الثلاثاء ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٤
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

إحداثيات الموت: تصورات كبار السن في المجتمع المصري

يعتبر الموت موضوعا مركزيا دائما في المجتمعات البشرية، حيث أثر على وجهات نظر ثقافية ودينية وفلسفية مختلفة. وفي مجتمعات مثل المجتمع المصري، حيث يكون الموت راسخا بعمق في المعتقدات الدينية والممارسات الثقافية والحياة اليومية، يختبر كبار السن علاقة فريدة مع مفهوم الموت. فمع تقدم الأفراد في السن، غالبا ما تصبح أفكار الموت أكثر انتشارا، وتتشكل من خلال التجارب الشخصية والتأثيرات المجتمعية والتأملات الوجودية. ونحاول فيما يلي التعرف على طبيعة تفكير كبار السن في الموت وفحص أشكال التفكير المختلفة المحيطة به، وخاصة في مجتمع يحمل الموت فيه أهمية كبيرة مثل المجتمع المصري.

1- الأهمية الثقافية والدينية للموت في مصر

في المجتمع المصري، لا يعد الموت حدثا جسديا فحسب، بل هو انتقال ثقافي وروحي معقد. وتلعب فكرة الحياة الآخرة، التي تتجذر في الإسلام والمعتقدات المصرية التقليدية، دورا محوريا في تشكيل المواقف تجاه الموت. ويؤمن المصريون بالحياة بعد الموت، حيث تحدد الأفعال على الأرض مصير المرء في الآخرة. إن هذا الاعتقاد، إلى جانب تقاليد الحداد والذكرى والطقوس المحيطة بالموت، يخلق بيئة يكون فيها الموت حاضرا دائما في أذهان كبار السن. وبالنسبة للعديد من كبار السن المصريين، يُنظر إلى الموت باعتباره انتقالا واجتماعا مع أحبائهم الذين ماتوا. وتوفر هذه الفكرة شعورا بالسلام والراحة، على الرغم من أنها تجلب أيضا الخوف والقلق، وخاصة عندما يشعر المرء بعدم الاستعداد روحيا أو عاطفيا. فقد يفكر كبار السن، الذين غالبا ما يكونون أقرب إلى نهاية حياتهم، في أفعالهم الماضية والخيارات الأخلاقية التي اتخذوها، مما يخلق علاقة معقدة مع مفهوم الموت.

2- التجربة الشخصية للشيخوخة والوعي بالوفاة

مع تقدم الناس في السن، يصبحون أكثر وعيا بفنائهم. بالنسبة لكبار السن، غالبا ما يعمل التدهور الجسدي المصاحب للشيخوخة كتذكير بطبيعتهم المحدودة. وتزيد المشاكل الصحية، وانخفاض القدرة على الحركة، وفقدان الأحباء من الوعي بالموت. وتساهم هذه العوامل في زيادة الأفكار حول الموت، مما يؤدي غالبا إلى إثارة تأملات وجودية حول معنى الحياة وحتمية الموت. في مصر، حيث تشكل الروابط الأسرية مركزا للحياة الاجتماعية، يمكن أن يؤدي فقدان أفراد الأسرة إلى تكثيف هذه التأملات. ويعاني العديد من كبار السن المصريين من الحزن على فقدان الأصدقاء والعائلة، مما يعزز إدراكهم لفنائهم. وقد ينظر كبار السن إلى الموت ليس فقط كمفهوم بعيد أو مجرد ولكن كواقع وشيك يقترب مع كل عام يمر.

3- أشكال التفكير في الموت: من الخوف إلى القبول

قد يختبر كبار السن في مصر، كما هو الحال في العديد من المجتمعات الأخرى، الموت بطرق مختلفة، اعتمادا على شخصيتهم ومعتقدهم الديني وتجاربهم الحياتية. ويمكن تصنيف أشكال التفكير في الموت إلى عدة أنماط:

الخوف والقلق: بالنسبة لبعض كبار السن، يعد الموت مصدرا للخوف والقلق. وقد ينبع هذا الخوف من عدم اليقين بشأن ما يحدث بعد الموت أو من المخاوف بشأن المعاناة التي قد تصاحب الموت. ففي مجتمع حيث يرتبط الموت غالبا بالخسارة، قد يشعر كبار السن بالعزلة أو الهجر، وخاصة إذا لم يعد أفراد أسرهم حاضرين لتقديم الدعم.

القبول والسلام: من ناحية أخرى، يتقبل العديد من كبار السن المصريين الموت بقبول وسلام، وخاصة أولئك الذين لديهم معتقدات دينية قوية أو يشعرون أنهم عاشوا حياة مُرضية. إنهم ينظرون إلى الموت كجزء طبيعي من دورة الحياة وقد يشعرون بالراحة عند التفكير في لم شملهم مع أحبائهم في الحياة الآخرة. وقد يتم تعزيز هذا القبول من خلال الممارسات الدينية مثل الصلاة، وتذكر الله، والمشاركة في طقوس الدفن.

الندم والأعمال غير المكتملة: قد يفكر بعض كبار السن في ماضيهم بشعور بالندم. فقد يشعرون بأن حياتهم كانت غير مكتملة أو أنهم فشلوا في تحقيق أهداف معينة. ويمكن أن يتفاقم هذا الندم بسبب الشعور بعدم وجود المزيد من الوقت لتصحيح أخطائهم. وقد يؤدي هذا الشكل من التفكير في الموت إلى الشعور بالذنب أو الحزن، مما قد يؤثر على صحتهم العقلية والعاطفية.

المصالحة والإرث: مع اقترابهم من نهاية حياتهم، قد يركز بعض كبار السن في مصر على ترك إرث إيجابي لعائلاتهم أو مجتمعهم. وقد يتضمن هذا نقل الحكمة، أو تسوية النزاعات، أو ضمان رعاية أطفالهم وأحفادهم بشكل جيد. إن فكرة ترك أثر دائم توفر الراحة والشعور بالهدف، مما يجعل فكرة الموت أقل ترويعا.

4- التأثيرات الاجتماعية: دور الأسرة والمجتمع

في مصر، يلعب النسيج الاجتماعي دورا حاسما في تشكيل تصور كبار السن للموت. الأسرة هي حجر الزاوية في المجتمع المصري، وكثيرا ما يجد كبار السن أنفسهم في رعاية أطفالهم أو أفراد الأسرة الممتدة. ويوفر هذا الارتباط العميق بالأسرة شعورا بالانتماء والأمان، ولكنه قد يزيد أيضا من الوعي بالموت، خاصة مع نمو الأطفال والأحفاد وعيشهم حياتهم الخاصة. علاوة على ذلك، يولي المجتمع المصري قيمة كبيرة لاحترام كبار السن، مما قد يؤثر على كيفية تفكيرهم في الموت. ويُحترم العديد من كبار السن المصريين باعتبارهم شخصيات حكيمة وحراسا للتقاليد، مما قد يمنحهم شعورا بالكرامة والسلام مع اقترابهم من نهاية حياتهم. ومع ذلك، هناك أيضا ضغوط للامتثال للتوقعات المجتمعية للقوة والصلابة، مما قد يدفع كبار السن إلى قمع أو إخفاء مخاوفهم أو قلقهم بشأن الموت.

5- تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية على التفكير في الموت

يمكن للعوامل الاقتصادية والاجتماعية في مصر أيضا أن تؤثر على أفكار كبار السن حول الموت. قد يواجه العديد من كبار السن المصريين، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى خلفيات اجتماعية واقتصادية أدنى، انعدام الأمن المالي وعدم القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية. ويمكن أن تسبب هذه العوامل القلق بشأن احتمال الموت في فقر أو بدون رعاية مناسبة. وقد يشعر كبار السن الذين يعتمدون على دعم أسرهم بالقلق أيضا بشأن أن يصبحوا عبئًا على أحبائهم. وعلى النقيض من ذلك، قد يجد أولئك الذين لديهم المزيد من الموارد أو الدعم المجتمعي القوي الراحة في معرفة أنهم سيحظون برعاية جيدة في سنواتهم الأخيرة. ومع ذلك، وبغض النظر عن الوضع الاقتصادي، يظل الموضوع المشترك هو الوعي بالموت كجزء لا مفر منه من عملية الشيخوخة.

وفي كلمة، تتشكل أفكار كبار السن حول الموت من خلال مجموعة من العوامل الثقافية والدينية والشخصية والاجتماعية. فمع اقترابهم من نهاية حياتهم، يمكن أن تتراوح تأملاتهم حول الموت من الخوف والقلق إلى القبول والسلام. ويلعب تأثير الأسرة والتوقعات المجتمعية والمعتقدات الدينية دورا مهما في تشكيل هذه الأفكار. ففي مجتمع حيث يُعتبر الموت ليس مجرد حدث جسدي بل هو معلم ثقافي وروحي، فإن تصورات كبار السن للموت غنية بالمعنى والتعقيد، مما يوفر رؤى قيمة حول تقاطع الحياة والموت والقيم المجتمعية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى