنظير -، وله رؤية خاصة للكون. والنوع الثاني هو الذي يطبق النظرية في الواقع العملي، فهو ينزل أفكار المنظر من واقعها المجرد إلى العالم المحسوس، وطبعا هو يعطي نموذجين لهذا المثقف وهما كارل ماركس بوصفه مثقفا خالقا للمعرفة ولينين بوصفه مثقفا مطبقا لهذه المعرفة.
ثم إن المثقف العضوي عند غرامشي هو الذي له دراية بحقل عمله، بغض النظر عن مستواه الدراسي، وبغض النظر عن كونه ملما بالأبجدية أم لا.فهو مثلا في نظره يعتبر الفلاح مثقفا عضويا،حتى ولو كان لا يعرف القراءة والكتابة ،باعتبار أن له إلمام ودراية بحقل عمله،كما يعتبر السقاء - بائع الماء - مثقفا عضويا كذلك،باعتبار أن له طرقه وأساليبه في التعامل مع الماء كبضاعة انطلاقا من حصوله عليها إلى نهاية ترويجها وتصريفها.
هذا غيض من فيض في موضوع الثقافة،b والآن أتناول الموضوع من زاوية الثقافة بوصفها ضرورة يحتاجها المرء في واقعه المعيش، إذ "ليس يحيا المرء بالخبز وحده" كما يقول المسيح.
ــ الثقافة بوصفها ضرورة:
الثقافة غذاء للعقل، تنميه وتعمل على توسيع أفقه،هذه حقيقة لا يختلف فيها اثنان،فكل عقل بلا ثقافة يظل عقلا يشكو من الفاقة والعوز.
لكن إذا كنا مرة بعد مرة نتساءل عن الجدوى من الثقافة وعن النتيجة التي يمكن أن يحصل عليها المرء وهو يجهد نفسه ويبذل كل ما في وسعه في سبيل الحصول على زاد ثقافي، فإن الإجابة عن هذا التساؤل تكون كالتالي: الثقافة تحمل نتيجتها معها،بمعنى أن الجزاء نحصل عليه أثناء عملية التثقيف وبعدها،وهوذلك الإحساس المعنوي الذي ينتابنا كلما حصلنا على أفكار ومعلومات جديدة، إنه إحساس بالمتعة لا يعرفه إلا من أوتي قدرة على التذوق والفهم، و من يشكل له التثقيف هما ملازما له في كل الأحوال.
إن الذين ينظرون إلى الثقافة من زاوية مادية صرفة لهم نظر قاصر، وأستسمح عن وصفي إياهم بهذا الوصف، لأنهم نفعيون بكل ما تحمل كلمة نفعية من معان ودلالات قدحية. إنني لا أغفل ولا أهمل الجانب المادي – أقصد الجانب المالي بالضبط- ودوره في الحياة، فهو يكاد يكون كل شئ في واقعنا الحالي ،بيد أن هناك طرقا أخرى تؤدي إلى المال، وقد تكون الثقافة إحدى هذه الطرق.
العصر الحاضر هو عصر الماديات بامتياز، وهوالعصر الذي تلقت فيه القيم الأخلاقية والإجتماعية النبيلة ضربات قاسية وموجعة، الجشع والاستغلال السئ للمعطيات التقنية ـ حتى لا أقول المعطيات العلمية ـ أي أن سبب تلك الضربات الخالية من الرحمة في المحصلة النهائية هو الحيف والغبن الماديان اللذان يلحقان فئة من الناس دون أخرى.
إن هذا الطغيان المادي أثر بشكل سلبي على الإنسان، وبالتالي قام بزحزحة قيمه النبيلة من مكانها قصد تعطيلها أخيرا،فبسبب عذا الطغيان المادي بات المرء ينظر إلى الثقافة وإلى التثقيف كلون من الترف العقلي أو كمضيعة للوقت لا طائل من ورائه، في مقابل ذلك بات ينظر إلى التهافت على المال وتكديسه نظرة تقديسية، ذلك أن المال لا الثقافة هو الذي يستطيع وحده أن يكتري منزلا ويشتري سيارة وأن يدفع في فاتورة الماء والكهرباء..الخ..الخ..وإذا فما الفائدة من الجري واللهاث وراء الثقافة؟
هذه النظرة بكل ما تحمله من تنقيص وازدراء للثقافة ليست عامة، وبالتالي لا يمكن أن نسحبها على الجميع، فثم فئة أخرى لها وجهة نظر أخرى في الموضوع مخالفة ،بحيث إنها ترى في الثقافة ضرورة لا غنى للمرء عنها، وهي تغتنم كل الفرص المواتية من أجل تحسين مستواها الثقافي ،فهي تقرأ وتكتب، وتحضر الندوات والمحاضرات، وتزور المعارض والمتاحف وتشاهد الأفلام والمسرحيات وتسمع الأغاني الجميلة الجيدة، وتساهم في كل نقاش جاد وهادف إلى آخر ذلك، مما يساهم في تنمية الوعي ورقيه. وهي إذ تفعل ذلك يزداد فهمها وتعطشها لكل ما هو ثقافي حتى يصير لديها هذا الأخير هما يوميا وهاجسا مصاحبا على مدار الساعة. مثل هذه الفئة هي التي حفظت لنا التراث الحضاري عبر القرون والأجيال، ولولاها لكنا نعيش الآن في ظلام دامس.
إن الذين يقللون من أهمية الثقافة لا يعرفون للثقافة معنى، بل أكاد أقول لا يعرفون للحضارة وللإنسان قيمة، ولذا نطلب منهم أن يلجوا أبواب الثقافة وسيتأكدون بأنفسهم أن نظرتهم التبخيسية لها هي نظرة غير صائبة، وأنا ضامن لهم أنهم إذا دخلوا باب الثقافة سيحبون المكوث والبقاء هناك، لأن فردوسها يغري بذلك.
في النهاية أزعم أن الحياة بلا ثقافة هي حياة لا تستحق أن تعاش، فمن سيتفضل ويثبت لي عكس هذا؟