الخميس ٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم رمزي حلمي لوقا

أُسرَة

خَلفَ دَمعتينِ لم أسمَحْ لهما بالسُّقوطِ، كان يَقِفُ غَاضِبًا شَرِسًا، كما لم أرَهُ من قَبل.

رُسغايَ مقيدانِ بحبلٍ خشنٍ، جذعي عارٍ، يَلمعُ تحتَ وَهَجِ النَّارِ المُشتَعلةِ، والعَرقُ الذي غطَى جسدي بالكاملِ بَدأ يَتسَاقَطُ بِغَزَارةٍ داخِلَ سِروالي المُتَّسِخ .

عندما مَرَّ خلفي كانت زَفَراتُهُ الحارةُ تُلهِبُ ظهري،
جَعلَ أصابِعَهُ الضخمةَ تَتَخَلَّلُ شَعري ، وهو يَكِزُّ علي أسنانِهِ بِصَوتِ صَريرٍ مُزعِجٍ ، وبقسوةٍ لَطمَ رأسي بالجِدارِ الحجري الصَلدِ، بينما خيوط الدماءِ تَتَطايرُ مع كلِ شَوطٍ وارتطام .

أمسَكَ به إخوتي بعد أن هدَّهُ الإعياءُ والتَعَبُ
لا تٔضَيِّعُ هيبتَكَ مع هذا الكلبِ.

ابتعدَ مُضطرًا بعد أن بَصَقَ على وجهي وهو يَتَنَفسُ بصعوبة.

كانت الوجوهُ حولي تكادُ تمزقني إرَبًا، ما بين غَضَبٍ وامتعاضٍ وتَشَفٍ

شدوا وثاقي إلى جِذعِ شجرةٍ خَشِنَةٍ، فأنعرزَ في صدري بَعضُ قَذاها، وتناوبوا ضربي بسياطهم على وَقعِ حَثِّهِ المُتَصَاعِدِ، فكانت ضرباتهم تزداد قوةً وسرعةً، وأنا أتهاوى رغم حرصي ألَّا أُبدِي تأثرًا من ضرباتهم الموجعة، حتي تسربت إرادتي من ثقبٍ سِريٍّ في جُدرانِ الرُوحِ فَغِبتُ تدريجيًَا عن الوعي.

استيقظتُ علي ظلامٍ دامسٍ إلَّا من بصيصِ شعاعٍ دامعٍ يتسربُ من خلال فتحاتٍ صغيرةٍ في بابِ الحظيرةِ المتهالكِ، تلك التي رموني فيها تحت أرجلِ البهَائمِ حيثُ الرطوبةِ والرَّوثِ والماءِ القذر.

في الظلام بكيت كما لم أبكِ من قبل، وأنا أستَشعِرُ دَمعاتٍ وخوارًا حزينًا يُشاركُني وَجعي وبكائي من كائناتٍ ما زالت تعرفُ معنىً للشفقةِ ورَدِّ الجميل.

كان الألمُ قد بدأ ينهشُ في جسدي المتورمِ، وكانت درجةُ حرارتي قد بدأت ترتفعُ من الحُمَّى، التي لازمتني هي والهذيان طوال فترة احتجازي بالحظيرةِ، و قد صاحباهم الجوعُ والعطشُ والضعفُ الشديد.

في ظهيرة اليوم الثالثِ أو الرابع فُتِح بابُ الحَظِيرَةِ، وقبل أن تَتَعودَ عيني ضوءَ الشمسِ المُبهرِ، أو أستكملُ وقفتي المتعسرةَ ألقوا عليَّ دفعةً هائلةً من الماءِ فانكفيتُ بشدة على وجهي .

ربطوا قَدَمَيَّ بالحبالِ وسحلوني على أرض المزرعةِ القاسيةِ حتى وصلتُ لمكانِ التعذيبِ الأولِ.

كان صوتُه خشنًا مثل حضورِه الطاغي
وضع قدمَه فوقَ رأسي فانغرز خدي في أرضِ المزرعةِ الطينيةِ السَّبِخَة
وصرخَ بخشونته المعهودة:
يَحفُرُ قبرَهُ بيديهِ

دون أن أعتدلَ شعرتُ بشماتَتِهم حولي.
ألقوا في يدي مِعولَ حفرٍ، بينما صَوَّبَ أخي الأكبر سلاحَه المُرَخّصَ نحو رأسي خشية أن أهاجمَهم به.
قام الآخرُ بتوجيهِ رَكلَةٍ قويةٍ في ظهري يستحثني على البدءِ في الحفرِ.

بعد دقائقَ كانت ضرباتي المتعبةُ كفيلةً بتفكيكِ الأرضِ بعض الشئ
ومع آخرِ الليلِ كانت المقبرةُ في جاهزيةٍ تامةٍ للاستعمالِ الآمنِ إلا من بُعدِها عن قَبرِ أمِّي.

مع الفَجرِ
اقترب أبي بخطواتٍ حازِمَةٍ .. فَتَحَ محفظتَه .. أخرجَ قُصاصةَ ورقٍ
وجدنا الحُجَّة.
ثم رَفَعَ كَفَّهُ وهَوَى بقسوةٍ على وجهي
وهو يُهدِرُ : لماذا لم تُدافِع عن نفسك.
ثم بَصَقَ علي وجهي وهو يصرخُ
جبان.
ومَضَى غاضِبًا.

تركني إخوتي أتَهَاوَى على وجهي في مقبرتي التي حفرتها بيدي، ولم ينسيا أن يتركا نَظرَتَي شَماتةٍ واحتقار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى