الاثنين ١٣ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

البيتُ الصامتْ

أصبحتُ أتكلّمُ كثيراَ بلا شكّ في الآونةِ الأخيرة...وأُثرثرْ...وأقولُ ما يُقال وما لا يقال...مع أنني بنتُ مجتمعٍ رضِعَ قلّة الكلام مع لبن الأمّهات..فالكلامُ السياسيّ عندنا محفوفٌ بالمخاطر..والكلامُ الدينيّ قد ينتهي بضرب الأعناق..وكلام الحبّ والعشقِ ترفضهُ الأعراف...أما كلام البورصة والدولار فهو أعلى من مستواي باعتباري من ذوات الدّخل المحدود...

لذلك أثرثرُ في عملي حولَ الطبخ والطقس وأحداث المسلسلات الدرامية....وعندما أعودُ إلى البيت ينفكّ لجامي وتنحلّ عقدة لساني وأقول ما يحلو لي...وقد ألتفتُ أحياناً لأتأكد من إحكامِ النوافذ المغلقة حتى لا يسمعني أحدٌ ما....أو أخفضُ نبرة صوتي عندما أقتربُ من أحد المحرّمات فالجدران كما تعلمون لها آذان..

زوجي... كان يسمعُني فيما مضى ويحدّثني ويجادلني ويعاكسني...وكنت أحبّ فيه الرأي المعاكس لي في كلّ شيء...فالطويل عندي يراه قصيراً....والأبيضُ عندي يراهُ كالحاً...والحلوُ مراً...والمالحُ حامضاً...وهكذا...

تعوّدتُ على إيجابيته المعاكسة لسلبيتي...ولا أزالُ أحنّ إلى حواراتنا التي كانت تنتهي بالسّباب والشتائم...أنا الآن أحنّ إلى فناجينِ القهوة التي قد تنكسرُ أحياناً بعد جدالٍ عقيم...فألملمُ فتاتها عن الأرض بسعادةٍ غريبة....وأحنّ إلى حديثهِ الذي كنتُ أقطعهُ وأمضي لغرفةِ النّوم وأصفقُ الباب خلفي وأستندُ عليه...وكلّي آذانٌ صاغية للشّتائم التي يكيلها عليّ...

لكنّه أصبحَ صامتاً في الفترة الماضية...فلا يتكلّم ولا يريد أن يسمع...وأصبح وجودهُ في البيتِ كغيابهِ..فلا سلام ولا كلام...وغدا ذلك الجسد المتحرّك في المنزل بلا روح...

هيه...أين أنتْ ؟؟...اشتقتُ..أنا... لصوتكَ..لصراخكَ...لزفيركَ..لشخيركَ...هل أكل القطّ لسانك؟؟

لماذا أصبحتْ عيونُك جامدةً كالتمثال؟..ووجهكَ بلا ملامح...؟!

أرجوكْ..حدّثني..اشتمني..اضربني..مزّقني..فقط عُدْ إليّ..كُنْ معي..أو عليّ..أحنُّ إلى أكوامِ غسيلك المتّسخ..ورائحتكَ الكريهة..ودنياكَ الفوضوية.. ارجعني كما كنتُ كوكباً يدورُ في مدارك...ونجماً يلمعُ في فلككَ...أوجاريةً تأمُرها في فناءِ قصركَ..أو..أو حتى ذيلاً تجرّه من مؤخرتك...أتعبَني الصّمتُ القاتل يا هذا...ودمّرني تجاهلكَ لي...ها أنا أنحني أمام جبروتك..وألينُ وأنطوي إزاءَ قسوتك..وأصغُرُ مقارنةً بعظَمَتكَ...وكبْريائكَ...

أين تفرّغ أحاديثك التافهة ؟..وفي أيّ أذنٍ تصبُّ كلماتكَ قطرةً قطرة ؟..أم أنّ الصمتَ أصبحَ ملاذك..تدخلُ البيتَ واجماً...وتجلسُ ساهماً...وتستلقي نائماً..وتتقلّبُ في الفراشِ حالماً..ثمّ تخرجُ في صباح اليوم التالي بوجهٍ ممسوحٍ من التجاعيدِ..فارغٍ من التّعابيرِ..حتى سيارتك غدتْ بلا صوتٍ فلم أعد أعرفُ متى تجيئ ومتى ترحل...لقد أصبح بيتنا بالفعل صامتاً كصمتِ القبور... لذلك زادت ثرثرتي أثناء الدّوام في عملي كبديلٍ عن صمتي المطبقِ في المنزل..فلا تنتقدوني...بل وأصبحتُ أكذبُ..وأؤلّف القصص والحكايات عن بيتي السّعيد..وعشي الدافئ..وزوجي الذي يُغرقني بعباراتِ الحبّ والغزل..والرضى والقبول....- ويا للسخرية - طبعاً زوجي حبيبي..ونديمي..وكليمي..!!!

أما زميلاتي في العمل فأصبحنَ حاسداتٍ لي.. معجباتٍ بزواجي الناجح..وبيتي الحنون..منتظراتٍ لي كلّ صباح..أروي لهنّ مع فنجانِ القهوةِ قصّة الأمس.. وحكايةٍ جديدة من حكايات السّعادة...فأتأوّهُ من فرط سعادتي ؟!...وتتأوّهْنَ من فرطِ التعاسة..!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى