السبت ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٤
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

البرد في ألاسكا

قصة بقلم : فاليريا كوريا فيز

في فترة الخمسينيات، كنت أنا ووالدي نعيش في مستوطنة ساحلية صغيرة بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية. كنت في الخامسة من عمري، ولم أكن أفعل شيئاً سوى مراقبة تدرجات اللون الأزرق في الجليد أثناء النهار، وعد النجوم في الليل. كان والدي يعمل على اليابسة فى قسم الصناعات السمكية في شركة "رويال سيفودز إنك"، وكان كثيراً ما يعدني بأن حياتنا ستتغير قريباً.

 سنغادر من هنا قريباً، يا صغيرتي.

كان يتحدث كثيراً عن إجازاتنا المقبلة، وكيف ستكون أيامنا رائعة عندما يوفر ما يكفي من المال لنتمكن من تناول كميات كبيرة من الكركند في بارات شواطئ ميامي، والنوم في أرجوحة تحت شمس فلوريدا اللطيفة في ديسمبر. وفي الليل، سنرى أضواء أشجار عيد الميلاد في المراكز التجارية تتنافس مع بريق النجوم. وسيحقق لنا سانتا كلوز جميع رغباتنا وأسرارنا.

 هذه هي الحياة الحقيقية

كان يقول ذلك لي بينما يخلع قفازيه الملطخين بدم سمك القد أو سمك الهلبوت ليمسح على خدي ثم يضيف :
سترىن بنفسك، يا صغيرتي.

قبل النوم، كان والدي دائمًا يعانقني. كانت رائحته قوية من أثر البيرة وزيت السمك، فكنت أهرب تحت الأغطية لأتفادى حضنه. ومع ذلك لم يكن والدي شخصًا سيئًا في ذلك الوقت.

ولم تكن الحياة على الساحل سهلة.

لم يكن للرجال أي وسيلة للتسلية سوى ضجيج الرياح والكحول. لم تكن هناك نساء، باستثناء مالكة الحانة وابنتها. كانت كلتاهما تسمى "ماشَّا". أعتقد أنهما كانتا روسيتين أو لديهما أقارب من أصل روسي منذ أن كانت ألاسكا غير تابعة للولايات المتحدة. شيء من هذا القبيل. كان شعرهما قصيرًا وناعما، مثل ريش صدر طائر. كانتا تقدمان أباريق البيرة بخشونة وعنف لدرجة أن الرغوة كانت تتدفق على سطح المنضدة. كنت في الخامسة من عمري حينها، وكنت أعيش في ألاسكا منذ ما يقارب الأربع سنوات، وهي المدة التي مرت على وفاة والدتي. لم أكن أعلم كيف يجب أن تكون المرأة لتُعد جميلة، لكنني كنت متأكدة أن المرأة الجميلة ستكون عكس ماشّا تمامًا.

في ذاكرتي، تتكدس الأيام باردة مع نصيبها المتنوع من الملل والأمل، حتى حدث تسرب النفط في البحر خلال الانقلاب الشتوي.

كانت تلك الضربة الأخيرة التي كنا نفتقدها.

قامت الحكومة بتعليق تصاريح الصيد إلى أجل غير مسمى، وأصبح العمل على اليابسة نادرًا. قامت شركة "رويال سيفودز إنك" بتقليص عدد موظفيها إلى النصف، وغادر جميع هؤلاء الناس إلى مكان غير معلوم. أما باقي الموظفين، فقد خفضت الشركة أجورهم إلى النصف. لن أزيد على ذلك. بدأ والدي يشرب كثيرًا، وتوقف تقريبًا عن وعوده المعتادة. بدأ حلم إجازاتي في عيد الميلاد يتلاشى ببطء، مثلما كانت شمس الشتاء تذوب خلف النوافذ. في ذلك الوقت، بدأت إحدى الماشاتين، الشابة منهما، في القيام بأعمال أخرى.

رأيتها فجرًا، عندما كانت تخرج من غرفة والدي. كانت تسحب تنورتها لأسفل بغير اكتراث، مما أعطاها مظهر طائر القطرس وهو يهوى بجناحيه. كانت ساقاها نحيلتين وشاحبتين. تسري عليهما عروق بنفسجية، تشبه ميزاناً طويلاً رأيته بجانب المجمدات في مكاتب "رويال سيفودز إنك" .كانت حافية القدمين وشعرها مشوشا مما أضفى على مظهرها لمسة من الغموض والكآبة.

 ارجعي هنا

صرخ والدي من داخل الغرفة، وألقى عليها وسادة اصطدمت بالباب.
قلت لك أن ترجعي.

كان التواجد قرب والدي عندما يشرب مثل الغوص في أحد مستنقعات غابات ألاسكا الممطرة: كان غضبه يبتلع كل شيء، وكانت العفونة تبدو بلا نهاية.

 ارجعي، أيتها العاهرة، لم ننته بعد.

في تلك الليلة أو ربما ليلة أخرى، لم أعد أذكر، عاد والدي ليتحدث إليّ:

 انظري جيدًا إلى هذه السماء الليلية، يا صغيرتي. بعد شهرين تقريباً، سنغادر هذا المكان إلى عطلة دائمة في فلوريدا.

لكن والدي كان مجرد سكير، يتخبط في الديون. كانت عائلتنا مفككة، وقد أصبحت فكرة الرحيل وطنًا لي. لم يكن علينا الانتظار شهرين لذلك، فقد حدث الأمر قبل ذلك، بكثير.

حملنني موظفو خدمات الرعاية الاجتماعية على متن سفينة.

أخرجوني من هناك، من بيت والدي إلى الأبد، ملفوفة في بطانية داكنة كأعماق ليالي ألاسكا القاسية، حيث تخلو السماء من النجوم، ويصير الكون قبةً خانقةً من الصقيع.

حتى اليوم، ما زلت أذكر الصوت الغليظ للمياه بينما كنا نبتعد بالسفينة.

كان صخب الرغوة يُعيد إليّ دائمًا ذكريات امرأتين روسيتين تحملان أباريق البيرة. ولا يمكنني نسيان الكتل الجليدية الضخمة وهي تطفو في البحر كأنها شواهد قبور بلا أسماء، ولا طعم الملح على شفتي الجافتين، ولا صراخ الطيور عندما أصبح الهواء أكثر دفئًا واختفت سواحل ألاسكا في الأفق، يغمرها الضباب البحري الذي يمكن أن يتخذ أحيانًا قوام رمال الصحراء.

المؤلفة: فاليريا كوريا فيز/ Valeria Correa Fiz (روزاريو، الأرجنتين، 1971) شاعرة وراوية ومحامية. مؤلفة كتاب القصص "حالة الحيوان" (Páginas de Espuma، 2016)، الذي اختير لجائزة القصة القصيرة الأمريكية اللاتينية الرابعة " جابريل جارسيا ماركيز" والمتأهلة للتصفيات النهائية لجائزة Setenil لعام 2017، كما نشرت مجموعات قصائد "The Dark Album". (2016) و"الشتاء ديشورا" (هيبيريون، 2017) اللذان فازا بجائزة الشعر "مانويل دي كابرال" وجائزة الشعر الدولية الحادي عشر "كلاوديو رودريغيز"، على التوالي. وقد نشرت مؤخراً ديوانه الشعري "متحف الخسائر" (Ediciones La Palma، 2020). تقيم في مدريد، وهي معلمة للكتابة الإبداعية وتنسق نادي القراءة في معهد ثربانتس في ميلانو.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى