اتفاق أوسلو منعطفات في مسيرة الأسرى الفلسطينيين
بقلم الأسير شادي الشرفا
ملخص:
يهدف الباحث إلى دراسة تأثيرات وانعكاسات اتفاق أوسلو على الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية: برامجهم الثقافية والتنظيمية-البنى الهيكلية-المعنويات-الحياة اليومية-... إلخ. وركّز الباحث المشاهدة على تجارب الأسرى القدامى الذين عاشوا فترة التسعينات من القرن الماضي، بما فيها التجربة الشخصية للباحث نفسه. وبذلك تعتمد الدراسة على تحليل محتوى "31" مقابلة مع أسرى فلسطينيين وعرب مرّوا بتلك المرحلة، وكذلك على تحليل وثائق وأراشيف تنظيمية ما زالت موجودة في السجون تحاكي التجربة. والهدف هو فحص مدى تأثير الاتفاقية وما تبعها من اتفاقيات (القاهرة1+2-طابا-واي ريفير...إلخ) على أوضاع الحركة الأسيرة، لذا يعالج البحث التحوّلات البنيوية والثقافية الكبيرة على منظومة تلك الحركة ككل، اعتماداً على المنهج التحليلي-التاريخي ودراسة العلاقات المتبادلة لتجارب الأسرى وممارساتهم بعد توقيع الاتفاقية، مستنتجاً أن أهم تأثيرات الاتفاقية المشئومة هي تراجع الحركة الأسيرة وتفككها وغياب الثقة بالأطر التنظيمية، وبالتالي تغيير مجمل مكونات منظومة الأسر، بما فيها تماسك الحركة الأسيرة وقيمها واستعداديتها الكفاحية.
الكلمات المفتاحيّة:
حركة أسيرة-اتفاق أوسلو-تنظيمات وطنيّة وإسلامية-برامج تنظيمية-ثقافة وقيم حزبيّة.
مقدمة
أكثر من 9 آلاف أسير ومعتقل فلسطيني وعربي موزعين على أكثر من 25 مركز تحقيق وتوقيف بين سجن ومعتقل، كانوا عشية التوقيع على اتفاق أوسلو يرضخون في الباستيلات الصهيونية في شروط غير إنسانية، وحكم عليهم أن يقعوا بحكم الدوافع والمنطق الذي حكم المفاوضات الثنائية والاتفاقات المتمخضة عنها، ضحايا للابتزاز السياسي وتصفية الحسابات معهم كجماعات وفئات وأفراد من قبل السلطات العسكرية والأمنية الصهيونية على أسس تحددها السلطات السياسية والعسكرية والمخابراتية ومصلحة السجون1.
لقد شكلت المضامين التي حملها اتفاق أوسلو حالة انقلاب جارفة على مجمل القيم والمبادئ والمفاهيم التي تربى عليها الأسرى واعتمدتها التنظيمات الفلسطينية كمنهج تدريبي وتعليمي للأسرى، مستندين إلى واقع وتاريخ حركة التحرر الفلسطينية ومبادئها القائمة على المقاومة والكفاح وتحقيق العودة والدولة وتقرير المصير والتحرير الكامل للتراب الوطني الفلسطيني على أساس تفكيك المشروع الصهيوني وإزالة الاحتلال بشكل تام. بهذا السياق تتطرق الدراسة إلى التأثيرات المباشرة التي حصلت على أداء التنظيمات والأفراد وعلى منظومة القيم الثورية التي كانت سائدة.
هناك عدة مقالات ودراسات (غالبيتها غير ممنهجة) تناولت أوضاع الحركة الأسيرة، قلة من هذه الدراسات خرجت من رحم الأسر، واختزلت معظمها في الإحصاءات التي أعدتها الدوائر الرسمية التابعة للسلطة لاحقاً، أو تلك التي أعدتها بعض المنظمات الحقوقية2. لكن نادراً ما نرى دراسات تنقل تجربة الأسرى أنفسهم، وتخوض في العوامل السيكولوجية التي أثرت على العوامل الذاتية للحركة الأسيرة، وبالتالي على مجمل أوضاع الحركة وتحديداً في السجون المركزية.
وعادة تضع كتابات الأسرى في إطار هالة نوعية خاصة تجد حرجاً في انتقادها أو كشف عيوبها وسلبياتها بحكم الروح السائدة في تمجيد وتعظيم الفدائي المقاتل...
تهدف هذه الدراسة إلى تحديد أبرز التحوّلات التي طرأت على الحركة الأسيرة الفلسطينية ودور التنظيمات الفلسطينية ومكانتها وبراجمها والدوافع الذاتية للأسرى بعد اتفاق أوسلو، وما تمخض عنه من اتفاقيات ثنائية أخرى، ولأجل القيام بذلك، نطرح الأسئلة الاستكشافية التالية: كيف كانت الحركة الأسيرة بشكل عام بنيوياً ومعنوياً؟ ما الملامح العامة للتغيرات التي طرأت على السجون؟ هل تغيرت القيم الأخلاقية بعد الاتفاق؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومدى انعكاس ذلك على السجون بشكل عام والأسرى بشكل خاص؟ وما طبيعة العلاقة التي نسجت بين الأسرى ومؤسسات السلطة الناشئة، وكيف نقرأ تأثيراتها؟ وأخيراً، هل عجزت الحركة الأسيرة عن تجاوز أزمتها بعد انقضاء أكثر من عقدين ونصف على اتفاق أوسلو؟
في هذا الإطار، تسعى الدراسة -الذي يرجى أن تكون باكورة سلسلة من الدراسات الهادفة-إلى تشخيص أوضاع الحركة الأسيرة قبل وبعد أوسلو، ومراجعة البرامج والفعاليات التنظيمية وتغيراتها، من منظور الاختيار العقلاني للتأكد من طبيعة التأثيرات السلبية المخيفة التي آلت بالسجون بعد الاتفاقية وخطورة ما جرى في السجون ليس على الأسرى وحدهم، إنما على المجتمع الفلسطيني ككل، باعتبار الأسرى مكون أساسي وفعّال لهذا المجتمع، وبهذا السياق نتطرق إلى العلاقة بين تردي أوضاع الحركة الأسيرة من جهة، واتفاق أوسلو وتبعاته من جهة أخرى كفرضية بحثية تنتهج الاستقراء والاستنباط في آن.
الإطار النظري والمنهجي
تستند هذه الدراسة إلى ثلاثة من طرائق البحث:
31 مقابلة شبه منظمة مع أسرى عاشوا التجربة، وتحليل المحتوى للوثائق التنظيمية والأراشيف لبعض التنظيمات 3، وإجراء مقارنة ومقاربة تاريخية لأبرز التحولات على المسرح الاعتقالي قبل وبعد الاتفاقية وصولاً للعام 2000.
أجريت المقابلات مع عينة قصدية من مختلف التنظيمات، فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية والجهاد الإسلامي وحماس والمقاومة السرية4 انطلاقاً من معايشتهم التجربة بما فيها تجربة الباحث نفسه، وراعت الوضع التنظيمي الهيكلي ودورهم بالسجون التي عاشوا بها والمؤثرات السيكولوجية عليهم بعد توقيع اتفاق أوسلو، إضافة الى تحويلهم الشخص لحدث5،ولقد اخذ بالاعتبار عدة معايير منها: الانتماء الأيديولوجي-السياسي، الموقع الجغرافي(السجن)، المرتبة الحزبية، وحدة التجربة المعايشة، ويعكس البحث تنوع الأسرى من حيث المعايير المذكورة أعلاه. لأن حجم العينة صغير نسبياً وعليه، لم اتجه إلى إنتاج أي استبيانات إحصائية، ولا أدعي أنها عينة ممثلة احصائيا؛ لذا لم استخدم النسب المئوية، إنما استعداد عام لبعض المتغيرات وبنفس الوقت تم مراعاة خصوصية كل أسير لذا تجنبنا عرض الأسماء بشكل عام.
وتكمن المشكلة البحثية في استمرار صدى التشرذم نسبياً الذي آل بالحركة الأسيرة بعد توقيع اتفاق أوسلو حتى لما بعد الانتفاضة الثانية التي انطلقت عام 2000. فبرغم الأعداد الهائلة التي دخلت السجون - يبلغ تعدادها الحالي في سبتمبر 2018 جوالي 7500 أسير حسب آخر إحصائية لهيئة شؤون الأسرى- إضافة إلى الموت السريري الذي يعانيه الاتفاق والذي لم يبق منه الا ما يخدم المصالح الصهيونية، فان أوضاع السجون لم تعد كسابق عهدها من حيث التنظيم والإدارة والتثقيف والعلاقات الداخلية واستعدادية المواجهة.رغم ملامح التغيير الإيجابي البطيئة نسبياً في السنوات الأخيرة لدى بعض التنظيمات إلا أن الحالة ما زالت تسودها صفة الإحباط والتراجع، ما يدع التساؤل قائماً حول التأثير بعيد المدى للاتفاقية رغم مرور أكثر من عقدين ونصف على إبرامها.
ومن الجدير ذكره أن أهمية الدراسة تنطلق من العدد الضخم للمعتقلين السياسيين الفلسطينيين. فمنذ احتلال "إسرائيل" لما تبقى من الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1948 وذلك في حرب عام 1967 اعتقلت حوالي 800 ألف مواطن فلسطيني6.وهذا العدد الكبير يؤثر بكل مباشر على المجتمع الفلسطيني الصغير نسبياً. فدلالة الحركة الأسيرة هي بالأساس دراسة أبرز مكونات المجتمع الفلسطيني.
مقدمة لابد منها
يعد الانخراط بالمشروع الأمريكي-الصهيوني للتسوية أحد أبرز الكوارث التي حلت بالشعب الفلسطيني والتي أدت الى تراجع الحركة الاسيرة وتردي أوضاعها. فقد جاء اتفاق أوسلو مفاجئاً وصادماً لأغلب قطاعات الاسرى، فيما رآه البعض الآخر "المسار الطبيعي والمحتوم لانهيار القيادة البرجوازية واليمينية وارتجاف قيادة م.ت.ف وانهيار خطها السياسي، والذي بدأ يتآكل بعد دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الرباط في الأول من حزيران من عام 1974"7، حيث تبنت المنظمة ما يسمى ببرنامج النقاط العشر ومنها مبدأ إقامة السلطة الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره أو انتزاعه، مما أدى الى انقسام التيارات الفلسطينية الى معسكرين: أحدهما مع التسوية، والآخر رافض لحلول التصفوية للقضية الفلسطينية. وقد حذرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باعتبارها الفصيل الذي قاد جبهة الرفض من "فرض مشروع الإدارة الذاتية عبر محاولة تصفية مقاومة جماهيرنا داخل فلسطين"8.
وفي هذا السياق شكل توقيع اتفاق اعلان المبادئ وتبادل الاعتراف ما بين القيادة المهيمنة في م.ت.ف والكيان الصهيوني نقطة الانعطاف النوعية في نظامنا الوطني المعاصر9. وبذلك فان الهبوط السياسي الذي مارسته تلك القيادة المتنفذة كان انعكاساً للمواقع الطبقية وتحولاتها في تلك القيادة وحملت الكثير من الأثر على الاسرى الفلسطينيين. فقد شكل الاتفاق صدمة حقيقية لهم والذين رأوا بأوسلو خيانة لنضالهم ولتاريخهم وللمبادئ الثورية التي نشأوا عليها، رغم تأييد البعض للاتفاق تحديداً من حركة "فتح"، الاّ أن السائد كان الشعور بالاستياء والغضب الشديدين، خاصةً وأن الاتفاق جاء واضحاً يعترف بحق "إسرائيل" بالوجود، وجاء أيضاً معبراً عن السياسة الإسرائيلية الاستعمارية الاستيطانية التي تعادي حق الشعب الفلسطيني بالعودة وتقرير المصير والدولة المستقلة10. ولم تكن أوسلو تقدم الحد الأدنى مما طالب به الفلسطينيين على حد تعبير الحكيم " جورج حبش " 11.
من أجل تحقيق غرض الدراسة، لسنا بصدد تشريح بنود الاتفاق التي باتت معروفة لدى أغلب القطاعات المجتمعية الفلسطينية، والتي تعيش مرارة تداعيات أوسلو السلبية يومياً في كافة النواحي السياسية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والأمنية...وهنا فان تركيزنا سيتمحور حول الحياة الاعتقالية بفترة التسعينات من القرن الماضي ارتباطاً باتفاقيات أوسلو.
إرهاصات التراجع مع عقد مؤتمر مدريد
وصل أعداد الأسرى في ذروة الانتفاضة الأولى ما يناهز 14 ألف أسير، موزعين على مختلف السجون والمعتقلات ومراكز التحقيق والتوقيف. وانتشرت تلك السجون والمراكز والمعتقلات في مختلف أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 و1967، وكان الاكتظاظ يفرض على قيادة الحركة الأسيرة المناضلة نظام حياة اعتقالية صارم مبني على أسس وقواعد تنظيمية تضبط العلاقة الداخلية للحركة الأسيرة داخل التنظيم الواحد أو جميع التنظيمات، والعلاقات الخارجية مع الإدارة، وتحد من التناقضات الداخلية عبر الانضباط وبرامج التثقيف والتعبئة والتحشيد. هذه البرامج الحزبية كانت انعكاساً لعدة عوامل منها موجة التصعيد في النضال الوطني الفلسطيني والتوافق العام لدى مختلف الفصائل على تصعيد حدة الاشتباك مع الاحتلال، بما في ذلك الفصائل التي انخرطت في التسوية لاحقاً.
ثم جاء مؤتمر مدريد عام 199112، بما حمله من انقسام على الساحة الفلسطينية ومن اختلاف جذري بين القوى التي راهنت على هذا المسار وتحديداَ حركة فتح وبعض الفصائل الصغيرة من جهة، وباقي القوى الفلسطينية من جهة أخرى وتحديداً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كانت القوة الثانية في الساحة الفلسطينية آنذاك. هذا الانقسام عكس نفسه على السجون وعلى العلاقات بين القوى الفلسطينية فيما بينها، إضافة إلى العلاقة مع إدارة السجون الصهيونية.
وأوضاع السجون كانت مذريه من كافة الجوانب الإنسانية المعيشية، خاصة في ظل حالة الاتظاظ والأعداد المتدفقة يومياً إلى السجون، نتيجة حالة الغليان في الشارع الفلسطيني وتصاعد الانتفاضة و"انتقال ثقل الثورة الفلسطينية إلى الداخل" 13 ومشاركة جماهيرية غير مسبوقة بالنضال الوطني الفلسطيني التحرري. ثم بدأت المتغيرات الدولية تفرض نفسها وتؤثر على الساحة الفلسطينية، منها انهيار الاتحاد السوفيتي وما رافقه انهيار المنظومة الاشتراكية كأحجار الدومينو، وحرب الخليج الثانية عام 1991 والتحالف الدولي الذي أنشأته أمريكا لضرب المقومات العراقية، كان كل ذلك محل جدل واسع في السجون، خاصة بعد مشاركة أغلبية الأنظمة العربية في تحالف الحرب الطاحنة ضد العراق وما رافقها من محاولة إرضاء العرب وتعويضهم عبر جرجرتهم إلى مؤتمر مدريد14، ثم حضور شخصيات فلسطينية من الداخل ممثل في الوفد الأردني (عبد الشافعي - الحسيني - عشراوي... إلخ) ، وقد تباينت آراء المعتقلين حول المؤتمر، خاصة الجبهة الشعبية حيث اعتبروا أن ياسر عرفات يسعى لاستثمار الانتفاضة على وجه السرعة، فيما بررت قيادة فتح في السجون الحدث بأنه لم يعد للفلسطينيين خيار آخر سوى التسوية في ظل الحصار المفروض على م.ت.ف، وموقف عرفات الداعم لصدام وتداعياته على المستوى العربي. وكان لانعقاد مؤتمر مدريد انعكاساته على الأسرى خاصة من حركة فتح والذين تلقوا من قياداتهم رسائل مطمئنة تؤكد على أن الإفراج عن الأسرى بات مسألة وقت. وكان من الطبيعي أن يبدأ الانشغال بالإفراجات مما أدى تدريجياً إلى تراجع الأداء التنظيمي والثقافي داخل السجون.
أنضجت الظروف السياسية تلك الاستعداد الفصائلي للعمل على إطلاق إضراب مفتوح عن الطعام بأكثر مشاركة ممكنة من قبل السجون، وهكذا انطلقت حرب الأمعاء الخاوية في الإضراب الاستراتيجي المسمى "فرسان الحرية" عام 1992 ليكون لهذا الإضراب المطلبي النقلة النوعية في أوضاع السجون من مختلف النواحي.
فالإضراب الذي استمر 17 يوم، وشاركت فيه جميع السجون المركزية في الداخل المحتل، إضافة إلى أبرز السجون في الضفة (جنيد -نابلس ... إلخ) بتعداد حوالي 4500 مضرب عن الطعام، هذا الإضراب حقق أبرز الإنجازات الحياتية الهامة.
ويروي الأسرى أن تعامل الإدارة مع هذا الإضراب لم يكن مسبوقاً: حيث تعمد السجانين عدم الاحتكاك أو التنكيل بالأسرى بخلاف التجارب السابقة للمضربين، واعتقد الأسرى أن إدارة السجون قد تلقت أوامر من الجهات العسكرية لضبط الأمور داخل السجون كي لا ينعكس ذلك على الشارع الفلسطيني والذي انطلق بموجة من أكبر موجات الدعم للأسرى منذ تاريخ الاحتلال. لكن ما كشف لاحقاً هو أن إدارة مصلحة السجون قد تلقت تعليماتها من الجهات الرسمية السياسية بالتعاطي بالإيجاب مع الإضراب لأنهم لا يريدون تعطيل للمسار التفاوضي الثنائي السري الذي انطلق من رحم مدريد مع الجانب الفلسطيني. وقد أعرب (يوسي سريد) من حزب ميرتس، الذي كان أصلاً في الحكومة آنذاك عن ذلك بقوله: إننا رأينا تجاوبُ غير مسبوق ومفاجئ من قبل قيادة فتح للتوقيع على اتفاق تاريخي يعترف به الفلسطينيين بالحق التاريخي والوجودي"لإسرائيل"، ولم نكن نريد إعاقة هذا الإنجاز النوعي الذي من شأنه إنهاء النزاع ضمن المنظور الصهيوني..." 15.
أدخل الإضراب إلى السجون إنجازات عديدة، وصارت الكانتينة والتلفزيون الذي زادت قنواته عنواناً لمرحلة جديدة، وفي الوقت الذي حاولت به بعض الفصائل في السجون الحفاظ على الحد المعقول من البرامج التعبئة الحزبية، فإن قطاع واسع من الأسرى بدأ يحمل هموماً ذاتية ومضموناً مختلفاً عن السابق. مما شكل نوعاً من الهبوط في المستوى الثقافي العام وخاصة بعد جلاء الإستعدادية للقيادة البرجوازية في م.ت.فللاعتراف بإسرائيل. هذا التراجع كان طفيفاً ومتفاوتاً بين فصيل وآخر، حتى جاء اتفاق أوسلو وتوقيع "إعلان المبادئ" في واشنطن، وبدأ بعدها مسلسل الانحدار: علماً أنه قد نشأت قناة أوسلو من خلال العلاقات الشخصية بين قيادات وشخصيات "إسرائيلية و"نرويجية فلسطينية"، قادت هذه العلاقات إلى لقاءات رسمية نتج عنها اتفاق أوسلو 16.
أوسلو والطوفان
لا شك أن لائحة السلبيات التي تُسجل ضد أوسلو طويلة 17 كما حمل هذا الاتفاق بعد سبعة أعوام من الانتفاضة الباسلة مضامين عديدة كرست الانقسام في صفوف الحركة الأسيرة بشكل خاص، والمجتمع الفلسطيني بشكل عام. وقد جاء الاتفاق غير متوازن حاملاً مضامين بديلة لبرنامج العودة والحرية والاستقلال، وتعبيراً عن أزمة النضال وأزمة حركة التحرر الوطنيّة وعلى هذا الأساس نقلت الاتفاقية النضال الوطني الفلسطيني لمرحلة جديدة تسمى بناء السلطة بديلاً للنضال التحرري، خاصة بعد قيام السلطة في تموز 1994.
وبكلمات أخرى، فإن الشرعية التي تمنحها القوى الظالمة أو المساعدة الأجنبية للقوى العظمى لصالح الكيان الصهيوني لا تساوي شيئا أمام توقيع صاحب الحق على صك التنازل التاريخي عن فلسطين، وهذا ما جرى التجهيز له في اتفاق أوسلو18.
إن المفاهيم الجديدة التي أدخلها الاتفاق قد شكلت تحولاً نوعياً في المفاهيم السائدة في السجون، وكان على قيادة حركة فتح في السجون أن توضح لعناصرها كيف انتقلت من مواقع الكفاح المسلح إلى التفاوض كأمر واقع، أو الانتقال من المشروع المرحلي إلى الاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود، ثم الانتقال من العمل السري إلى العلني، أو من موقع الهجوم على المستوطنات إلى موقع حماية المستوطنات من قبل عناصر جيش التحرير الفلسطيني الذي انتقل إلى الداخل الفلسطيني.
ناهيك عن ترك مصير فلسطينيي الداخل المحتل نحو مصير مجهول، وإسقاط البعد القومي للقضيّة الفلسطينيّة. وقد روى الأسرى مشاعرهم التي سادها حالة من الذهول وخيبة الأمل عند نشر صحيفة يديعوت أحرينوت العبرية الرسالة التي وجهها عرفات لِـرابين عشية التوقيع على اتفاق أيلول 1993 يجرى بها التأكيد على الإعتراف الفلسطيني بحق "إسرائيل" في الوجود كدولة قبل أن تحدد حدودها وقبل أن تحدد حقوق أو حدود وطنية للشعب الفلسطيني.
كان واضحاً أن القيادة اليمينية في م.ت.ف انتهزت الخيارات التفريطية بارتدادها وانهيار خطها السياسي، وانقلابها على البرنامج التحرري عبر انخراطها في المشروع الأمريكي-الإسرائيلي للتسوية، ثم أن اتفاق أوسلو لم يأت على ذكر الأسرى الفلسطينيين الذين يقبعون في سجون الاحتلال، وهذا يعني ترك الأسرى لمصير مجهول، وعدم الإفراج عنهم كشرط مسبق لأي اتفاق سلام مزعوم، وهذا فيما يتناقض مع التصريحات الفلسطينية آنذاك، والتي أشارت إلى إطلاق سراح فوري لكل الأسرى 19. ربما لحفظ ماء الوجه، أو ما تبقى منه بعد سلسلة الإخفاقات، وهذه التصريحات بناء على ما جاء على لسان "أحمد قطامش" والذي كان معتقلاً إدارياً، في تعارض واضح مع بنود اتفاق أيلول أوسلو والذي "لم يأت من قريب أو بعيد على قضية الأسرى أو معتقلي الحرية.. لقد تجاهلها كلها.. وبالطبع لم يأت اتفاق أوسلو أو من بعده اتفاق القاهرة على ذكر اتفاقية جنيف الرابعة التي وقعت إسرائيل عليها من باب إلزامها بمقتضياتها.. على الأقل.. في قضية الأسرى والمعتقلين، لتستميل قضية سجناء الحرية إلى موضوع (تفاوضي-سياسي) يخضع لنفس منطق ميزان القوى السائد في المفاوضات الثنائية، والمنطق والإملاءات الإسرائيلية) ويضيف قطامش:"ويرى المفاوض الفلسطيني نفسه تحت الابتزاز الإسرائيلي وكذلك الأسير الفلسطيني"20.
لا نبالغ إذا قلنا أن صدمة كبيرة واجهت الأسرى حين علموا أنهم ليسوا جزءاً من اتفاق اوسلو، وولّد هذا شعور آخر بالخيانة، رغم أن بعض الأسرى الذين أجري استطلاع آرائهم ينتمون للجبهة الشعبية والمحكومين بالمؤبّد21، قالوا إنهم كانوا يفضلون البقاء في السجون على أن يتم الإفراج عنهم بموجب اتفاقية مخزية مثل اتفاق أوسلو يكرس الاحتلال وتعطيه الشرعية.
وتدريجياً بدأ يتعاظم الشعور بأن "القضية بيعت؟" على حسب تعبير أحد الأسرى، وحتى بعض أسرى الداخل المحتل المحكومين بالمؤبدات أفادونا بأنهم شعروا بـِـ "الطعنة بالظهر" بعد تنازل القيادة البرجوازية عن 78% من الأراضي الفلسطينية عبر الاعتراف بإسرائيل، وحسّوا بأن نضالهم كان عبثياً مما انعكس على طبيعة العلاقات الداخلية في السجن الواحد22. وعلى وقع ترقّب الإفراج علّقت أغلب البرامج الثقافية للتنظيمات، وغرق الأسرى في متابعة الأنباء التي ترد لهم من الخارج، وهنا بدأ الطوفان على كل المعايير التنظيمية السابقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
حول تجاهل الأسرى من قبل أوسلو
حالة الغضب التي بدأت تشتعل في السجون تصاعدت وتيرتها خاصة بعد اكتشاف أن القيادة الفلسطينية تجاهلت مطلب الإفراج الفوري عن جميع الأسرى، وتحول ملف الأسرى إلى محور أساسي للابتزاز السياسي. ثم ساهمت التنظيمات الفلسطينية المعارضة للاتفاق في وضع عناصرها في السجون في تفاصيل الاتفاق المخزية، في نبرة بها الكثير من الإحباط والعجز، خاصة وإن قطار التسوية بات أسرع من المشروع المناهض له.
وتبين لدى الأسرى الفجوة الكبيرة بين الوفد الفلسطيني والوفد الصهيوني من حيث الخبرة والمهنية، "فالوفد الإسرائيلي كان يتمتع بكفاءات ذهنية وقانونية واختصاصية، وكان يعرف ما يكون وما لا يكون، على عكس الوفد الفلسطيني الذي يغلب عليه الصبغة السياسية، المجهرية والضمنية، حتى أن الأغلبية لا تاريخ ثوري لها، بينما فاوضت قيادتهم (قيادة فتح) في وقت تقهقرها وإستسلامها"23، وقد عكس ذلك نفسه في تجاهل قضية الأسرى وتناسيهم من قبل الوفد المفاوض الفلسطيني وقد عبّر عن ذلك أحد المستطلعين حين قال: "وكأنهم أنهوا الحرب وعادوا إلى بيوتهم وتركوا الجنود في المعركة"-في إشارة إلى قيادة م.ت.ف- وقد أعرب الأسرى الذين عاشوا تلك التجربة عن تفاجئهم من التناقضات في التصريحات التي كانت تصل إليهم من قبل أعضاء في الوفد المفاوض. حيثاتضح لهم البعض أنهم ببساطة نسوا الأسرى؟!، وآخرين قالوا إنهم لم ينسوا الأسرى فقضية المعتقلين هي "تحصيل حاصل" والإفراج عنهم حتمي. أمّا عرّاب الاتفاق"أبو مازن" فقد قال: "إننا لم ننسى الأسرى يوماً؟". الملفت أن أحد الأسرى المحررين من القياديين المعروفين على الساحة الفلسطينية تواصل مع الأسرى وأخبرهم: "ألحقوا حالكم.. القيادة نستكم.. وإذا لم تتحركوا لن يفرج عنكم"24. وحقيقة الأمر أن جريمة تناسي أسرى الحرية هي حقيقية واقعية أكدها عراب آخر للاتفاق (شمعون بيريز)في برنامج تلفزيوني في القناة الثانية في الذكرى العاشرة للاتفاق أوسلو عام 2003، قال فيها: "كنت أحمل ملف الأسرى بين يدي، حين توقيع الاتفاق (إعلان مبادئ) وكان من الطبيعي أن يطلب الفلسطينيين إفراج عن المخربين (المعتقلين) وكنا على استعداد الإفراج عنهم جميعاً، لكن تفاجأت بأن الوفد الفلسطيني كان منبهراً ويعيش حالة نشوة كبيرة ولم يطلب الإفراج عن جنوده (الأسرى)"... ويضيف: "ثم بعد غضب الشارع الفلسطيني وظهور سخطه على القيادة الفلسطينية وظهور قضية الأسرى باعتبارها جوهريّة لدى المجتمع الفلسطيني اعتمدنا سياسة تلقي أثمان مقابل أي إفراج عن الأسرى"25.
إن ما جاء على لسان "بيريز" يؤكد صحة إغفال ملف الأسرى الفلسطينيين من قبل القيادة البرجوازية الفلسطينية التي بدت غير مكترثة بقضية المناضلين الذين دفعوا أعمارهم فداءً للوطن. وفقط بعد أن تحرك الشارع الفلسطيني مطالبا بالإفراج عن الأسرى، وحين صارت قضية الأسرى هي القضية الأبرز في الشارع الفلسطيني بدأ الوفد المفاوض يشعر بالحرج وضعف الحيلة لأن تجاهل الأسرى يعني أنهم تخلّوا عن كل شيء... عن التاريخ والأرض والإنسان نفسه، فماذا تبقى لهم؟!.
ويروي الأسرى في حادثة غريبة ترددت على لسان جميع من استطلع آرائهم، قالوا بأنه في لقاء مع ياسر عرفات نظم مع أهالي الأسرى، وبعد إلحاح إحدى الأمهات على الرئيس للعمل على الإفراج عن الأبناء، غضب عرفات وصرخ في وجه أهالي الأسرى قائلاً: "شبر أرض أحسن من جميع الأسرى!"26. وقد وصل صدى هذا التصريح الى السجون عبر زيارات أهاليهم مما زاد إحساسهم بحجم السقوط المدوي للقيادة اليمينية في م.ت.ف، ناهيك عن أن هذا التصريح يبين أن حتى مسألة الانسحاب من أراضي التي احتلت عام 1967 غير محسومة وهي رهينة المفاوضات أيضاً.
هذه العوامل كان لها صداها في السجون وانعكست سلباً على الشعور الوطني والانتماء الحزبي، ولا سيما أن القيادة الفتحاوية في السجون عجزت عن تبرير الموقف الفلسطيني الرسمي، آخذين في عين الاعتبار أن الأسرى كانوا يومياً يتلقون الصحف العبرية المتنوعة، والتي كانت تعرض المنجزات الصهيونية من هذا الاتفاق. وقد أدى ذلك إلى إضعاف التنظيم الأكبر في السجون-أي حركة فتح- وتضعضع صفوفها، وبدأت تتفكك قياداتها وتتقلّص ثقة عناصرها بها، وابتعدت تدريجياً عن التعبئة الثورية. فحينما يقال يجب تعبئة الجماهير بالموقف الثوري، فهذا يقتضي وجود أداة منظمة قادرة على التعبئة27. وما جرى هو أن تلك الأداة المنظمة تراجع دورها وبدأت تتآكل وتتشرذم.
إقامة سلطة أوسلو، وبداية الإفراجات والتغيير في القيم
استمر ترقّب الأسرى للأحداث السياسية حتى توقيع اتفاق واشنطن لإعلان المبادئ، وكان المشهد مبكياً لدى الأسرى حين رأوا أحد رموز الثورة (أبو عمار) يعانق(رابين) صاحب سياسة تهشيم العظام والقبضة الحديدية في الانتفاضة الأولى، والغني بالتاريخ الإجرامي بحق الشعب الفلسطيني.
لم يفرج عن أعداد مهمة آنذاك وغالبية من أفرج عنهم كانوا من الأسرى الجنائيين. مما أعطى الانطباع لدى الإسرائيليين الماضين قدماً في سياسة الابتزاز بموضوعة الأسرى كغيرها من الموضوعات. وهذا ما أكد عقم المسار التفاوضي الذي يقوده الجناح البرجوازي في م.ت.ف بإيقاع تحدده الإدارتين الأمريكية و"الإسرائيلية"
أقيمت السلطة في تموز 1994 في سياق ما سمي " غزة وأريحا أولاً"، وتحت شعار أن الصراع انتهى أو في طريقه للانتهاء، ثم ما لبث أن تفتت هذا الوهم من خلال الصلف والعناد الإسرائيلي وتكشّف نواياهم في تأبيد المفاوضات والقضاء على المشروع الوطني الفلسطيني برمّته. وكان اتفاق أوسلو بمثابة الجسر الذي عبرت به إسرائيل" الحدود العربيّة"، فكان اتفاق وادي عربة مع الأردن، وسمح الاتفاق بفتح العالم وشركاته وذراعيه "لإسرائيل" لأول مرة في تاريخها وكأن الأنظمة العربيّة والعالم كانوا ينتظرون تلك اللحظة من توقيع الاتفاق المشؤوم ليقولوا من نكون لنكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم!. فمنذ مؤتمر مدريد تأسست في إسرائيل 3 آلاف شركة للتكنولوجيا المتقدمة وهو عدد يفوق نمو الشركات في كل دول العالم ما عدا الولايات المتحدة... وبدأت "إسرائيل" تكتسب لقب وادي السيليكون الشرقي في أوساط الاقتصاد العالمي تشبيهاً بتلك المنطقة المتفوقة في تكنولوجيا الكومبيوتر في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة 28.
ورغم حجم الكارثة، انحصر دور القوى المعارضة لأوسلو خاصة وأن المتمسكون بفلسطين متهمون، على الأقل، بالطوباوية واللاواقعية، وأنهم لا يملكون حلاً عملياً يمكن أن يسمح به الغرب أو النظام الدولي الراهن29. كما أن انعكاسات أوسلو السلبية على السجون لا تنحصر في أبعاد الاتفاق وقدراته الاستراتيجية أو في القفز عن ملف أسرى الحرية فحسب، إنما أيضاً في التفاصيل التي رافقت قيام السلطة... فقد نقلت السلطة معها إلى الداخل ثقافة الفساد والاستهلاك والتطبيع والانتهازية والإستزلام والمحسوبية والتسلط وغيرها، وسرعان ما ظهرت سطوة الأجهزة الأمنية الناشئة والمتضخمة، والتي تقمع المواطن الفلسطيني دون أن يذرف لها دمع. وبعد أن تم تسليم عدّة مدن فلسطينية (إعادة انتشار جيش الاحتلال) إلى السلطة تحولت مراكز التوقيف والسجون الإسرائيلية فيها إلى مراكز للتعذيب اتخذتها رجال السلطة ضد المعارضين والخصوم السياسيين30.
وبهذا السياق كانت النواة الأساسية والعمود الفقري لسلطة الحكم الذاتي هي الأوساط البيروقراطية القيادية العليا المتمثلة بعرفات وصحبه، يضاف لهم قطاع اقتصادي-اجتماعي نشط في الداخل من كبار التجار الكومبراد... فاتحدت الأجهزة البيروقراطية في الخارج مع القاعدة البرجوازية في الداخل31. إذا كانت الجماهير الفلسطينية وما زالت ضحية هذا التحالف وتعاني من ويلات من اضطهاد السلطة من جهة والاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى.
لعل أهم متغير حصل في السجون هو الانهيار الأخلاقي لقطاع من الأسرى، رغم أن جزء حاول الحفاظ على منظومة القيم التي نشأ عليها وتشربها خلال الممارسة النضالية. وقد تنبأ قطامش لهذه الحالة عندما قال: "حفظ الأخلاقيات فيه ستكون مرآة ناصعة تتهدم فيه قيم النضال والتضحية والجماعية والتأهب، يحل محلها قيماً استهلاكية تتماشى مع الاستهلاكيةالاقتصادية والتبعية السياسية. فتزدهر النزعة الذاتية ومصلحة الأنا والمحسوبية والرشوة والنفاق والهم النفسي حتى على حساب المبادئ والشرف والكرامة"32.صحيح أن قطامش كان يتحدث عن المجتمع الفلسطيني بشكل عام، ولم يخص الحركة الأسيرة بالتحديد لكن بما أن الأسرى هم جزءاً أصيلاً من مكونات الشعب الفلسطيني فقد نالهم نصيبهم من الانهيار الأخلاقي الحاصل.
يروي أحد الأسرى تجربته-علماً بأنني الكاتب عايشت نفس تلك التجربة-33 فيقول: "أنّه بدأت تتقلّص الدورات الكادرية وتتلاشى وحل مكانها المجهود الذاتي والمحدود للتطوّر الثقافي، ثم ظهرت حالات الإنفلاش وضعف الهيبة التنظيمية والانضباط وظهرت أمراض اجتماعية لم نعدها في السابق، أو كانت مخفيّة، منها السرقات والطوش والتكتلات المصلحية والتبعية وإعلاء شأن"أُمراء الطوائف"-أي المناطقة على حساب التنظيم- كل ذلك يغديه أجهزة الاستخبارات في السجون، وللأسف الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الخارج"34.
وفي 4/5/1995 وقع اتفاق القاهرة1 وأفرج آنذاك عن حوالي 5 آلاف أسير خلال أسبوع واحد فقط، هذا الأمر لم يحظى بتأييد لدى الأسرى لعدة أسباب نوردها على النحو التالي:
جميع من أفرج عنهم هم من ذوي الأحكام الخفيفة وتم تجاهل النواة الحقيقية للأسرى والمحكومين أحكام عالية أو مؤبّدة.
لم يفرج عن أسرى القدس والداخل المحتل كما أسرى حماس والجهاد الذين لم تشملهم الإفراجات.
لم تذكر اتفاقية القاهرة أي بند يتحدث عن الإفراج عن جميع الأسرى وفق جدول زمني محدد.
أفرجت دولة الاحتلال الصهيوني عن الأسرى ضمن عملية "عفو" وليس إفراج بمنطق السلام مما شكّل إهانة للأسرى وتضحياتهم.
تم ربط الإفراج عن الأسرى بالعملاء الموجودين في الضفة تحت بند "تعزيز الثقة". أي قبل الوفد الفلسطيني المفاوض مبدأ المساواة بين العملاء والخونة للوطن وبين أسرى الحرية الذين يدافعون عن قضية عادلة35.
تم استثناء الأسرى الذين اعتقلوا بعد أوسلو-واشنطن.
تم فرض وثيقة تعهّد مذلّة على الأسرى المفرج عنهم قبل بها الوفد المفاوض الفلسطيني تتضمن التوقيع على الامتناع عن "ممارسة الإرهاب والعنف" واحترام القانون إضافة على الموافقة على النفي إلى منطقة غزة أو أريحا مدة محكوميتهم ليكونوا تحت إشراف الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
وتجدر الإشارة لبروز حالة من الرفض المشرّف لعدة أسرى لوثيقة التعهد المذلة تلك، لا سيما أسرى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذين رفضوا توقيع هذه الوثيقة دون أن يفاجئ ذلك باقي الأسرى والذين عهدوا المواقف الصلبة والجذرية لرفاق الجبهة الشعبية طوال تاريخهم النضالي العريق. وقد جرى تعديل الوثيقة مرتان حتى قبلت الصيغة الأخيرة على مضض في أواخر تسعينيات في أواخر القرن الماضي.
وتحت وطئه الإفراجات الكبيرة ذابت العملية التثقيفية والتنظيمية بشكل كامل لدى أسرى فتح، وتراجعت لدى باقي الفصائل وانحصرت أغلب البرامج في المطالعة الفردية، وتوقف تجديد المواد وتقلّص إدخال الكتب. حتى أن أسرى فتح في السجون المركزية أتلفوا جميع كراسات الحركة التنظيمية والأمنية والاعتقالية بذريعة الإفراجات المرتقبة. متكئين على الوعود التي تلقوها من قبل قيادتهم في الخارج.
التصنيفات والانقسام وحالة الاغتراب
تراجع النشاط الانتفاضي في الخارج، وهدأت وتيرة الاشتباك بشكل ملحوظ، ولم تعد السجون تستقطب سوى أعداد قليلة من الأسرى غالبيتهم من حركة حماس ، والباقي من الجبهة الشعبية خاصة الإداريين إضافة إلى أعداد قليلة من الأسرى المحسوبين على فتح.
وكان العنوان الأبرز بعد عام 1994 هو التصنيفات التي فرضتها الأجهزة الأمنية على الأسرى. فقد تم رفض الإفراج عن أي أسير "ملطخة أيديه بالدماء الإسرائيلية" على حد تعبير (يوسي سريد)36. وتم استثناء من يعارض اتفاق أوسلو ومن يعارض توقيع وثيقة التعهد المذلة، إلى جانب رفض الإفراج عن أسرى حماس والجهاد، كما رفضت "إسرائيل" بشدّة الإفراج عن أسرى الداخل المحتل باعتبارهم مواطني الدولة وليس للسلطة الحق بالمطالبة بهم! أما أسرى القدس فكانت ذريعة عدم الإفراج عنهم هي أن القدس موضع خلاف تُناقش في قضايا فما يُسمي الحل النهائي.
وسادت حالة فوضوية في السجون، وبات المشهد غريبا كما يقول أحد الأسرى المحكومين بالمؤبّد وهو من الأراضي المحتلة عام 194837، ويضيف:"أن العلاقات في السجون تكرست على أساس هذه التصنيفات، حيث كُنتَ ترى في الفورة تجمعات مبنية على أرضية هذه التصنيفات والتصنيف الأمني، فالأسرى المحكومين بالمؤبّد يُناقِشون سُبل إفراج هنا، وهناك أسرى القدس يتجمعون ويندبون حظهم، وفي مكان آخر أسرى حماس والجهاد منعزلين في همومهم الخاصة، والأسرى الجدد المحدودين كانوا يتفاعلون فيما بينهم وينظرون إلى الحالة الاغتراب خاصة وأنهم اتهموا من إخوانهم بأنهم "جايين على الحج والناس راجعة" أما أبرز المنزوون فكانوا أسرى الداخل المحتل والذين شعروا بخيانة قيادتهم لنضالهم وتاريخهم وقيمهم ومبادئهم وأرضهم، إضافة إلى إحساسهم بأنهم خارج معادلة الإفراجات، وراح البعض يدعو للتوجه لرئيس الدولة الصهيونية بطلب"العفو" طالباً الحكومة بالإفراج "طالما تذكرت أننا مواطنون". فتولّد حالة من الاغتراب لدى الأسرى عكست نفسها على العلاقات الداخلية، والتي نشأ من رحمها الأمراض الاجتماعية مثل الشللية والبلدية والتي حكمت السجون وما زالت حتى الآن.
سنوات العجاف
بعد توقيع اتفاقية أوسلو أيلول سبتمبر 1993 شهدت الأوضاع الفلسطينية تدهوراً مستمراً38. وكان هذا حال السجون، حيث تدل قضية الإفراجات وتداعيات أوسلو المختلفة، على مدى اعتبار المتغيرات البنيوية في السجون هي نتاج الظروف الموضوعية تلك. فالهالة التي تخيلها الأسرى عن قيادة م.ت.ف تهشّمت بعد معايشة ممارسة سلطة الحكم الذاتي على أرض الواقع، وعندما انهارت القيم والمبادئ السياسية حرفت البوصلة وخلق نوع من التسيّب التنظيمي والانقلاب على الثقافة والقيم الحزبية، الأمر الذي طال مختلف التنظيمات ما بعد منتصف التسعينات من القرن الماضي، فحتى التنظيمات المناهضة لأوسلو في السجون أصابها عدوى الإنفلاش بشكل أو بآخر.
وطالما أن الإفراج صار الهم العام، أصبحت قيادة الحركة الأسيرة المتبعثرة تبحث عن سبل الضغط على المفاوضين بعدم استثنائهم من الإفراجات، وكانت ذروة الضغوطات، التي أدت إلى الإفراجات المذكورة آنفاً، إضراب عام 1995. حيث شاركت به الفصائل جميعهاً لكن لأهداف مختلفة. ففصائل م.ت.ف خاضت إضراباً سياسياً لأول مرة في تاريخها مطالبةً بالإفراج الفوري وغير المشروط دون ربط مفهوم أسرى الحرب -للأسف-حسب المواثيق الدولية واتفاقية جنيف الثالثة والرابعة بهذا الصدد. أما الفصائل الإسلامية فقد خاضت إضراباً مطلبياً لتحسين شروط الحياة.
وقد شكّل هذا شرخاً إضافياً في بنية الحركة الأسيرة، وعزز تناقضاتها الداخلية، آخذين بالحسبان تزايد أعداد الأسرى من القوى الإسلامية، في حين تقلّص الباقي. فمن المثير للاهتمام أن بعد سلسلة من الوعودات من الطبقة البرجوازية التي تدير المفاوضات، تم فعلاً الإفراج عن غالبية الأسرى ضمن الشروط والاستثناءات الإسرائيلية سابقة الذكر، ومن الجلي أن هذه الإفراجات قد طالت جزءاً كبيراً من قيادات الحركة الأسيرة من مختلف فصائل م.ت.ف.
هذه الانتقائية في الإفراج، إضافة الى الانهيار في المنظومة القيمية، ولّدت حالة من الإحباط والارتباط الشديد بالمستقبل وبالمكانة الاجتماعية والطبقية، فلم يلبث الأسرى بإخراج المكتبات من الأهل، حيث أخرج من السجون عشرات الآلاف من الكتب وتم تفريغ المكتبات خاصة من سجن نفحة وعسقلان والنقب بشكل شبه كامل، فغابت البرامج الثقافية كلياً وصارت التنظيمات عبارة عن مسميات وظيفية لا أكثر، لذا من السهل أن نرى كيف أن ذلك خدم في بروز اهتمامات للأسرى، أو ما وصفه أحد المستطلعين بأن الحركة الأسيرة تحوّلت إلى "أرابيسك" في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، أي حالة إفراغ في البرامج ولّدت اهتمام كبير في تصنيع الأشكال والهياكل بالخيطان والخرز وإخراجها الى خارج الأسر عبر زيارات الأهل بديلة للبرامج الثقافية. ثم انتهى عهد الاشتراكية في توزيع الكانتينة وصار مسموحاً باقتناء فردية كل حسب حاجته ورغبته وإمكانياته الماديّة، مما ولّد فجوة بين من يدخل له رصيد وأموال كانتينة من جهة وبين الأسير الذي ينمتي لأسرة فقيرة بالكاد تستطيع أن تعيل نفسها.
وقد فرضت أوسلو نفسها نظرياً ومنطقياً، خاصة بعد أن صارت السلطة الفلسطينية أمراً واقعاً لا بد من التعامل معه، وقد تسابقت الأجهزة الأمنية للسلطة تحديداً الأمن الوقائي والمخابرات العامة على تركة الأسرى، أي تنافسوا على استمالة الأسرى المحررين في صفوفهم خاصة أهم مفاصل الانتفاضة الأولى من قيادة فتح وصار جزءاً مهماً من الأسرى يسعى وراء التوظيف والرتب العسكرية والمدنية التي هي عبارة عن مسميات ومفاهيم ومصطلحات غريبة جاءت بها اوسلو الينا. والأمر الذي زاد الطين بلة هو نجاح السلطة الفلسطينية، إلى حد ما، في إجبار وإخضاع غالبية منتقديها العلمانيين على التخلي عن الشكوى أو التنظيم. وتشير تركيبة السلطة في منطقة الحكم الذاتي إلى أن عرفات تمكن من شراء أو إخافة غالبية معارضيه. 39
وفي ظل عدم وجود استراتيجية وطنية شاملة للإفراج عن الأسرى تم إستدخال مفاهيم جديدة تتصدر المجتمع الدولي مثل "تأهيل" الأسرى، وبما يحمله ذلك المصطلح من الكثير من الالتباس، فهذه التوليفة الجديدة أشعرت الأسرى في السجون بأنهم غير مؤهلين للانخراط في المجتمع المسالم الجديد، فيما هم-الأسرى-من الفئة العنيفة التي توسم بالإرهاب!! وهذا دون شك خلق حالة اغتراب جديدة في صفوف الأسرى تضاف إلى سلسلة الاتهامات والتصنيفات التي صيغت بحقهم.
وفي خضم عمل السلطة، شرعت أجهزة السلطة في تطبيق بروتوكولات أمنية لاتفاق أوسلو والتي تضمنت ملاحقة المناضلين والتبليغ عنهم حسب الاتفاق. كما يستمر في مناطق الحكم الذاتي قمع الممارسات الديموقراطية وحرية التعبير، على المستوى نفسه الذي كان تحت الاحتلال"الإسرائيلي".40 كما ظهر على السطح ظاهرة العفو عن المطاردين والملاحقين من قبل أجهزة الأمن الصهيونية بتنسيق من السلطة التي تقدم قوائم العفو. وتحقق بذلك الهدف الإسرائيلي في تحويل المقاومة إلى إرهاب أو عمل تخريبي يستوجب طلب العفو من أجهزته الأمنية المجرمة، وطلب السماح عن سنوات النضال السابقة، وبقدر الرضى يعطى العفو مما سهل للأجهزة الأمنية لاختراق المناضلين والمطلوبين، وأيضاً مما كان له الصدى السلبي داخل السجون، فمفهوم الرضى صار نسبياً بمثابة صكوك الغفران التي لا بد منها لضمان الإفراج.
إن التبدد لمظاهر المقاومة والصمود والتحدي في السجون لا يعني أن عموم الأسرى قد سلموا لهذه الحالة الاستثنائية في التاريخ النضالي الفلسطيني، ففي خضم حالة التراجع هناك صور عديدة مبهرة للأسرى مثل رفض أسرى الجبهة الشعبية توقيع وثيقة التعهد مقابل الإفراج عنهن وكذلك الموقف البطولي للأسيرات حين رفضن الإفراج على دفعات وأصررن الإفراج جميعاً مع الأسيرات المحكومات مؤبدات، إضافة إلى تصاعد التعليم الجامعي في السجون والاهتمام بالتعليم الأكاديمي.
حتى عام 2000 كانت الصورة مظلمة بسبب تراجع التنظيمات في السجون وكثرة الإشكاليات والازمات الداخلية، مع وجود صور مشرفة لصمود أسرى ورفضهم لاتفاقية اوسلو وتبعاتها، وحفاظاً على مبادئهم وقيمهم رغم صعوبة الظرف السياسي والاجتماعي-القيمي. وكان من الممكن للبعض السقوط في حاوية أوسلو والركض وراء المصالح لكن عدد كبير من الأسرى رفض ذلك ولم يلتحقوا بركب التسوية. وهذا يشمل أحزاب سياسية بعينها، "لو مثلاً التحقت الجبهة الشعبية بالتسوية الجارية فهذا يعني فك الحصار المالي عنها كما فتح العواصم العربية لها وتأمين حرية الحركة لها في العديد من البلدان ناهيك عن اقتسام سلطة الحكم الذاتي ومناصب ومنافع عديدة في ملفات المجتمع الفلسطيني". 41 وهذا ينسحب على قطاع واسع من الأسرى الذين رفضوا الرضوخ والسقوط في هاوية اوسلو، لكنهم بذات الوقت، وقفوا عاجزين عن إحداث تغيير ثوري ونوعي في السجون. فقد استمرت ثقافة التفاوض والفساد والمصالح والإستزلام والاستهلاك والانتهازية التي جلبتها أوسلو كأمر واقع يصعب مواجهته.
الخاتمة
في العام 2000 لم يبق في السجون المركزية سوى حوالي 700 أسير حرية موزعين في سجن نفحة وعسقلان والسبع وشطة من أصل 9 آلاف أسير كانوا موجودين عشية توقيع اتفاق أوسلو من أصل 14 ألف أسير العدد الإجمالي. وتوزع الأسرى ال 700 المتبقين مع بعض الأسرى الجدد أسرى القوى الإسلامية وأسرى م.ت.ف الذين تم استثنائهم من إفراجات بحجة أن "أيديهم ملطخة بالدماء" وأخيراً أسرى القدس والداخل المحتل.
لم تكن أوسلو تقدّم الحد الأدنى مما كان يطالب به الفلسطينيين 42. وليس من الصعب على متتبع لتاريخ الحركة الأسيرة ملاحظة أن قدراً كبيراً من التراجع قد طرأ على الحركة الأسيرة بعد أوسلو، الأمر الذي عكس نفسه على مفهوم مشروعية المقاومة ودور الأحزاب الفلسطينية بشكل عام. كما لا بد من التأكيد أن العلاقات الداخلية في السجون بين الأسرى قد تصدّعت بشكل كبير نتاجاً لما يحمله اتفاق أوسلو من مفاهيم جديدة ذات طابع تنازلي استلامي وانهزامي كما أن البنى التنظيمية للأحزاب الفلسطينية في السجون قد تهدّمت لصالح فئات اجتماعية طبقيّة قدّمت المناطقيّة على الحزبية والكفاءة. كما غابت البرامج التربوية والتثقيفية والتعبوية التي انتهجتها الحركة الأسيرة على مدار عقود، والأبرز انتهاء الحركة الأسيرة كحركة منظمة لصالح قوى مفككة ومتشرذمة تزعزع إيمانها بالمفاهيم التنظيمية والقيم المثلى المصورة.
فاتفاقية أوسلو قلبت المفاهيم وخلقت مفاهيم جديدة تجاوزت مسألة رفض الجلسات والبرامج أي مفاهيم حركية وتنظيمية مختلفة كلياً. فالرؤية حول النضال أصبحت معكوسة لدرجة أن بعض الأسرى اعتبروا أن من يقوم بعمليات ضد أهداف صهيونية يريد التخريب وأحياناً خيانة عاقدين الآمال الوهمية أن تفضي أوسلو بدولة. من جهة أخرى فمن ذهب باتجاه أوسلو جرى تخوينه، مما زاد شرخ بين الأسرى، فمن قتل صهيوني في سياق العمل النضالي شعر أنه غريب وشاذ وغرق في الاغتراب، بينما من قتل عربي بتهمة الخيانة صار يتباهى بأنه سيفرج عنه. 43
مرةً أخرى نُؤكد أنه بقي جزء من الأسرى يحملون القيم والتجذر ولم يبالوا بمسألة الإفراجات لكن دون أن يأثروا فعلياً على واقع السجون مما يؤكد على طبيعة الكارثة التي حدثت للأسرى نتاج اتفاقية أوسلو، مما يعيد إلى الأذهان ما قاله الحكيم جورج حبش:" إن أبو عمار فعل، في نظري، ما لا يمكن إصلاحه". 44
وفي هذه الفترة -التسعينات-تدفق تنظيمات إسلامية إلى السجون لديها تعبئة أيديولوجية ورؤية سياسية وأمنية خاصة، كان نظامها شديد وحتى برامج التلفاز كانت لديها محدودة، لكن مع الأيام بدأ يحصل لديها نوع من التراجع في أدائها وثقافتها لأسباب تعود لموجات الافراجات وطبيعة الثقافة السائدة، إضافة إلى تصاعد الاهتمام بوسائل الترفيه المختلفة.
وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2 كما كان متوقعاً جاءت الانتفاضة الثانية في سبتمبر عام 2000، لكن صيرورة الانتفاضة لم تكن ناتجة عن استمرارية الاحتلال فقط، إنما ايضاً عن الرفض والاستياء من ممارسة سلطة الحكم الإداري الذاتي، فما حصل في غزة والقدس والضفة هو انفجار كان يمكن توقعه (بل جرى توقعه) فعلاً، انها انتفاضة ضد نصوص وخرائط اتفاقات أوسلو نفسها، وضد المخططين لها والمشاركين فيها الإسرائيليين والفلسطينيين. 45
وكانت انتفاضة عام 2000 فقرة مفصلية للسجون حيث كنا امام بقايا حركة أسيرة محبطة مفككة تخلفت عن دفعات الإفراج، وكان عليها أن تستقبل أعداد هائلة من الأسرى الجدد الذين شاركوا في انتفاضة عام 2000، فلم يستطع جسم الحركة الأسيرة على استيعابها و"تأهيلها" نتاج حالة الانقطاع الطويلة وعدم الاستمرارية مع القواعد والأصول التنظيمية التي كانت قبل توقيع اتفاقية أوسلو.
يضاف الى ذلك أن جزءاً من الأسرى الجدد كانت عبارة عن "تشكيلات" خارجة عن المألوف من الحركة الأسيرة منها أعضاء وضباط من الأجهزة الأمنية والتي لا تتعاطى مع مفهوم الولاء التنظيمي والثقافة والقيم الحزبية.
وما زالت الحركة الأسيرة إلى اليوم تعاني من إشكاليات جمّة، ورغم أن الحالة الإعتقالية المنظمة المعهودة قبل اتفاق أوسلو باتت صعبة المنال، إلا أن العملية التعليمية والثقافية بشكل عام تأخذ المنحى التصاعدي تبعاً لهذا التنظيم أو ذاك.
بغض النظر عن مآسي أوسلو والكوارث التي جلبها معه، فإن الأماني الوردية التي حققها المجتمع الصهيوني على اتفاقية أوسلو وإمكانية قبولهم في الشرق الأوسط كلاعبين محليين مرحب بهم، وبات العالم العربي مستعد لاستقبالهم قد تحطمت، مما يرفع منسوب القلق الوجودي على المدى البعيد46. وكما اعتقدت أدارة مصلحة السجون أنها انتصرت على الأسرى وفرضت معاييرها فإن ملامح التحدي والصمود ما زالت قائمة وقابلة للتحول لحالة ثورية شريطة أن تتحول قيادة م.ت.ف البرجوازية عن الخط السياسي الانهزامي الذي شيّده الاتفاق.
المراجع
1
أحمد قطامش، مداخل لصياغة البديل- الجزء الأول، 1994، ص367
2
منها: مؤسسة الضمير لرعاية الأسرى وحقوق الإنسان- نادي الأسير الفلسطيني- هيئة شؤون الأسرى والمحررين- بيتسيلم وحاموكيت- مؤسسة الميزان لحقوق الإنسان- المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
3
أبرز أراشيف تم الوصول لها هي أرشيف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث أنهم الجهة الوحيدة التي استطاعت على غالبية أرشيفهم النتظيمي من خطر المصادرة أو التلف أو الضياع رغم إنقضاء مدة طويلة.
4
عددهم (العينة) 31 أسير موزعين: 9 فتح-8 جبهة شعبية-1 جبهة ديموقراطي-5 جهاد إسلامي-7 حماس - 1مقاومة سرية (جولان).
5
شارك في إجراء المقابلات طاقم من أسرى الجبهة الشعبية وأنا ممتن لهم ولتفانيهم في عملهم منهم الرفيق نادر صدقة وسامر متعب ومحمد أبو خضير ولؤي دنديل.
6
د.فردوس عبد ربه العيسى، أساليب التحقيق في مراكز الإعتقال الإسرائيلي-بين إستخدام نظريات علم النفس والأخلاقية المهنيّة، إصدار هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ط1 تموز2017، ص14.
7
من أرشيف أسرى الجبهة، تعميم أصدرته قيادة المنظمة الحزبية (ق.م.ح) في سجن عسقلان على عناصرها في سبتمبر 1993.
8
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قراءة وعرض لوثائق مؤتمراتها حتى المؤتمر السابع، ط2 2014، ص 113. ويمكن الإطلاع على: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ل.ث فرع غزة- مدرسة الكادر- الدائرة المركزية الثقافية، دورة الكادر 2015، ص 5.
9
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الكونفرنس الحزبي الأول-الوثيقة السياسية، حزيران 1994، ص 3.
10
قطامش، مصدر سابق، ص 269.
11
جورج حبش، الثوريون لا يموتون أبداً، دار الساقي، ترجمة عقيل الشيخ حسن، ط2 2011 ص 253.
12
حول مؤتمر مدريد، يمكن مراجعته، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الوثيقة السياسية للكونفرنس الحزبي الأول، حزيران 1994، أو وثائق المؤتمر الخامس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لعام 1993.
13
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، المسيرة، مصدر سابق، ص 143، وهذا لأول مرة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني.
14
جمال موسى الحاج علي، الإجراءات الإسرائيلية في القدس الشرقية، من أوسلو 1993-2015م، وتأثيرها على مستقبل التسوية السلمية، مركز بيت المقدس للآداب، ط1 2016 ص240-247.
15
يوسي سريد، أحد قيادات حزب البيت الصهيوني سابقاً ووزير سابق، في لقاء معه في برنامج اخباري للقناة الأولى الإسرائيلية، أيار1992.
16
الحاج علي، مصدر سابق ص246.
17
ادوارد سعيد، نهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها، دار الآداب -بيروت، ط1 2002، ص 157.
18
د. رمضان عبد الله شلح، الغرب والصراع على فلسطين في القرن الحادي والعشرين، مركز فلسطين للدراسات والبحوث، ط1 1999ص22.
19
قطامش، مصدر سابق، ص 264.
20
قطامش، مصدر سابق، ص267.
21
منهم الأسيران من الجبهة الشعبية: إبراهيم أبو مخ ورشدي أبو مخ، الذين يدخلون عامهم 32 هذا العام 2018.
22
من المستطلعين من اسرى حركة فتح، وقد افرج عنه في صفقة التبادل عام 2011، وتم إعادة اعتقاله عام 2014.
23
قطامش، مصدر سابق، ص264.
24
نُقل هذا الحدث من أكثر من أسير مستطلع على لسان المناضل والأسير المحرر قدورة فارس، أحد أبرز قيادات الحركة الأسيرة سابقاُ ويعمل مدير نادي الأسير ومحسوب على حركة فتح.
25
شمعون بيريز، 10سنوات على أوسلو، برنامج تلفزيوني بثته القناة الثانية الإسرائيلية في سبتمبر 2003، (والأقواس من الكاتب للتوضيح).
26
هذه شهادة من المستطلعين ولم يتثنى لنا التأكد منها من جهات رسمية-الكاتب.
27
قطامش، مصدر سابق، ص198.
28
د. رمضان عبد الله شلح، مصدر سابق ص26.
29
د. رمضان عبد الله شلح، مصدر سابق ص23.
30
يمكن الاطلاع على تقارير مؤسسة الضمير لرعاية الأسرى وحقوق الانسان ومؤسسة الحق- وتقارير هيومن رايتس وتش.
31
قطامش، مصدر سابق، ص265.
32
قطامش، مصدر سابق، ص269.
33
اعتقلت في يناير 1994 وافرج عني في 1995، ولقد مررت بنفس تجربة السجون آن ذلك- الكاتب.
34
مستطلع، وعن دور الأجهزة الأمنية في السجون الإسرائيلية، مراجعة بيان اللجنة الإعلامية لمنظمة فرع السجون للجبهة الشعبية، أغسطس2018.
35
قطامش، مصدر سابق، ص370.
36
يوسي سريد، ورد عنه سابقاً وهو من اتبع مفهوم الأيدي الملطخة بالدماء وصارت ثابت من ثوابت المجتمع الصهيوني.
37
مستطلع، محكوم بالمؤبد ومعتقل منذ 1990.
38
سعيد، مصدر سابق، ص 238.
39
سعيد، مصدر سابق، ص 24.
40
سعيد، مصدر سابق، ص 74.
41
قطامش، مصدر سابق، ص296.
42
حبش، مصدر سابق، ص253.
43
علاء بازيان (أبو كمال)، أحد عمداء الأسرى الفلسطينيين، وكانت شهادته خير عون لانجاز هذا العمل، اعتقل المرة الأولى عام 1979 حتى 1981، الاعتقال الثاني 1981 وحتى1985، الاعتقال الثالث 1986 وحتى 2011، الاعتقال الرابع2014 ومازال حتى اللحظة في السجون، مجموع سنوات الاعتقال 36 عام.
44
حبش، مصدر سابق، ص85.
45
سعيد، مصدر سابق، ص 74.
46
هنيدة غانم وأنطوان شلحت ومجموعة من الباحثين، في معنى الدولة اليهودية، مركز مدار2011، ص72.
عن «الهدف»
http://hadfnews.ps/post/46306/اتفاق-أوسلو-منعطفات-في-مسيرة-الأسرى-الفلسطينيين