استفتاء حول القصيدة النسوية
إن السعي لبلورة مفاهيمنا بخصوص قضايا إبداعية إنسانية ومصطلحات ومسميات ضرورة تفرضها طبيعة كل مرحلة تمر بها المجتمعات وخاصة المرحلة الحالية لما تتميز به من قفز سريع بحكم التطور التكنولوجي وعولمة الثقافة والاقتصاد .
والإبداع الأدبي والقصيدة النسوية تحديدا، بحث له مبررات الخوض فيه ونحن نشهد حاليا كثافة كمية وكيفية في كل مواضيع الإبداع التي تصدر بأقلام النساء .
لنسلم بلا مقدمات أن مقدرة النساء على الإبداع الأدبي والعلمي أيضا لا تختلف في شيء عن مقدرة الرجال وكانت تجربة الشاعرة نازك الملائكة جديرة بأن تضعنا أمام هذه الحقيقية لما كان لها من دور ريادي في فتح أبواب القصيدة على آفاق جديدة لتدشن وتشهد ولادة الشعر الحديث في الشرق مواكبة تجربة زملائها من المبدعين .
إذن النساء لسن قليلات عقل ورؤية ولكن ثمة قصور معلن وملحوظ حول مواكبة الكاتبات وتحديداً الشاعرات لمسيرة التجديد الحداثي .
انطلق في مناقشتي للأسباب الكامنة وراء هذا التعثر باستعراض هذه المقولة القديمة ل " خير الدين نعمان أبي ثناء الالوسي في مخطوطة كتبها 1898 حول الإصابة في منع النساء من الكتابة جاء فيها " فأما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله ، إذ لا أرى شيئا اضر منه بهن لما كن مجبولات على الغدر ، وكان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الفساد والشر، واول ما تقدر المرأة على تأليف كلام فأنه سيكون رسالة إلى زيد أو رقعة إلى عمر وبيتا من الشعر إلى عزب وشيئا آخر إلى رجل آخر . النساء والكتب والكتابة كمثل شرير فاسد تهدي إليه سيفا أو سكير تعطيه زجاجة خمر، فاللبيب من الرجال من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى فهو أصلح لهن وأنفع " ثم ينتقل إلى القول :
" لي مقت شديد لكل النساء المخربشات ، إن إبرة الخياطة وليس القلم هي الأداة التي يجب أن يتعاملن بها وهي الوحيدة التي هن قادرات على استعمالها بمهارة "
( عن مجلة النساء )
نلحظ من هذه المقولة الرغبة المستميتة في تكريس الرجل للمرأة . وان كان هذا الحديث قديم في سياقه التاريخي ولكنه هو ما نشهده في واقعنا المريض وبدرجات متفاوتة حتى يومنا هذا وأؤكد بشدة أن الواقع الذي اختلف في مظاهره العمرانية وأزيائه إلى حد كبير لم يواكبه ذات التطور والتحضر فكريا وخصوصا فيما يتعلق بقضايا النساء. والإبداع نسيج هذه العلائق المادية والروحية ولا أجد غضاضة في القول بأنه حتى مثقفينا ومن كل المناهل الفكرية ( باستثناءات طبعا) لم يحيدوا كثيراً عن روح هذه المقولات وحتى بين الذين يدعون الماركسية والتقدمية باختلاف مناهلها .
هذا نحن ومجتمع يسوده النظام الأبوي، كان وما يزال يلعب الدور الكبير في تهميش وحجر النساء بعيدا عن النشاط الفاعل وعن الكتابة تحديداً لأنها تستدعي أقصى الانطلاق والاشتباك مع الذات والعالم ومفاهيمه، وفي المقابل نجدنا إزاء شرعية وراثية لامتلاك المرأة وملكاتها، ما بين الأب والأخ وإلى الزوج وقد يصار إلى الولد أيضا .
واسباب أخرى لذاك التعثر أذكر ظاهرة الأمية العالية بين صفوف النساء والتي كانت معضلة في شرقنا وحتى زمن جد قريب ثم انتقل بعدها لواقع الذكورة وآثاره وكذلك الدين والأخلاق والسلطة ، عوامل تكاملت لنفينا عن روحنا وعن كل أشكال الإبداع ولكنها لم تفلح في سد الطريق تماما . لعل التجربة العيانية وشواهد من حياتنا اليومية تضعنا بلا أي تعليق أمام نتائج يدور حولها بحثنا . اذكر عندما كنت صغيرة كانت أمي دوما تردد علينا " ادرسوا، عليكم بالتحصيل العلمي العالي، إنها نعمة لا تدركون قيمتها الآن ، والله لو كان جدكم(رحمه الله) سمح لي بالتعلم لأصبحت كاتبة " !
ضحكت مرة وقلت لها : أمي وماذا كنت ستكتبين ؟ تابعت انشغالها بحياكة شالات صوفية لنا ومطرزات فنية تزين أركان البيت ، أقول هذا الآن وأدرك أن جدي لم يقرأ الالوسي ولا غيره ولكنه كان ذا سطوة ليس فقط على بناته بل على نساء الحي أيضا ( هذا عن جيل ما بعد نازك الملائكة بقليل، وواقع شريحة هي الأغلبية ) .
ماذا عن جيلي وجيل زميلاتي في عصر ما بعد الحداثة ؟ أقولها وبثقة أننا لم نبتعد للآسف عن تلك الخرائب إلا قليلا، وهنا سأتحدث عن ( الجهالة والثقافة ) وعن السلطة الذكورية بشكل جد واقعي وسأضع تجربتي الشخصية شاهدا لثقتي أنها تجربة كثيرات من الشاعرات واللواتي لا يستطعن ولا يردن الاعتراف والتصريح بها وأعترف أنني أفعل هذا بعد تردد كثير .
حصل أن اقترفت جريمة الكتابة، ونشرت قصيدة واحدة فيما مضى، وحصل أن كانت النتيجة أن أحرق " السيد " كل أوراقي حينها، وحصل أن تغيرت الظروف الشخصية والمكان وقدمت إلى المهجر بقصيدة يتيمة مخبأة في إحدى جيوبي، رغم أن القصيدة لم تكن تحمل نية للإطاحة بالنظام الحاكم ولا بشرف الأسرة، وحصل أن أحرقتها بنفسي في طقس احتفالي لأبدأ من جديد رحلتي في عراء العالم وكما خلتني أرادتني ثانية .
أما إذا أردت التطرق إلى الدور الذي يلعبه الدين والأخلاق والسلطان، فسأقف عند مأزق مفردات تخص القصيدة النسوية نابعة من حجاب فكري وحجاب مادي ما يزال يتحكم وبدرجات بمفاهيم النساء عن أنفسهن وعن المجتمع عموما ويضعهن أمام مصطلحات كالحشمة والعفة والسفور والإباحية وحرية القول والفعل . وهذا يرتكز في وجود الإبداع النسائي .
وكذلك أصبحت الثنائية ( الأخلاقية - الدينية ) مترابطة وبات الحكم الأخلاقي رديفا ومنطلقا من التصور الديني. عداك عن الاستهلاكية والبهرج الذي أحيطت به النساء في المجتمع الشرقي أو الغربي على السواء .
فعل الخلق الشعري يتطلب من المبدعة التعري من القيود والرقابات بفعلها اللاإنساني لتتمكن من ملامسة هواجسها وجسدها وروحها وخيالها و وإيداع ذلك كله على بياض الورق وفي مواجهة العالم لتنجب قصيدة سليمة بكل المقاييس .
الكاتبة إذن في مواجهة كل ذلك لم تكن تكف عن الخوض في مواضيع واستعارات تخلق في حد ذاتها عالما خاصا له طقوسه ومفرداته وشروده وحلمه، وفي رأسها ترتطم الكلمات ( عورة ، نشاز ، فسق، حرية ....)
للأسف نكتب أحيانا ونحن نخاف أن نخدش الحياء، أن نخدش الخراب، أن نخدش القبيلة، أن نخدش السلطان أو حفيده، أن نخدش الزوج أو الأب أو الصديق، أن نخدش الورق،أن نخدش الدين .... ونظفر بكمّ مرعب من الندب المتقرحة والمستورة بعناية أو ارتباك في جسد القصيدة أو في قعر الروح.
الحظ بان الشاعرة كي تكون وبجانب الموهبة، يجب أن تكون محظوظة بطريقة ما، أما أن تكون غرسة في أسرة متمدنة، او بالزواج من (مثقف – غير منفصم ) أو تكون متمردة على كل معطيات واقعها وفي حالات كثيرة ذات إرادة عالية ومعرفة ومقدرة على خلق قصيدتها وبمنتهى الإصرار .
وهكذا كانت قصيدة النساء، خلقت وهي تحمل فراداتها، أسلوبها، أدواتها، شاعريتها، زوايا الرؤيا المختلفة عن الرجل بحكم اختلاف طبيعتها وتكوينها السيكولوجي ( وأؤكد على اختلاف وليس انتقاص ) ومن هنا أجد أنه لا ضير، بل هناك ضرورة في أن ننظر وننقد القصيدة النسوية كمصطلح ومن باب الإيجابية وليس السلب لتكون لنا نافذة نحو معرفة الآخر ( المرأة )، وبالتالي للتعمق حتى في ذهنية الرجل وما يحمله من انطباع عن المرأة وما تصوره هي عن نفسها في رحم القصيدة .
قال الكاتب " بول فاليري " قديما، في محاضرة ساهم فيها كثير من المفكرين والأدباء تحت عنوان " من أنت أيتها المرأة؟ " : ألسنا نطرح على أنفسنا السؤال ذاته كلما نظرنا إلى المستقبل : ترى ما الذي يتفاعل في رأس المرأة؟ ماذا تخبئ وراء جبينها الذي أردنا أن نكرسه للحب ونقيده بتقلباته ؟
وعن سمات القصيدة النسوية عموما وبعد هذه العرض نستطيع أن نستخلص الكثير، وارى أنها زاخرة بمفردات من ذاكرة الشهرزاد في مواجهة شهريار، الخوف من العالم، الصراخ أحيانا، التيه، الضبابية، التحدي، الشفافية، التساؤل الملتبس والمدرك،..... كما هناك وبجدارة الكثير من الإنتاج العميق في رؤاه وأدواته وشاعريته حيث الجزالة والاقتصاد الخالي من الأورام والثرثرة .
ثمة أسماء نسائية شقت طريقها في ساحة الأدب واذكر مثلا ( اتييل عدنان – صباح زوين – غالية قباني _ غادة السمان .....) والغرض من هذا ،الإشارة إلى قاسم مشترك بينهن، حيث كان لكل منهن نصيبها من السفر، التمازج مع ثقافات أخرى بحكم المنشأ أو الظروف الخاصة، ولعلكم لستم تعتقدون إنني أريد القول بأنه فقط لو حملنا أوراقنا وتنقلنا في عواصم العالم سنلملم القصائد المرمية على الأرصفة بانتظارنا . وأستدرك بأنه حتى رائدتنا نازك الملائكة عاشت تجربة مماثلة من حيث الانفتاح والعيش خارج الحريم بأشكاله المتمثلة في المكان أو الذهن .
ساهمت القصيدة التي تكتبها النساء أو الأدب عموما في إغناء مكتباتنا بإبداعات تختلف عن أطرها السابقة ولم تعد تقتصر على الرثاء كالخنساء أو الكتابة للوطن والمقاومة وفقط، بل أخذت تشتبك مع قلقها الوجودي نحو العالم والذات، الحياة والموت، كما أخذت الشاعرة أيضا دخول ما يسمى " النص المفتوح " وهناك مساهمات جديرة بالالتفات إليها بين إبداع الشاعرات . كما أننا نشهد انطلاقة أقلام مميزة في باب القصة القصيرة والرواية .أشير إلى هذه الكلمات التي قالتها الروائية المصرية ميرال الطحاوي بعد نقد روايتها " الباذنجة الزرقاء " ( مقتطع من حديثها المنشور في جريدة الزمان ) :
" لقد كتبت سيرة روحي وأزمة عوالم عاشتها ملايين النساء، نعم فأنا في النهاية أنثى، وهذا جزء من وجودي الاجتماعي البيولوجي والخبرات الحياتية ومنظومة القهر التي نمت عليها أظافري الصغيرة ، الأنثى كانت جزء من المأساة وليس كلها، فأنا عربية في سياق قبلي من حيث التكوين والعادات، مسلمة في سياق سلفي يحاول استدراجي لمواقع سلفية، أنا إنسانة تحب وتحبط وتخلق أحلاما .... كيف أمحو الذاكرة ولماذا أمحوها، أنا أكتبها بكل الصيغ لأخلق واقعا قد يعطيني بعض الحرية والعدالة والتحقيق . " كما لدينا أصوات هي النقيض من هذا .
وعلى العموم نسعى لتكوين فكرة عن مصطلح القصيدة النسوية وأهليتها للتداول النقدي ونحن نعلم أن النقد عموما صامت أمام هذا الكم الكبير من الأدب بعمومه، وأشير إلى ظاهرة المسها حاليا في بعض الدراسات التي تنشر عن شاعرة أو شاعر، بحيث لا يتورع صاحب الدراسة عن القول مثلا : وصلني هذا الديوان من الشاعرة ....وأنا أقول ماذا لو لم يصل إطلاقا، ماذا لو كانت الشاعرة لا تملك فائضا من كتابها لترسله إلى النقاد والمهتمين .
ختاما أقول : لا شيء يقف أمام إرادة الإنسان رجلا أو امرأة، فكان الإبداع وكانت القصيدة بقلم الشاعرة وروحها وفكرها، وها هي تزدهر بشكل ملحوظ ، ولعل إعطائها حقها قراءة ونقداً يجعلنا في المحصلة نغير حتى فلسفتنا ( غير المعلنة ) وخطابنا الذكوري واحكامنا منذ تفاحة وأفعى وإلى نتشه ومقولته " عندما تذهب إلى المرأة لا تنسى أن تأخذ السوط معك "
بالقول :
عندما تذهب إلى المرأة لا تنسى أن تأخذ معك وردة وكتاباً، لتقطف من القصيدة، عطرا وألقا .