إعادة النظر في كتاب طه حسين
إعادة النظر في كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» في سياقه الفكري والاستعماري
مقدمة
عندما صدر كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" عام ١٩٣٨، كان بمثابة إعلان عن التجديد الوطني وبيان للتوافق الفكري مع الغرب. في هذا العمل الطموح، يحدد طه حسين رؤية شاملة للتحول الثقافي والتعليمي في مصر، مؤكدا أن التقدم الحقيقي، المادي والمعنوي، لا يمكن تحقيقه إلا باستيعاب مصر الكامل للتراث الفكري الأوروبي والإلمام الكامل به. يستند الكتاب، في إطار خطابه الحداثي المُقنع، إلى افتراض واضح ومثير للجدل؛ أن الطريق نحو الحضارة والتنوير يمر بالضرورة عبر أروقة المعرفة الغربية والعقلانية والنماذج المؤسسية. لا يدعو حسين إلى الإصلاح فحسب؛ بل يدعو إلى تحول معرفي، وإعادة توجيه عميقة للعقل المصري نحو ما يسميه المبادئ "العالمية" للعلم والثقافة الحديثة، التي يساويها بالحضارة الأوروبية.
في صميم حجة حسين، تكمن ثنائية حادة بين قطبين حضاريين. من جهة، يقف "الغرب"، الذي يصوره على أنه ميدان الفكر العقلاني والبحث المنضبط والمؤسسات التقدمية؛ ومن جهة أخرى، يقف "الشرق"، المحاط بالتقاليد والمشاعر الدينية والركود. يشكل هذا التقسيم المفاهيمي المحور الفلسفي للكتاب، مشكلا حجته الكاملة حول التعليم والحوكمة والإصلاح الاجتماعي. يرى حسين أن علل المجتمع المصري التي تتمثل في الأمية والجمود الفكري والتخلف الاقتصادي تنبع من تشابكه مع أشكال الفكر التقليدية واعتماده على أنظمة تعليمية بالية، وأبرزها المدارس الدينية التي يرى أنها تعيد إنتاج الطاعة بدلا من الابتكار. وبدلا من ذلك، يتصور نظاما تعليميا حديثا تسيطر عليه الدولة، على غرار النظام الأوروبي، مُصمّمًا لتنشئة مواطنين عقلانيين قادرين على التفكير العلمي وخدمة الوطن.
ومع ذلك، فإن لغة حسين الراقية والجادة والوطنية تخفي مفارقة معقدة. فبينما يعلن ولاءه العميق للهوية الثقافية المصرية وتراثها الإسلامي، يصر على أن مستقبل الأمة الوحيد القابل للاستمرار يكمن فيما يسميه "الاندماج" في المشروع الحضاري الغربي. لا يقدم هذا على أنه استسلام ثقافي، بل فعل من أفعال البراجماتية المستنيرة، مشيرا إلى أن تبني المعرفة والمؤسسات الأوروبية وسيلة لاستعادة مكانة مصر المستحقة بين "الدول المتحضرة". بهذا المعنى، يُجري الكتاب مناورة بلاغية دقيقة؛ فهو يترجم التغريب إلى خطاب فخر وطني، ويعيد صياغة التقليد على أنه تحرر. وهكذا تبدو الدعوة إلى استعارة الأساليب الأجنبية واجبا وطنيا لا تبعية أيديولوجية؛ أى استراتيجية إقناعية تخفي تبعية معرفية أعمق وراء لغة التقدم والإصلاح.
أولا: السياق التاريخي والفكري للكتاب
يجب قراءة كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر"، الصادر عام ١٩٣٨، على أنه نتاج لحظة تاريخية بالغة الخصوصية، لحظة اتسمت بالتحول السياسي والقلق الثقافي والثورة الفكرية. وقفت مصر في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي عند مفترق طرق بين إنهاء الاستعمار والتحديث. وقد أعادت المعاهدة الأنجلو-مصرية لعام ١٩٣٦، ظاهريا، السيادة الجزئية للدولة المصرية، مما سمح بانسحاب بعض القوات البريطانية ومنح الحكومة سيطرة أكبر على الشؤون الداخلية. ومع ذلك، ظل الاستقلال الحقيقي بعيد المنال؛ فقد حافظ البريطانيون على وجودهم العسكري على طول قناة السويس، واستمرت الهياكل الاقتصادية في تفضيل المصالح الاستعمارية. وفي ظل هذا الجو من الاستقلال المقيد، واجهت الطبقة المثقفة في مصر سؤالا حاسما تمثل فيما يلي: أي نوع من الأمة ينبغي أن ينبثق في ظل الاستعمار؟ في هذا السياق المشحون، سعى حسين، كمثقف عام ومعلم، إلى صياغة مشروع ثقافي متماسك قادر على التوفيق بين الفخر الوطني ومتطلبات الحضارة الحديثة.
شهدت ثلاثينيات القرن العشرين أيضا تحولا اجتماعيا مكثفا وظهور طبقة متعلمة جديدة. فقد أنتج توسع المدارس والجامعات جيلا من الشباب المصريين المتحمسين للمشاركة في رسم مصير بلادهم، لكنهم كانوا غير متأكدين من الأسس الفكرية التي سيبنون عليها. شدد الجيل الوطني الأقدم، ممثلا بشخصيات سياسية مثل سعد زغلول، على التحرر السياسي والحكم الدستوري. في المقابل، حول جيل حسين من العلماء والمفكرين التركيز نحو الإصلاح الثقافي والتعليمي كأساس أعمق للاستقلال. وهكذا أُعيد تعريف المسألة الوطنية؛ ليس فقط كيف يمكن لمصر أن تحرر نفسها سياسيا، بل كيف يمكنها إعادة ابتكار نفسها فكريا وأخلاقيا في عالم تحدده بشكل متزايد الهيمنة العلمية والمؤسسية الأوروبية. وقد لاقى صوت حسين صدى خاصا لأنه خاطب هذا الوعي الناشئ؛ جمهورا طالب بالحداثة والهوية، بالتقدم والأصالة.
فكريا، انتمى حسين إلى التيار الليبرالي الحداثي الذي شكل الفكر المصري والعربي منذ أواخر القرن التاسع عشر. وقد دشن هذا التيار، الذي يشار إليه غالبا باسم حركة النهضة، مصلحون أمثال رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. وقد تقاسمت هذه الشخصيات الإيمان بتوافق، بل ضرورة، التوفيق بين التراث الإسلامي والبحث العقلاني والعلم والتقدم. إلا أنه مع مطلع القرن العشرين، تطور هذا التفاؤل الإصلاحي إلى شكل أكثر حزما من الليبرالية الثقافية، وضع التعليم العلماني والعقلانية العلمية في صميم النهضة الوطنية. ورث طه حسين، الذي تلقى تعليمه في الأزهر والسوربون، هذه الثنائية الفكرية؛ فقد أرساه تعليمه الكلاسيكي على التراث العربي والإسلامي، بينما أطلعه تعليمه الفرنسي على عقلانية عصر التنوير، والوضعية، والمُثُل الإنسانية للحداثة الأوروبية. لذا، يمثل فكره توليفة من هذه التأثيرات، ولكنه فكر يهيمن فيه العنصر الأوروبي بشكل متزايد كنموذج شرعي لـ"الحضارة".
في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، لا يتحدث حسين بصفته أكاديميا فحسب؛ بل يتحدث بصفته استراتيجيا وطنيا يُعبّر عن رؤية للتحديث الموجه من قبل الدولة. لقد تأثر مفهومه للإصلاح تأثرا عميقا بمأزق عصر ما بعد الاستعمار. بعد أن شهد قيود الاستقلال السياسي المحض، خلص إلى أن التحرير الوطني لا يُمكن أن ينجح دون تحرير فكري مقابل؛ تجديد الحياة الثقافية من خلال التعليم والعلم والفكر العقلاني. بالنسبة لحسين، فإن السيادة السياسية دون تحول ثقافي جوفاء؛ إنها لن تعيد إنتاج التبعية إلا تحت مسميات جديدة. وهكذا، يعيد تعريف مشكلة تخلف مصر ليس كقضية سياسية أو اقتصادية، بل كأزمة ثقافة وعقلية. ويرى أن الاستقلال الحقيقي يتطلب إعادة صياغة العقل المصري وفقا لمبادئ العقلانية الأوروبية والانضباط العلمي.
يجب أيضا وضع مشروع حسين في السياق الأيديولوجي العالمي لفترة ما بين الحربين العالميتين. تميزت ثلاثينيات القرن العشرين بتنافس التيارات الليبرالية والفاشية والاشتراكية والقومية الاستعمارية في أوروبا والشرق الأوسط. وظلت النخب الليبرالية المصرية، التي ينتمي إليها حسين، ملتزمة بالمُثُل البرلمانية، والدستورية، والإيمان بالتقدم من خلال التعليم. واعتبروا العلم والمعرفة العلمانية معادلين أخلاقيين للحرية السياسية؛ أدوات تُمكّن الأمم من تحقيق الكرامة والنظام. يعكس افتتان حسين بعصر التنوير الأوروبي، وإيمانه بعالمية مبادئه، هذا المناخ الأوسع من التفاؤل الليبرالي الذي سبق الحرب العالمية الثانية. يجب فهم إصراره على أن مصر "تنتمي إلى أوروبا" ثقافيا وفكريا على أنه استراتيجية أيديولوجية تهدف إلى ادعاء التكافؤ مع الدول الغربية، لا الخضوع لها. وبوضع مصر ضمن سلسلة الحضارة المتوسطية، سعى إلى دمج بلاده في جغرافية الحداثة. في الوقت نفسه، اتسمت لحظة حسين التاريخية بتناقض عميق. كان النظام الليبرالي الذي دافع عنه يعاني أصلا من ضغوط جمة، مهددا من قِبَل الحركات الاستبدادية الصاعدة في الخارج والاضطرابات الاجتماعية الداخلية. استمرت الأمية الجماعية، والتفاوت الاقتصادي، والفقر الريفي رغم عقود من خطاب الإصلاح. في هذه البيئة، يكشف إيمانه بالتعليم كعلاج شامل للعلل الاجتماعية والثقافية عن مثالية رؤيته وحدودها. كان يثق في أن التعليم العقلاني والتعليم الحكومي قادران على توحيد مجتمع متشرذم، وتجاوز الحواجز الطبقية، وحل التوتر بين الدين والعلم. ومع ذلك، تكشف هذه الثقة أيضا عن بعده عن واقع الطبقات الشعبية، واعتماده على النخبة المتعلمة كعوامل للتقدم، وهي سمة مميزة للنخبة المثقفة الليبرالية في عصره.
إن فهم هذه الخلفية التاريخية والفكرية أمر بالغ الأهمية لتفسير كتاب "مستقبل الثقافة في مصر". إن إشادة حسين بالمعرفة والمؤسسات والمناهج العلمية الغربية ليست قناعة شخصية معزولة، بل هي جزء من خطاب تحديثي أوسع سيطر على الفكر العربي من أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. وتمثل دعوته للاندماج في الحضارة الغربية ذروة صراع دام قرنا بين المثقفين المصريين لتحديد معنى التقدم في عالم مُستعمَر وسريع التغير. وباعتباره الإصلاح الثقافي الأساس الحقيقي للاستقلال، حول حسين القضية الوطنية من صراع سياسي إلى صراع تربوي ومعرفي. ويشكل هذا التحول النظر إلى التحرير كمسألة فكرية لا مجرد مسألة إقليمية جوهر مشروعه وأصله، وهو ما زال يثير جدلا مستمرا.
ثانيا: أكثر افتراضات الكتاب إثارة للجدل
من أكثر الافتراضات إثارة للجدل التي يقوم عليها كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" قناعة طه حسين بأن الحضارة الغربية، وتحديدا روحها العلمية وفلسفتها العقلانية وانضباطها المؤسسي، تشكل المحرك الشرعي الوحيد للتقدم البشري. يصر طه حسين، على امتداد الكتاب، على أن التقدم المادي والأخلاقي للأمم ينبع من قدرتها على استيعاب وتَمثُل أساليب البحث والتنظيم الغربية. يرى حسين أن التقدم ليس نسبيا ثقافيا؛ بل هو عالمي وقابل للقياس من خلال درجة مشاركة الأمة في التقاليد العلمية والفكرية الأوروبية. ويقدم حسين العلوم الغربية على أنها التعبير الأسمى عن العقل والإنسانية، مُشيرا إلى أن نهضة مصر تعتمد على استعدادها للتعلم من هذه الأنظمة الفكرية وتقليدها ودمجها في نهاية المطاف في مؤسساتها الخاصة. وهكذا يصبح التعليم الوسيلة الأساسية لهذا التحول؛ فمن خلال الإصلاح الشامل وترجمة الأعمال الأوروبية وإعادة تنظيم الجامعات والمدارس، يرى حسين بأن مصر يمكنها مواكبة إيقاع الحضارة الحديثة. تشكل هذه الفكرة، أن الثقافة الأوروبية تجسد النموذج العالمي للتقدم، العمود الفقري النظري لبرنامجه، وتُعرّضه في الوقت نفسه لنقده الأكثر ديمومة؛ مركزيته الأوروبية الضمنية وافتراضه أن الاقتباس الثقافي يمكن أن يحدث دون تبعية أو تحريف.
يتعلق افتراض ثان مثير للجدل بنقد حسين للماضي "الشرقي"، وخاصة للتعليم الديني التقليدي. يُحذر حسين مرارا وتكرارا من أن التعلق المفرط بالتقاليد الموروثة، سواء أكانت لغوية أم أخلاقية أم مؤسسية، يشكل عائقا أمام التقدم الوطني. يرى حسين أن العادات الفكرية التي تغرسها المدارس الدينية، وخاصة تلك المرتبطة بالأزهر، لا تناسب متطلبات العصر العلمي الحديث، لأنها تُعطي الأولوية للتقليد والسلطة والحفظ عن ظهر قلب على التجريب والتفكير المستقل. تُعزز تجربة حسين الحياتية، التي ربطت بين الأزهر والسوربون، هذا النقد؛ فهو يصور نفسه كشخص اجتاز بنفسه الفجوة بين التعليم التقليدي والحديث. على هذا الأساس، يدعو حسين إلى إصلاح شامل للنظام التعليمي في مصر، مع التركيز على إدخال مناهج حديثة، وبرامج تدريب المعلمين، وتوسيع حملات محو الأمية العامة. التعليم، في رأيه، ليس مجرد وسيلة لإنتاج المعرفة، بل هو أيضا وسيلة لإعادة بناء الشخصية الوطنية. ومع ذلك، فإن حسين، بتجاهله القيمة المعرفية للتعلم التقليدي، يخاطر بتنفير الأسس الثقافية التي ارتكز عليها جزء كبير من التماسك الاجتماعي في مصر. حجته، وإن كانت قوية من الناحية البلاغية، تفترض تسلسلا هرميا يجب أن تخضع فيه المعرفة الدينية أو المحلية للعقلانية العلمية الغربية؛ وهو موقف أجج عقودا من الجدل حول مكانة الإيمان والتراث والمعرفة المحلية في التعليم الحديث.
لعل الجانب الأكثر إثارة للجدل في فكر حسين يكمن في إصراره على تصوير المأزق الثقافي المصري على أنه تناقض ثنائي بين التحديث الأوروبي والركود الشرقي. يقدم حسين هذا التباين، ليس كاختلال مؤقت، بل كتقسيم حضاري؛ تُمثل أوروبا النور والدينامية والعقلانية، بينما يبقى الشرق، المُترَك لشأنه، حبيس التقاليد والجمود. يضفي هذا التناقض على الكتاب الكثير من وضوحه المقنع، ولكنه يشكل أيضا أكبر نقاط ضعفه المفاهيمية. بتعريفه للتحديث بمصطلحات أوروبية صريحة، يُهمّش حسين مسارات التنمية البديلة، ويُغفل إمكانية قيام حداثات محلية راسخة في التاريخ المحلي والواقع الاجتماعي. لذا، ترتكز رؤيته للتجديد الوطني على الاستيعاب الانتقائي؛ وهي عملية يجب على مصر من خلالها تبني الأشكال الخارجية للتقدم الأوروبي (العلم، والمؤسسات، والتعليم) لتجعل نفسها "ملائمة" للحياة الحديثة. بهذا المعنى، يؤدي كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" فعل ترجمة ثقافية؛ فهو يعيد صياغة النموذج الغربي كنموذج عالمي، بينما يصور ماضي مصر كعبء يجب التغلب عليه. تكمن أناقة هذه الصياغة في عقلانيتها الظاهرة؛ ويكمن خطرها في محوها للتعددية. بتصويره التقدم الثقافي كخيار بين حضارتين متنافيتين، يحول حسين عملية معقدة من التفاوض التاريخي إلى ضرورة أخلاقية للمحاكاة. هذه الثنائية تحديدا، الجذابة والمختزلة في آن واحد، هي ما جعل عمله ملهما للإصلاحيين ومثيرا للجدل بين النقاد اللاحقين الذين سعوا إلى استعادة الإمكانيات المهمشة داخل التراث الفكري "الشرقي".
ثالثا: النقد العلمي/الأكاديمي، إشكاليات مفاهيمية وتجريبية
1- التأطير الثنائي والغائي، المركزية الأوروبية المُقنّعة بقناع العالمية
تكمن إحدى نقاط الضعف المفاهيمية الرئيسية في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" في إصراره على تأطير الحضارات العالمية على أساس ثنائي، وافتراضه الغائي بأن التاريخ يُتوّج بالنموذج الأوروبي للحداثة. يرسي طه حسين، على امتداد فضاء كتابه، تسلسلا هرميا ضمنيا للثقافات، تُجسّد فيه أوروبا العقلانية والعلم والتقدم العالمي، بينما يتسم "الشرق" بالتقاليد والإيمان والجمود. يقارن بين "الحياة الأوروبية" و"العقلية الشرقية" كما لو كانا نمطين للوجود، يمثل كل منهما مرحلة مختلفة في التطور المتنامي للحضارة الإنسانية. وبذلك، لا يكتفي بوصف الاختلافات الثقافية، بل يرتبها على طول محور خطي من التقدم، واضعا الغرب في قمة التقدم التاريخي والشرق في ذيله. يعكس هذا السرد الغائي التأثير الواسع للفكر الوضعي في القرن التاسع عشر، الذي يصور الحداثة كمسار واحد حتمي يقود إلى المجتمع العلماني والصناعي والعلمي لأوروبا الغربية. في صياغة حسين، لا تصبح أوروبا حضارة واحدة من بين حضارات عديدة، بل هي الغاية المعيارية للتطور البشري، وهو افتراض يضفي على وصفاته التعليمية والثقافية شعورا بالحتمية بدلا من الاحتمالية.
تكمن مشكلة هذا الإطار في أنه يخفي وراء لغة العالمية رؤية عالمية أوروبية مركزية عميقة. فمن خلال تقديم المؤسسات والتقاليد الفكرية الأوروبية على أنها محايدة أو صالحة عالميا، يحول حسين تجارب تاريخية محددة مثل صعود التنوير والتصنيع والعقلانية العلمانية إلى معايير عابرة للتاريخ يجب على جميع المجتمعات محاكاتها. هذه الاستراتيجية الخطابية، وإن كانت مقنعة في بساطتها، إلا أنها تُبسط تنوع التجارب الإنسانية وتخفي حقيقة أن النماذج الغربية للعلم والحوكمة والتعليم نشأت في سياقات اقتصادية وسياسية واستعمارية محددة. لم تكن الجامعات والبيروقراطيات والأكاديميات العلمية التي أعجب بها حسين مجرد نتاج رؤى عقلانية، بل كانت أيضا نتاجا للتوسع الرأسمالي والغزو الإمبراطوري والصراع الاجتماعي داخل أوروبا نفسها. بتجريده هذه المؤسسات من ظروفها التاريخية، يتعامل معها كتجسيدات خالصة لـ"العقل"، قابلة للنقل الآلي إلى مجتمعات أخرى. وبذلك، يجرد التحديث، دون قصد، من طابعه السياسي، محولا إياه من عملية اجتماعية متنازع عليها إلى مشكلة تقنية تتعلق بالتقليد والتكيف.
وما لا يقل أهمية عن ذلك هو ما يغفله إطار حسين الثنائي ألا وهو إمكانية الحداثات الهجينة والتبادل الثقافي المتبادل. فبتصويره التحديث كتدفق أحادي الاتجاه من الغرب إلى الشرق، يتجاهل كيف قامت الجهات الفاعلة المحلية في المجتمعات المستعمَرة أو شبه المستعمَرة تاريخيا بإعادة تفسير المؤسسات المستوردة وهيكلتها وتوطينها. وتقدم التجربة المصرية نفسها أمثلة عديدة على هذا التهجين؛ تكييف الأنظمة القانونية الأوروبية مع الفقه الإسلامي، وتوليف الأشكال الأدبية العربية والغربية، وتوطين التعليم الحديث من خلال اللغة العربية وتصميم المناهج الوطنية. ومع ذلك، فإن سرد حسين لا يترك مجالا كبيرا لهذه الوساطات الإبداعية؛ بل إنه يصور مهمة التقدم على أنها مهمة استيعاب شامل. النتيجة هي إطار فكري يخاطر بالمحو الثقافي بدلا من التجديد التكيفي. بتحويل الإعجاب المعياري إلى بيان شبه تجريبي، بمعاملة ما يُقدّره (العقلانية الأوروبية) على أنه حقيقة كونية، يطمس حسين الخط الفاصل بين التحليل والأيديولوجيا. حجته، المصاغة بلغة الموضوعية العلمية، تعيد إنتاج الافتراضات الأوروبية المركزية ذاتها التي ستكشف عنها النظرية النقدية الحديثة لاحقا؛ أن الغرب يمثل الكوني، بينما يمثل الآخرون الخصوصي.
في نهاية المطاف، يمثل تأطير حسين الغائي والأوروبي المركزية إشكالية ليس لأنه يدعو إلى التعلم من الغرب، وهو طموح يشترك فيه العديد من الإصلاحيين، بل لأنه يُطبّع المسار التاريخي لأوروبا باعتباره الطريق الشرعي الوحيد للتقدم. هذا المنظور يُغلق الباب أمام أي تصورات بديلة للحداثة متجذرة في السياقات الثقافية والاجتماعية المصرية. كما أنه يُسكت الحقائق الهيكلية للقوة الاستعمارية التي حدّت من وصول مصر إلى المؤسسات الغربية وتجربتها. بإخفاء هذه التفاوتات تحت ستار العقلانية العالمية، يحول خطاب حسين التبعية إلى تنوير، والتقليد إلى تقدم. بهذا المعنى، يبين كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" كيف يمكن لخطاب العالمية أن يعمل كأداة خفية للهيمنة الثقافية، معززا بذلك التسلسلات الهرمية التي يسعى إلى تجاوزها. إن ما يبدو دعوة للتحرر من خلال التعليم والعلم يجسد في الوقت نفسه شكلا من أشكال الخضوع المعرفي، مؤكدا على أن أوروبا مقياس الحضارة ومعناها.
2- الاستخفاف بأشكال المعرفة المحلية وإمكاناتها التكيفية
مع أن كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" يُقرّ أحيانا بالتراث الفكري العريق والمتميز لمصر، إلا أن توجهه العام يُخضع هذا التراث للنماذج المعرفية الغربية. يشيد طه حسين بإنجازات الحضارة العربية الإسلامية والحيوية الفكرية للفكر الكلاسيكي، إلا أن برنامجه للتجديد الثقافي يعامل هذه الموروثات كآثار جامدة لا كموارد دينامية للتنمية المعاصرة. في إطاره، تبدو المؤسسات التقليدية كالأزهر واللغة العربية ونصوص الفقه الإسلامي تحفا تاريخية؛ محترمة ولكنها تتعارض جوهريا مع الروح العقلانية للعلم الحديث. بهذا المعنى، يُجري الكتاب قراءة انتقائية لماضي مصر؛ إذ يُقدّس التراث ما قبل الحديث إما بحنين إلى الماضي أو يُرفض باعتباره عائقا أمام التقدم. ما ينقص الكتاب هو استكشاف كيفية تطور هذه الموارد الثقافية وتكيفها وتعايشها بشكل مثمر مع الأفكار المستوردة. إن إصرار حسين على استبدال المؤسسات المحلية بدلا من إصلاحها يحول التحديث إلى عملية استبدال بدلا من توليفة، مما يُضيّق المجال أمام التفاوض الثقافي أو إعادة التفسير الإبداعي.
يثير هذا الإهمال للقدرات الفكرية المحلية إشكاليات مفاهيمية وعملية خطيرة. من منظور اجتماعي وتاريخي، نادرا ما يتم التغيير الثقافي من خلال استبدال بسيط؛ بل عادة ما يكون هجينا، ومتنازعا عليه، ويُتفاوض عليه من خلال البنى الاجتماعية القائمة. تمتلك مؤسسات مثل الأزهر والمدارس المحلية والتجمعات اللغوية آلياتها الخاصة للتكيف والتجديد الذاتي. عندما يتجاهل المصلحون هذه الآليات، فإنهم يخاطرون بإثارة مقاومة دفاعية أو تشجيع أشكال سطحية فقط من الامتثال، حيث تُعتمد المؤسسات الأوروبية رسميا ولكن يعاد تفسيرها وفقا لمنطق أقدم. في الواقع، يجسد جزء كبير من التاريخ المصري الحديث هذه الدينامية؛ قوانين مستوردة تُطبّق من خلال الأطر الإسلامية، ومناهج علمانية تُرشّح من خلال المعايير الأخلاقية والدينية، وأساليب تربوية غربية محلية من خلال اللغة العربية. على النقيض من ذلك، تُقلّل رؤية حسين من شأن هذه العمليات الجدلية. إن افتراضه بأن التقدم الثقافي يتطلب استيعابا شاملا للأنظمة الغربية يدفعه إلى إغفال إمكانات أنظمة المعرفة المصرية الأصيلة في توليد الابتكار من الداخل. وبإهمال هذه القدرات التكيفية، يُعرّض مشروعه نفسه لخطر التشرذم الثقافي؛ خلق نخبة منعزلة، متغربة، تتعايش بصعوبة مع أغلبية شعبية تقليدية.
ويتجلى هذا التوتر بوضوح في نقاش حسين حول التعليم. فبالنسبة له، التعليم هو المفتاح الرئيسي لنهضة مصر، والوسيلة التي تُمكّن الأمة من إعادة بناء نسيجها الفكري والأخلاقي. وهو يدعو إلى حملات محو الأمية الجماعية، والتدريب المهني للمعلمين على الأساليب الحديثة، والتركيز الموسع على تعليم اللغات الأجنبية، وخاصة اللغات الأوروبية، كطرق للتكامل العالمي. ويرى أن ترجمة النصوص العلمية والفلسفية الغربية من شأنها أن تُحدّث اللغة العربية وتعيد توجيه الفكر المصري نحو العقلانية العالمية. ويجسد هذا البرنامج إيمانه بالتعليم كقوة تحويلية قادرة على التوفيق بين ماضي مصر المجيد ومستقبلها العقلاني والتقدمي. ومع ذلك، يكمن وراء هذا التفاؤل تسلسل هرمي دقيق للمعرفة والثقافة.
بمساواته بين التقدم والأوروبية، يضع حسين ضمنيا العقلانية الغربية كمعيار عالمي، ويحصر التقاليد الفكرية المصرية والإسلامية في نطاق العاطفة والذاكرة الأخلاقية. خطابه التنويري، وإن كان مؤطرا كدعوة للتحرر من خلال العقل، إلا أنه يعمل كشكل متطور من التبعية المعرفية؛ استراتيجية بلاغية تُحوّل التبعية الثقافية إلى فضيلة. وهكذا تتجلى مفارقة كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" بوضوح؛ إذ يحتفي مؤلفه بالفخر الوطني، بينما يقترح في الوقت نفسه نموذجا للإصلاح يقوض استقلالية الثقافة ذاتها التي يسعى إلى الارتقاء بها. يظل هذا التناقض، بين الإصلاح والتقاليد، والاستيعاب والهوية، هو الصدع المركزي في مشروع حسين، ويستمر في دعوة إلى إعادة تقييم نقدية لإرثه الفكري.
3- توصيات السياسة التعليمية التكنوقراطية والنخبوية
يكمن أحد أوجه التوتر المحورية في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" في الطبيعة التكنوقراطية لوصفات طه حسين التعليمية. فرغم بُعد أجندته الإصلاحية، إلا أنها تتمحور إلى حد كبير حول ما يمكن وصفه بتدابير جانب العرض؛ وهي مبادرات تهدف إلى توسيع إنتاج المعرفة ونشرها من خلال الجامعات، ومشاريع الترجمة، وتعليم اللغات المتقدمة. ويولي حسين تركيزا كبيرا على إصلاح التعليم العالي، وتحديث المناهج، وتعزيز اللغات الأوروبية كأدوات أساسية لدخول المجتمع الفكري الدولي. تكشف هذه المبادرات عن إيمانه العميق بالقدرة التحويلية للتعليم كأداة للتحديث. ومع ذلك، فإنها تكشف أيضا عن نخبوية واضحة؛ فالإصلاحات مصممة في المقام الأول للشرائح المتعلمة القادرة على التفاعل مع الدراسات الأوروبية، بدلا من عامة السكان الذين لا يزالون يعانون من الأمية ومحدودية فرص الحصول على التعليم. في الواقع، يُعنى برنامج حسين بالبنية التحتية الثقافية لنخبة فكرية صغيرة، بافتراض أن التقدم سينتقل تلقائيا من أعلى الهرم التعليمي إلى عامة الناس. ويُقر حسين نفسه بضيق القاعدة الاجتماعية لإصلاحاته المقترحة. كما يُقر بأن عددا قليلا نسبيا من المصريين آنذاك كانوا يجيدون اللغات الأوروبية أو قادرين على الاستفادة مباشرة من ترجمات الأعمال الأجنبية. ومع ذلك، فهو يتعامل مع هذا القيد كتحد لوجستي وليس هيكليا، متوقعا أن يوسع التعرض الأكبر للمعرفة الغربية نطاق معرفة القراءة والكتابة والتنوير في نهاية المطاف. من وجهة نظر علم الاجتماع، يعكس هذا المنطق تفاؤلا تكنوقراطيا يتجاهل الحواجز الاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي تشكل الوصول إلى التعليم. بتركيزه على الوسائل الفكرية للتحديث، الترجمة، وتعليم اللغات الأجنبية، وإصلاح الجامعات، يتجنب حسين الحقائق التوزيعية التي تحدد من يمكنه المشاركة فعليا في النظام الذي يتصوره. ولا تحظى قضايا مثل الفقر، والتفاوت الطبقي، والتمييز بين الجنسين، والتخلف الريفي إلا بذكر عابر، على الرغم من أنها تحدد جدوى أي تحول تعليمي. إن صمته بشأن القدرة المالية والمؤسسية للدولة المصرية على تنفيذ مثل هذه الإصلاحات يبرز التحيز التكنوقراطي في رؤيته؛ إذ يصور التحديث كمشروع تقني لتعديل المناهج الدراسية وإصلاح لغوي، وليس عملية سياسية عميقة تتطلب إعادة التوزيع والشمول والعدالة الاجتماعية.
ولهذا التوجه النخبوي تداعيات هامة على النتائج الاجتماعية لنموذج حسين المقترح. فمن خلال تفضيل التعليم المتقدم وإتقان اللغات الأجنبية، يخاطر النظام الذي يتخيله بإعادة إنتاج، بل وحتى تكثيف، التسلسلات الهرمية الطبقية القائمة. سيحظى أولئك الذين يتمتعون بالفعل بامتيازات بسبب المولد أو الموقع الجغرافي أو الصلة الاجتماعية، بفرصة أكبر للوصول إلى رأس المال الثقافي للمعرفة الغربية، بينما سيظل غالبية المصريين، وخاصة فقراء الريف والنساء وسكان المناطق النائية، مستبعدين من فوائد التحديث. ويخلق التركيز على اللغات الأوروبية تحديدا رمزيا بين النخبة المتعلمة، القادرة على خوض غمار العالم الفكري الحديث، وبقية المجتمع، الذي تقلل من قيمة موارده الثقافية. يقوض هذا الانقسام هدف حسين المعلن المتمثل في الوحدة الوطنية والتمكين المدني، إذ يصبح التعليم آلية للتمييز بدلا من الإدماج. وفي هذا الصدد، تُنبئ رؤيته بإحدى المفارقات الدائمة لمشاريع التحديث في الجنوب العالمي؛ خلق "ثقافة مزدوجة" تحتكر فيها النخب المتغربنة الوصول إلى المعرفة والتكنولوجيا والسلطة، بينما يظل السكان على نطاق أوسع مهمشين ضمن سردية التنمية الوطنية الخاصة بهم.
ومن الناحية التجريبية، يُنتقد مخطط حسين التعليمي بسبب قلة اهتمامه بالمحددات الهيكلية لمحو الأمية والتعلم. فلا يمكن عزل الإصلاح التعليمي الفعال عن مسائل التوزيع الاقتصادي والمساواة بين الجنسين وقدرة الدولة. ومن خلال تأطير التعليم في المقام الأول كمسألة سياسة فكرية بدلا من البنية الاجتماعية، يحوله حسين إلى مثل تكنوقراطية منفصلة عن حقائق الطبقة والسلطة. والنتيجة هي برنامج إصلاح مثقل بالتناقضات؛ فهو يطمح إلى النهوض الوطني ولكنه يخاطر بتعميق عدم المساواة؛ ويشيد بالتعليم الشامل بينما يعطي امتيازات للأقلية؛ يسعى هذا الكتاب إلى التنوير من خلال العلم، لكنه يعيد إنتاج هرمية ثقافية ضيقة متجذرة في الامتيازات اللغوية والاجتماعية. وبهذا المعنى، يمثل كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" بيانا رؤيويا وحكاية تحذيرية في آن واحد، إذ يذكرنا بأن تحديث التعليم، بمعزل عن مسائل المساواة والشمول، يمكن أن يرسخ التفاوتات ذاتها التي يدعي التغلب عليها.
4- إهمال علاقات القوة الاستعمارية/ما بعد الاستعمارية في نقل الثقافة
يكمن التناقض الجوهري في كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" في صمته إزاء السياق الاستعماري والجيوسياسي الذي طُرح فيه برنامجه للتغريب. كُتب الكتاب عام ١٩٣٨، أي بعد عامين فقط من المعاهدة الأنجلو-مصرية عام ١٩٣٦، وظهر في وقت كانت فيه بريطانيا لا تزال تحتفظ بحضور قوي في الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية في مصر. وعلى الرغم من هذا الواقع، يتعامل نص حسين مع الثقافة والعلوم الأوروبية كأدوات محايدة القيمة يمكن استعارتها وتكييفها وتطبيقها دون مراعاة علاقات القوة غير المتكافئة التي تنتشر من خلالها. ويرى أن أنظمة المعرفة الأوروبية، سواء أكانت تربوية أم علمية أم إدارية، هي ببساطة أدوات للتقدم العقلاني، متاحة لأي دولة ترغب في التحديث. وهذا الافتراض يحول ما كان، في الواقع التاريخي، مواجهة استعمارية غير متكافئة إلى تبادل فكري حميد. ومن خلال فصل المعرفة الأوروبية عن أسسها الإمبريالية والاقتصادية، يُخفي حسين كيف أن "النقل الثقافي" في ظل الظروف الاستعمارية لم يكن مجرد استعارة طوعية، بل كان جزءا لا يتجزأ من أنظمة التبعية والامتياز والسيطرة السياسية.
هذا الإغفال ليس مجرد بلاغة، بل له تداعيات نظرية وسياسية هامة. إن التعامل مع العلم والثقافة الغربيين كعالميين محايدين هو تجاهل لهياكل السلطة التي شكلت انتشارهما في المجتمعات المستعمَرة. في مصر، لم تعمل المؤسسات التعليمية الأوروبية والمدارس التبشيرية والشبكات القنصلية كوسائل محايدة للتنوير؛ بل كانت بمثابة أدوات تأثير، تنقل ليس فقط المعرفة، بل أيضا التسلسلات الهرمية الثقافية والولاءات السياسية. يشير حسين نفسه إلى دور المدارس الأجنبية في مصر وتأثيرها على الحياة الاجتماعية، إلا أنه لا يتطرق إلى مسألة كيف أعادت هذه المؤسسات إنتاج الانقسامات الطبقية وعززت المكانة الثقافية لأوروبا. بدلا من ذلك، يؤطر وجود مثل هذه المدارس كمثال عملي على "مزايا" التعليم الغربي، وليس كعرض لتبعية أوسع. يؤدي الفشل في استنطاق البعد الاستعماري للتعليم إلى صورة مشوهة؛ فما يبدو انفتاحا ثقافيا أو عالمية قد يكون في الواقع استمرارا للهيمنة الاستعمارية من خلال وسائل فكرية أكثر ليونة. وهذا يمثل إشكالية خاصة في مجتمع يسعى جاهدا لتأكيد سيادته وتحديد هويته الحديثة.
من منظور علمي وسياساتيّ، لهذا الإهمال عواقب وخيمة. يجب على استراتيجية التحديث الفعالة أن تميز بين القيمة المعرفية للمناهج العلمية والتكاليف السياسية لتبني أشكال ثقافية قد ترسخ التبعية أو تديم امتيازات النخبة. يمكن للعلم الغربي، كمنهجية للبحث والاستدلال التجريبي، أن يكون عالميا في نطاقه؛ لكن المؤسسات الثقافية الغربية، مثل أنظمة التعليم والهياكل الإدارية والتسلسلات اللغوية، محددة تاريخيا، وغالبا ما تُصمم لإعادة إنتاج أنماط الهيمنة. تشوش رؤية حسين هذا التمييز. إن إعجابه بالإنجازات المعرفية لأوروبا يدفعه إلى استيراد أشكالها المؤسسية جملة وتفصيلا، دون دراسة كيف يمكن لهذه الأشكال أن تعيد إنتاج التسلسلات الهرمية الاجتماعية والتفاوتات التي سادت النظام الاستعماري. لذا، يكمن الخطر في أن تصبح عملية "التحديث" أداة للاستعمار الداخلي؛ فالنخبة المحلية، المتعلمة باللغات والأعراف الأوروبية، تتولى دور الوسيط بين العالم الغربي والسكان، مُديمةً التبعية تحت ستار التقدم.
في هذا الصدد، يكشف كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" عن حدود الحداثة الليبرالية في مواجهة الحقائق الهيكلية للإمبراطورية. إن صمت حسين عن القوة الاستعمارية ليس عرضيا، بل هو دليل على حالة فكرية أوسع نطاقا تقاسمها العديد من المصلحين في عصره؛ الاعتقاد بإمكانية فصل العلم والثقافة عن السياسة. ومع ذلك، وكما سيُظهر منظرو ما بعد الاستعمار اللاحقون، فإن المعرفة والقوة لا ينفصلان. إن أشكال التعليم والتصنيف والتمثيل الثقافي التي أُدخلت في ظل الاستعمار تحمل في طياتها تسلسلات هرمية ضمنية للقيم تُعلي من شأن رؤية المُستعمِر للعالم. بتجاهله هذا، يخاطر مشروع حسين بإعادة إنتاج ما يسعى إلى تجاوزه؛ تبعية الفكر المصري للسلطة الأوروبية. وهكذا، يصبح خطابه العالمي سلاحا ذا حدين؛ فهو يَعِدُ بالتحرر من خلال التعلم، ولكنه يعيد صياغة التبعية من خلال الثقافة. يكمن التحدي الذي يواجه أي مجتمع ما بعد الاستعمار، آنذاك كما هو الحال الآن، في امتلاك الأدوات العلمية والعقلانية للحداثة دون التنازل عن سيادته المعرفية. وهذا التمييز تحديدا، بين المعرفة كتمكين والمعرفة كهيمنة، هو ما يفشل برنامج حسين، على الرغم من مثاليته، في تحقيقه.
5- الحدود المنهجية، خطاب توجيهي وأساس تجريبي محدود
في حين يعد كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" أحد أفصح البيانات الفكرية في عصره، إلا أنه يتسم بضعف منهجي جوهري؛ اعتماده على الاستدلال التوجيهي بدلا من التحليل التجريبي. يبني طه حسين حجته على أسس أخلاقية وفلسفية، مستشهدا بالعقلانية والفخر الوطني وسلطة العلم الكوني، إلا أنه لا يقدم سوى القليل من الأدلة الاجتماعية أو الإحصائية المنهجية لإثبات ادعاءاته. تقدم تأكيداته حول القدرة التحويلية للتعليم، وتفوق الأساليب الغربية، والعلاقة السببية بين الإصلاح الثقافي والتقدم الوطني كحقائق بديهية، تستند إلى قناعة أكثر منها إلى بيانات قابلة للإثبات. تُعطي القوة البلاغية للكتاب، أسلوبه المصقول، وإلحاحه الأخلاقي، ورؤيته التاريخية الشاملة، انطباعا بالدقة، إلا أن هذه القوة البلاغية تخفي غيابا واضحا للإثبات التجريبي. على سبيل المثال، لا يقدم حسين تحليلات مقارنة للنتائج التعليمية بين مختلف الأنظمة، ولا يقدم أدلة تُظهر كيف تترجم استثمارات معينة في التعليم أو تدريب المعلمين إلى تنمية اجتماعية أو اقتصادية قابلة للقياس. ونتيجة لذلك، تُعد حجته بمثابة بيان سياسي وأخلاقي أكثر منها دراسة علمية اجتماعية.
من وجهة نظر منهجية، يُحدّ هذا الافتقار إلى الأساس التجريبي بشكل كبير من القدرة التحليلية لأطروحة حسين. يرتكز إطاره على افتراض خطي مفاده أن التعليم يُولد تلقائيا التنوير والإنتاجية والتحديث؛ وهي وجهة نظر متجذرة بعمق في الفكر الوضعي والتنموي في أوائل القرن العشرين. ومع ذلك، فهو لا يقدم أي دليل يبين كيف أو في ظل أي ظروف قد تتحقق هذه العلاقات. على سبيل المثال، يفترض أن تبني المناهج وأساليب التدريس الأوروبية سيُنتج مواطنين عقلانيين ذوي عقلية مدنية، لكنه لا يستكشف المتغيرات المتداخلة التي تشكل النتائج التعليمية مثل البنية الطبقية، والتفاوت بين الجنسين، وأسواق العمل، والمؤسسات السياسية. كما أنه لا يأخذ في الاعتبار العواقب غير المقصودة المحتملة، مثل نشوء نخب مؤهلة معزولة عن الواقع الوطني. فبدون هذا البحث التجريبي، تنحصر حجته في سلسلة من التأكيدات حول ما ينبغي أن يحققه التعليم، بدلا من أن تكون دليلا على ما يمكن أن يحققه في ظل ظروف اجتماعية محددة. تكشف هذه الفجوة بين الوصف والتحقق عن محدودية منهجه كعمل تحليل اجتماعي، حتى مع تأكيدها على قيمته كعمل إقناع فكري وأخلاقي.
علاوة على ذلك، يعكس أسلوب حسين التوجيهي الثقافة المعرفية الأوسع في عصره، عندما استندت سلطة المثقف الحديث بشكل أقل على البرهان التجريبي وأكثر على القيادة الأخلاقية والبلاغية. ثقته في عالمية العقل الغربي والقدرة التحويلية للتعليم تعكس إيمان عصر التنوير بالتقدم كمبدأ يُثبت ذاته، وهو أمر يجب تأكيده بدلا من اختباره. يسفر هذا التوجه عن ما قد يطلق عليه علماء الاجتماع "الحتمية الخطابية"؛ الميل إلى اعتبار اللغة والحجة محركين كافيين للتغيير. لكن عمليا، يتطلب الإصلاح التعليمي الفعال أساسا تجريبيا، بيانات حول معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، ومعدلات البقاء في المدارس، وقدرة المعلمين، والعوائق الاجتماعية أمام الوصول إلى التعليم. بإهمال هذه الأبعاد، يفتقر مشروع حسين إلى الدقة التشخيصية اللازمة لترجمة الرؤية إلى سياسات. لذا، يعد كتابه صرحا يجسد مثالية عصره؛ طموح فكريا، وذا حس أخلاقي، ولكنه هش منهجيا. لا تكمن أهميته الدائمة في دقته التجريبية، بل في قدرته على كشف عقلية جيل ساوى بين التقدم الثقافي والوضوح الأخلاقي، وعامل التعليم كمهمة علمية وخلاصية في آن واحد.
باختصار، يجسد كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" مفارقة أدبيات الإصلاح في الحداثة المبكرة؛ فهو يعبر عن نظرية شاملة للتنمية الوطنية دون وجود بنية تحتية تجريبية لاختبار فرضياته أو صقلها. إن غياب التحليل القائم على البيانات لا يقلل من الأهمية التاريخية للعمل، ولكنه يكشف عن حدود مصداقيته العلمية. من منظور معاصر، فإن فشل حسين في التعامل مع مؤشرات قابلة للقياس، أو أدلة مقارنة، أو بحث ميداني يجعل استنتاجاته أقرب إلى التخمين منها إلى البرهان. ما يقدمه ليس نموذجا اجتماعيا للتحديث، بل دعوة أخلاقية إلى النضال؛ رؤية للتعليم كخلاص، تُعبّر عنها من خلال التفكير الأخلاقي والإيمان الإنساني بدلا من التحقق التجريبي. هذا الخطاب التوجيهي، وإن كان ملهما، إلا أنه يحول حجته إلى عمل أيديولوجي بقدر ما هو عمل بحثي، وهذا التوتر تحديدا، بين البلاغة والدليل، والمثالية والتحليل، هو ما يحدد تألق إرثه وهشاشته المنهجية.
رابعا: الآثار المترتبة على التعليم والتنمية (تقييم نقدي)
تكشف التداعيات التعليمية والتنموية لكتاب "مستقبل الثقافة في مصر" عن المدى الرؤيوي والتناقضات الداخلية لمشروع طه حسين الإصلاحي. إن التزامه بالتحديث من خلال التعليم جريء فكريا ويرتكز على الأخلاق في رغبة صادقة في النهوض بالأمة. ومع ذلك، عند تقييمه من منظور اجتماعي وسياسي، فإن البرنامج الذي يقترحه ينطوي على مخاطر التسبب في عواقب غير مقصودة تقوض أهدافه التحررية. ومن أبرز هذه المخاطر خطر الاغتراب الثقافي؛ أي خلق طبقة من النخب المتعلمة ذات التوجه الغربي فكريا، ولكنها معزولة اجتماعيا عن المجتمعات التي يُفترض أن تقودها. ومن خلال التركيز على تبني المناهج واللغات والنماذج المؤسسية الأوروبية دون دمجها في الأطر الثقافية واللغوية الشائعة في مصر، ترسي رؤية حسين، عن غير قصد، الأساس لمجتمع مزدوج؛ شريحة مُلمة بمصطلحات العقلانية الغربية، وأخرى مُتجذرة في التقاليد الأصيلة وواقع الحياة اليومية. يُلمح هو نفسه إلى هذا الخطر عندما يُقر بأن نسبة ضئيلة فقط من المصريين كانت تجيد اللغات الأوروبية وتستطيع الوصول إلى الأعمال المترجمة. ومع ذلك، فهو يقلل من شأن العواقب بعيدة المدى لمثل هذا الانقسام. يُصبح التعليم، في هذه الصيغة، علامة للتميز بدلا من أن يكون وسيلة للتكامل الاجتماعي، إذ ينتج خريجين يمتلكون مؤهلات الحداثة لكنهم يظلون منفصلين عن العالم الأخلاقي واللغوي للأغلبية.
تؤدي هذه المشكلة مباشرة إلى نتيجة رئيسية ثانية؛ الفشل التوزيعي المتأصل في أولويات حسين التعليمية. فبينما يحدد، عن حق، محو الأمية والتعليم الابتدائي الشامل كأساس للتقدم الوطني، فإن تركيزه العملي ينصب بشكل غير متناسب على التعليم العالي والترجمة وإعادة الإنتاج الفكري للنخب. إن حماسه لإصلاح الجامعات، وتأهيل المعلمين، والانخراط في المعرفة الأوروبية، وإن كان جديرا بالثناء، يعكس نموذجا تنمويا مثقلا بالقيود، يفترض أن التقدم الاجتماعي سيبدأ من أقلية مستنيرة. من منظور تنموي، يُعدّ هذا افتراضا هشا. بدون استثمار عام كبير في التعليم الابتدائي، والتعليم في الأرياف، وتدريب المعلمين في جميع المناطق، ستظل فوائد الإصلاح محصورة في الفئات الحضرية والمتميزة. والنتيجة مفارقة؛ بنية تحتية تعليمية حديثة تتعايش مع أمية جماعية مستمرة وتفاوت في فرص الحصول على الفرص. هذا التفاوت لا يقوض الشرعية الأخلاقية لمشروع الإصلاح فحسب، بل ينال أيضا من كفاءته الاقتصادية. إن النظام الذي يُعطي الأولوية للتعليم المتقدم دون بناء قاعدة اجتماعية لمحو الأمية أولا يخاطر بإعادة إنتاج التبعية؛ على المعرفة المستوردة والطبقة الضيقة التي تتوسطها. وبهذه الطريقة، يعكس نموذج حسين النمط المُلاحظ في العديد من مجتمعات ما بعد الاستعمار، حيث يبدأ التحديث بتحويل النخبة ولكنه يتعثر قبل تحقيق تنمية واسعة النطاق.
هناك أثر ثالث، لا يقل أهمية، يتعلق بالشرعية والتماسك الاجتماعي. إن دعوة حسين إلى نظام تعليمي علماني، عقلاني، متمركز حول الدولة، تتحدى ضمنيا سلطة المؤسسات التقليدية كالأزهر والمؤسسة الدينية الأوسع. وبينما يعكس نقده للتلقين والجمود الفكري قلقا حقيقيا من الجمود الفكري، فإن استراتيجيته القائمة على الإصلاح من خلال التهجير بدلا من الحوار تخاطر بإثارة مقاومة اجتماعية. إن إصلاح التعليم، وخاصة في المجتمعات ذات التقاليد الدينية الراسخة، ليس مجرد مسألة تقنية تتعلق بتصميم المناهج، بل هو فعل سياسي عميق يمس أسس الشرعية الثقافية. ومن خلال سعيه إلى إعادة تعريف الأساس الأخلاقي والمعرفي للتعليم دون الانخراط الكامل في السلطة الرمزية للجهات الدينية والمحلية الفاعلة، يخاطر مشروع حسين بتنفير فئات من الناس يُعدّ تعاونها أمرا حيويا لاستدامة الإصلاح. وهو يدرك جزئيا هذا الخطر، مُقرا بأن الانتقال إلى التعليم الحديث يجب أن يكون تدريجيا وشاملا، لكنه يقلل من شأن عمق الارتباط الاجتماعي بأساليب التعلم التقليدية. بدون دمج الإصلاح في النسيج الأخلاقي للمجتمع المصري، قد لا يُولد مشروع التحديث تماسكا، بل نزاعا، مما يفاقم التشرذم الذي يسعى إلى تجاوزه بدلا من حلها.
تُبرز هذه التداعيات مجتمعة المفارقة الكامنة في جوهر رؤية حسين؛ نظام تعليمي مصمم لتحقيق الوحدة الوطنية والتنمية، ولكنه مهيكل بطرق قد تديم الانقسام وعدم المساواة. تشير مخاطر الاغتراب الثقافي، واختلال التوازن التوزيعي، وأزمات الشرعية، إلى الحاجة إلى نموذج إصلاحي أكثر شمولا وحساسية للسياق؛ نموذج يدرك قيمة الثقافة المحلية، ويوزع الموارد بإنصاف، ويبني جسورا بين الحداثة والتقاليد، والنخبة والشعب. يبقى عمل حسين مؤثرا للغاية لأنه يعبر عن المعضلة المستمرة للسياسة التعليمية في العالم العربي؛ كيفية التوفيق بين التحديث والأصالة، والمعرفة العالمية والمعنى المحلي، والتقدم الفكري والعدالة الاجتماعية. ومن ثم فإن إرثه ليس مجرد مصلح صاحب رؤية، بل أيضا مفكر تدعو وصفاته الجريئة إلى التأمل النقدي المستمر في الأسس الاجتماعية للتعليم والعلاقة المعقدة بين الثقافة والمعرفة والتنمية الوطنية.
خاتمة:
يظل كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" أحد أكثر المشاريع الفكرية طموحا واستفزازا في العالم العربي الحديث. وُلد الكتاب في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، في خضمّ اضطرابات التبعية الاستعمارية والسعي وراء الهوية الوطنية، وهو يُعبر عن رؤية شاملة لنهضة مصر من خلال التعليم والعلم والثقافة العقلانية. وتعكس قناعة حسين الجوهرية، بأن التحديث يتطلب استيعاب المعرفة الغربية وإعادة تنظيم التعليم على غرار النماذج الأوروبية، التفاؤل الفكري وقلق جيل يسعى جاهدا للتوفيق بين الاستقلال والتقدم. وقد قدمت دعوته للإصلاح، المرتكزة على مُثُل عصر التنوير في العقلانية والعالمية والإنسانية العلمانية، لمصر خارطة طريق للتحديث الثقافي. ومع ذلك، تكمن وراء هذا الطموح التقدمي سلسلة من التناقضات العميقة التي جعلت مشروعه ملهما ومثيرا للجدل في آن واحد لعقود. على المستوى المفاهيمي، يقيد فكر حسين برؤية عالمية ثنائية تعارض الغرب العقلاني بالشرق الراكد، محولة الاختلاف التاريخي إلى تسلسل أخلاقي. هذا التأطير الأوروبي المركزي، وإن كان معبرا عنه بلغة العقلانية الشاملة، يعطي امتيازا فعليا للحضارة الأوروبية كنموذج معياري لكل تطور بشري. وبذلك، يختزل حسين تعقيد التحول الثقافي إلى عملية تقليد لا تبادل، متجاهلا الطابع الهجين والحواري للتجربة المصرية الحديثة. برنامجه الإصلاحي، وإن كان رؤيويا، إلا أنه يقلل من شأن الإمكانات التكيفية للمؤسسات المحلية الدينية واللغوية والفكرية التي كان من الممكن أن تُشكل أسسا أصيلة للتحديث. في سعيه لتحرير مصر من الركود الفكري، يخاطر حسين باستبدال شكل من أشكال التبعية بآخر؛ تحول من الهيمنة الاستعمارية إلى التبعية المعرفية، حيث تصبح المعرفة الغربية هي الحكم النهائي للتقدم.
من منظور سياسي، يكشف مخطط حسين التعليمي عن الطابع التكنوقراطي والنخبوي لحداثته. إن تركيزه على إصلاح الجامعات والترجمة وإتقان اللغات الأجنبية يعطي امتيازات للنخبة المثقفة على حساب الجماهير. والنتيجة هي نموذج إصلاحي قد يعيد إنتاج عدم المساواة بدلا من التغلب عليه، مُولدا فجوة اجتماعية بين الخريجين المتغربين وجماهير ذات توجه تقليدي إلى حد كبير. ويتفاقم هذا الخلل بسبب صمت الكتاب عن القيود الهيكلية والاقتصادية التي تُشكل فرص الحصول على التعليم - الفقر، وعدم المساواة بين الجنسين، والتهميش الريفي، والقيود المالية. علاوة على ذلك، فإن إيمان حسين بالتعليم كقوة تحويلية مكتفية ذاتيا يتجاهل علاقات القوة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية المتجذرة في النقل الثقافي. وبتقديمه الثقافة الأوروبية كمستودع محايد للعلم والعقلانية، يخفي طرق تشابك أنظمة المعرفة مع التسلسلات الهرمية العالمية للسلطة والامتياز. وبالتالي، فإن التحديث الذي يتصوره يخاطر بترسيخ التبعية تحت ستار فكري جديد.
منهجيا، يستمد كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" حيويته من الحماسة الأخلاقية بدلا من الصرامة التجريبية. يقدم الكتاب تشخيصات ووصفا ببلاغة فلسفية، دون أدلة اجتماعية أو بيانات مقارنة تثبت ادعاءاته. خطاب الكتاب المُقنع، وإن كان مؤثرا فكريا، إلا أنه لا يُغني عن الدقة التحليلية أو البرهان السببي. وبهذا المعنى، ينتمي عمل حسين إلى تراث الفلسفة السياسية أكثر منه إلى تراث العلوم الاجتماعية؛ إعلان عن الإيمان بالعقل والتعليم والحضارة العالمية كأدوات للخلاص الأخلاقي. إلا أن هذه المثالية تكشف أيضا عن حدود رؤيته؛ فبافتراضه أن التعليم ينتج التنوير بطبيعته، يغفل العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحدد ما إذا كان التعليم وسيلة للتحرر أم للإقصاء.
تكشف التداعيات الأوسع لمشروع حسين عن نمط مألوف لدى العديد من حركات الإصلاح في فترة ما بعد الاستعمار، ألا وهو التوتر بين التحديث والأصالة، والشمولية والنخبوية، والعالمية والخصوصية الثقافية. تخاطر مقترحاته بالاغتراب الثقافي، إذ تنشئ فصولا دراسية متعلمة تتقن المصطلحات الأوروبية لكنها منفصلة عن الواقع المحلي. تركيزه على التعليم العالي والترجمة، وإن كان مثمرا فكريا، إلا أنه يُبقي القضايا الأساسية المتعلقة بالمساواة والشرعية والتمكين الجماهيري دون حل. إن الجهود المبذولة لتحديث المناهج دون التفاوض مع السلطات التقليدية كالأزهر تهدد بتآكل التماسك الاجتماعي وتقويض شرعية الإصلاح نفسه. تحول هذه التناقضات عمل حسين إلى نتاج ونقد لعصره في آن واحد؛ مرآة تعكس تطلعات ومعضلات أمة عالقة بين عالمين. في نهاية المطاف، لا ينبغي قراءة "مستقبل الثقافة في مصر" كمشروع فاشل، بل كحوار لم يكتمل، لحظة في تاريخ مصر الفكري طرحت فيها أسئلة الهوية والمعرفة والتقدم بوضوح غير مسبوق، حتى وإن ظلت إجاباتها ناقصة. يكمن إرث حسين في شجاعته في مواجهة الركود وإيمانه بالقدرة التحويلية للتعليم، إلا أن محدوديته تذكرنا بأن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالتقليد وحده. يجب أن يبني التحديث المستدام على الطاقات الحية للثقافة المحلية، وأن يتبنى التعددية، وأن يوازن بين التطلعات العالمية والعدالة الاجتماعية. في هذا السياق، يبقى عمل حسين معلما بارزا في الحداثة العربية ودرسا تحذيريا من مخاطر التغريب غير النقدي؛ دعوة إلى السعي نحو التنوير، ولكن من خلال مسارات متجذرة في الحقائق التاريخية والثقافية والأخلاقية لمجتمعنا.
