البنية النفسية لشخصية الكذاب
إلى أصدق الصادقين في عالمنا العربي، الذين كشفوا زيفنا ونفاقنا وكذبنا، أهل غزة الكرام!!
من أغرب الشخصيات التي تعاملت معها شخصية الكذاب، وربما ترجع هذه الغرابة إلى القدرات غير العادية التي يتحلى بها الكذاب، وبشكل خاص فيما يرتبط بإصراره على الكذب، ودفاعه المستميت عما يقول. أذكر أنني تعاملت مع بعض البشر نساء ورجالاً ممن يحلفن على المصحف الشريف على صدق مواقفهم، حتى يدفعوني إلى الشك في نفسي. لكن بمرور الوقت يتأكد لي صدق إدراكي لكذبهم؛ لكن هذا الإصرار هوا ما دفعني لمحاولة فهم هذا النوع من الشخصيات، وتركيبتهم النفسية، وقدراتهم غير العادية على مزاولة الكذب، واحتراف العمل به. فالبنية النفسية للشخصية الكذابة معقدة وتتضمن جوانب مختلفة تساهم في سلوك الفرد. وفيما يلي تحليل مفصل لخصائص هذا النوع من الشخصيات.
1- التنافر المعرفي: التنافر المعرفي هو ظاهرة نفسية يشعر الفرد من خلالها بعدم الراحة أو التوتر بسبب التمسك بمعتقدات أو قيم أو مواقف متضاربة. في سياق الكاذبين، ينشأ التنافر المعرفي عندما تتعارض أفعالهم (الكذب) مع معتقداتهم الداخلية (تقدير الصدق). ويخلق هذا التناقض ضغوطًا نفسية لأن الحفاظ على صورة الذات على أنها صادقة أثناء الانخراط في سلوك مخادع هو تناقض جوهري. ولتخفيف هذا الانزعاج، يستخدم الكاذبون آليات مواجهة مختلفة. إحدى الطرق الشائعة هي التبرير، حيث يقنع الكاذب نفسه بأن خداعه مبرر. على سبيل المثال، قد يعتقدون أن الكذب ضروري لتجنب إيذاء مشاعر شخص ما أو لحماية أنفسهم من العواقب السلبية. استراتيجية أخرى تتمثل في تغيير تصورهم للواقع. فمن خلال الكذب المتكرر، يمكن للأفراد أن يبدأوا في تصديق اختراعاتهم، وبالتالي تقليل التنافر بين أفعالهم ومعتقداتهم. ويمكن أن يصبح هذا الخداع الذاتي متأصلاً لدرجة أنه يطمس الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف في أذهانهم. بمرور الوقت، لا تساعد هذه الآليات الكاذبين على إدارة الانزعاج الفوري الناتج عن التنافر المعرفي فحسب، بل يمكن أن تؤدي أيضًا إلى نمط أكثر ترسخًا من الخداع.
2- الخداع الذاتي: إن الخداع الذاتي هو آلية دفاع نفسية يقنع فيها الأفراد أنفسهم بأن أكاذيبهم حقيقية، فيكذبون على أنفسهم فعليًا لتجنب المشاعر السلبية المرتبطة بالخداع. بالنسبة لمن يكذبون بشكل معتاد، يعمل هذا الخداع الذاتي كأداة حاسمة للالتفاف على الشعور بالذنب والعار والقلق الذي يصاحب الكذب عادةً. ومن خلال إقناع أنفسهم بأن افتراءاتهم حقيقية، يمكن للكذابين الحفاظ على شعور بالاتساق الداخلي والنزاهة. وتتضمن هذه العملية تغيير تصورهم للواقع، وتجاهل أو إعادة تفسير الأدلة التي تتعارض مع معتقداتهم الزائفة بشكل انتقائي. وكلما زاد انخراطهم في الخداع الذاتي، أصبحت أكاذيبهم أكثر إقناعًا للآخرين لأن سلوكهم ونبراتهم ولغة جسدهم تتوافق بشكل أوثق مع أشخاص يؤمنون حقًا بما يقولونه. وبمرور الوقت، لا يعمل هذا الخداع الذاتي على تعزيز سلوك الكاذب فحسب، بل يخلق أيضًا حلقة تغذية مرتدة حيث تصبح الحدود بين الحقيقة والزيف غير واضحة بشكل متزايد، مما يجعل من السهل عليهم الاستمرار في الكذب بصدق واضح ومن دون عبء الصراع الداخلي.
3- الافتقار إلى التعاطف: إن الافتقار إلى التعاطف هو سمة نفسية مهمة غالبًا ما توجد لدى الكاذبين المعتادين، مما يمكنهم من خداع الآخرين دون الحواجز العاطفية المعتادة التي تمنع معظم الناس من الكذب. ويتضمن التعاطف القدرة على فهم ومشاركة مشاعر الآخرين، مما يعزز الشعور بالارتباط والمسؤولية الأخلاقية تجاههم. ومع ذلك، غالبًا ما يُظهر الكاذبون المعتادون قدرة منخفضة على التعاطف، مما يسمح لهم بالكذب مع القليل من الاهتمام بالعواقب التي قد يخلفها خداعهم على من حولهم. يعني هذا النقص أنهم أقل عرضة لتجربة الشعور بالذنب أو الندم أو الشفقة التي تردع الأفراد عادةً عن الكذب. وبدلاً من ذلك، يركزون في المقام الأول على احتياجاتهم ورغباتهم وأهدافهم، ويعطون الأولوية لمصلحتهم الذاتية على رفاهية الآخرين. ويسهل هذا الانفصال العاطفي عليهم التلاعب بالناس وخداعهم واستغلالهم دون الشعور بالضعف الأخلاقي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يجعلهم الافتقار إلى التعاطف أكثر مهارة في الكذب، حيث يمكنهم صياغة رواياتهم الخادعة دون الاضطراب العاطفي الذي قد يفضح عدم صدقهم. ومع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي هذا التجاهل المعتاد لمشاعر ووجهات نظر الآخرين إلى نمط من السلوك حيث يصبح الكذب جزءًا طبيعيًا لا يتجزأ من تفاعلاتهم، مما يعزز ميولهم الخادعة.
4- السمات النرجسية: تتميز السمات النرجسية بالشعور المتضخم بأهمية الذات، والحاجة العميقة للإعجاب، والافتقار إلى التعاطف مع الآخرين. وغالبًا ما يلجأ الأفراد ذوو الميول النرجسية إلى الكذب كأداة أساسية للحفاظ على صورتهم الذاتية وتعزيزها. وذلك لأن قيمتهم الذاتية تعتمد بشكل كبير على التحقق الخارجي وإدراك الآخرين لهم. ولضمان رؤيتهم في أفضل صورة ممكنة، غالبًا ما يختلق النرجسيون قصصًا عن إنجازاتهم وقدراتهم وخبراتهم، مما يخلق شخصية عظيمة تثير الإعجاب والاحترام. ويمكن أن تتراوح هذه الأكاذيب من الزخارف الدقيقة إلى الاختلاقات الصريحة، وكلها مصممة للتلاعب بإدراك من حولهم. بالإضافة إلى تعزيز الذات، يستخدم النرجسيون الكاذبون الخداع للتلاعب بالآخرين والسيطرة عليهم، مما يضمن بقائهم في مناصب القوة والتأثير. فمن خلال الكذب، يمكنهم تشكيل المواقف لصالحهم، وإعادة توجيه اللوم، والحفاظ على الهيمنة في البيئات الاجتماعية والمهنية. وغالبًا ما يصاحب هذا السلوك التلاعبي عدم الشعور بالندم، حيث يركز النرجسي في المقام الأول على احتياجاته ورغباته الخاصة، مع القليل من الاهتمام بالحقيقة أو تأثير خداعه على الآخرين. وبمرور الوقت، يمكن أن يصبح هذا النمط من الكذب والتلاعب راسخًا بعمق، مما يعزز سماته النرجسية ويجعل من الصعب عليه بشكل متزايد الانخراط في تفاعلات صادقة وحقيقية. ولا تعمل الدورة المستمرة من الخداع على تعزيز صورته الذاتية المتضخمة فحسب، بل تعمل أيضًا على إدامة اعتماده على التلاعب كوسيلة لتحقيق أهدافه، مما يزيد من عزلته عن العلاقات والتجارب الحقيقية.
5- الاعتلال النفسي والاعتلال الاجتماعي: إن الاعتلال النفسي والاعتلال الاجتماعي هما نوعان من اضطرابات الشخصية المعادية للمجتمع، يتميزان بتجاهل عميق لحقوق ومشاعر الآخرين، والكذب هو سمة بارزة لهذه الحالات. في الأفراد المصابين بالاعتلال النفسي أو الاعتلال الاجتماعي، لا يكون الكذب مجرد سلوك ظرفي بل هو نمط شامل ومستمر. غالبًا ما يُظهر هؤلاء الأفراد افتقارًا تامًا للندم أو الشعور بالذنب تجاه أفعالهم، مما يسمح لهم بالانخراط في سلوكيات خادعة دون الصراعات الداخلية التي تردع معظم الناس عادةً عن الكذب. وغالبًا ما يكون خداعهم استراتيجيًا ومحسوبًا، ويهدف إلى التلاعب بالآخرين واستغلالهم لتحقيق مكاسب شخصية، سواء كانت مالية أو اجتماعية أو غير ذلك. وعلى عكس الكاذبين النموذجيين الذين قد يشعرون بالذنب أو يخشون عواقب القبض عليهم، فإن المصابين بالاعتلال النفسي والاعتلال الاجتماعي بارعون في الحفاظ على أكاذيبهم بهدوء مخيف وثقة، مما يجعل خداعهم أكثر صعوبة في الكشف عنه. يقترن هذا الافتقار إلى الاستجابة العاطفية للكذب بسحر سطحي ووقاحة، يستخدمونها للتلاعب والسيطرة على من حولهم. إن أكاذيبهم غالبًا ما تكون جزءًا من نمط أكبر من السلوك التلاعبي والمعادي للمجتمع، بما في ذلك الاحتيال والسرقة وحتى العنف. وبمرور الوقت، يمكن أن تتفاقم عادة الكذب لديهم، لتصبح أكثر تعقيدًا وخطورة مع استمرارهم في استغلال ثقة الآخرين ونقاط ضعفهم دون ضمير. يسلط نمط الخداع المستمر الذي نراه في الاعتلال النفسي والاعتلال الاجتماعي الضوء على الأطراف المتطرفة من طيف سلوك الكذب، حيث تترسخ السمات المعادية للمجتمع لدى الفرد بعمق لدرجة أن الكذب يصبح طبيعة ثانية، ويُستخدم كأداة أساسية للتنقل في تفاعلاتهم وتحقيق أهدافهم الأنانية دون أي اعتبار للحقيقة أو الضرر الذي تسببه.
يكشف فهم شخصية الكاذب عن مشهد نفسي متعدد الأوجه حيث تتقاطع السمات والسلوكيات المختلفة لتمكين الخداع وإدامته. يلعب التنافر المعرفي دورًا حاسمًا حيث يعاني الكاذبون من صراع داخلي بين أفعالهم ومعتقداتهم في الصدق، مما يدفعهم إلى تبرير أكاذيبهم أو تحريف تصورهم للواقع لتقليل الانزعاج. ويزيد الخداع الذاتي من تفاقم هذه المشكلة، حيث يقنع الكاذبون المعتادون أنفسهم بأن افتراءاتهم حقيقية، وبالتالي يتجنبون الشعور بالذنب والقلق المرتبطين بالكذب ويجعلون أكاذيبهم أكثر إقناعًا للآخرين. ويُعد الافتقار إلى التعاطف عاملًا مهمًا آخر، مما يسمح للكذابين بالخداع دون النظر في التأثير على الآخرين، حيث أن قدرتهم المنخفضة على التعاطف تعني أنهم لا يعانون من الروادع العاطفية التي تمنع الخداع عادةً. وتدفع السمات النرجسية الأفراد إلى الكذب من أجل تعزيز صورتهم الذاتية والتلاعب بالآخرين، وضمان حصولهم على الإعجاب والسيطرة التي يتوقون إليها. وفي الحالات الأكثر تطرفاً، تشكل الاعتلالات النفسية والاجتماعية أساساً لنمط مستمر من السلوك المخادع، حيث يؤدي غياب الندم والنهج الاستراتيجي للتلاعب إلى جعل الكذب جانباً أساسياً من تفاعلاتهما. وتوضح هذه العناصر مجتمعة كيف تساهم الآليات النفسية المختلفة وسمات الشخصية في تطوير والحفاظ على شخصية كاذبة، حيث يصبح الخداع وسيلة راسخة ومفضلة في كثير من الأحيان للتنقل في التفاعلات الاجتماعية وتحقيق الأهداف الشخصية. وهو أمر يجعل من الضروري تناول البنية الاجتماعية لشخصية الكذاب، وهو ما سوف نتناوله في المقالة القادمة.