أولية التحول في الفوتوغرافيا و الشعر
تتجاوز الممارسات الإبداعية المعاصرة حدود الخصوصية الثقافية للعمل ، مثلما تعيد تشكيل الوعي بالشاعرية ، في اتجاه تداخل اليومي ، و المواد الجاهزة ، بالتمثيل الفني ضمن تكوينها المنحرف عن المراقبة الإنسانية الواعية للمدلول المؤجل ، وبفعل إغواء التداخل المفتوح بين التأويل ، و الشاعرية التمثيلية الكامنة في الموضوع الفوتوغرافي خارجا عن خطاب الراصد ، و من ثم فإن الشعر المؤول للصورة يتحول عن أدبية الأدب ، حال تفاعله الديناميكي مع الصورة ، مثلما تدمر الصورة خطاب الرصد المركزي للفاعل / المصور ضمن احتمالات الإكمال التمثيلي الكامنة في وجودها الفريد الذي يقع في قلب الواقع ليسائل واقعيته ، و يفسح فضاءه لمساحة من البياض المخيل ، و المطلوب للامتلاء بما يناهض إرادة الخطاب .
لقد انتقل الأداء من الفاعلية ، و الانسياق للأدبية إلى التفاعل اللا نهائي بين الصورة و الشعر و الواقع و التراث الثقافي ، فضلا عن إمكانات التأويل الجاهزة في حرفية الصورة التي تخرج لنا الواقع بريئا كتأويل معلق ينتظر الإكمال الشعري ، و مسافة جديدة من الفراغ يولدها ألم النهايات المؤقتة للأثر المكتوب ، و تتحداها الممارسة بتكرار التأويل الشعري وفق كتابة مختلفة ، تكمن في سياق الصورة الحرفي المتجاوز لذاته بالكشف عن الآخر السردي بداخلها ، فالسياق الفوتوغرافي يدمر هويته وفق أخيلة شاعرية يكشف عنها فضاء التأويل .
يمكننا قراءة ديوان ( شجن ) لعلاء عبد الهادي ( مركز الحضارة العربية / مصر 2004 ) من خلال الإكمال الشعري ، لصورة تسعى بحد ذاتها للخروج من الموضوع ، و الرصد معا ، من خلال الصياغة التفاعلية مع التأويل ، و من ثم خلق إمكانات ارتباط جديدة بين العلامات تؤكد خروجها الذاتي من سياقها الخاص .
يؤول الشاعر صورة قردة تحمل وليدها ، فيقول " حتى جارتنا ذات السمعة السيئة تبدو ملاكا هذا الصباح " ثم يكرر الجملة في تأويله لصورة فتاة في حالة شبق ، و تأمل يحمل طاقة لا واعية ، تنفصل عن فعل المراقبة ، و كأن الفتاة كانت كامنة ضمن السياق التمثيلي لصورة القردة / الأم ، ضمن تحلل الصورة الأولى في التأويل الذي منحها قداسة الملائكة ، أو الإلهة الأم في الثقافات القديمة ، و تداعياتها في فراغ دلالي يقع بين الطوطمية الحيوانية المقدسة ، و العلامات الجنسية اللا واعية كطاقة متجددة محتملة ، تقاوم انعزال الموضوع / القرد ضمن حدوده و تفجر أخيلة التفاعل ؛ لتعود بالصورة إلى أحلام العظمة ، و الضخامة الأنثوية الأولى المجسدة في اللوحة التي اختارها علاء عبد الهادي ليصدر ديوانه بها للفنان الفرنسي رينيه ماجريتRene Magritte ، المعنونة ب les jours gigantesques أو الأيام العظيمة ، و فيها تبدو الذكورة فرعا من الضخامة الأنثوية ، تتعلق بها ، و تنخلع عنها في آن بما يسمح بالانفصال و التبادل الجذاب للفضاء الضخم غير المحدد ، هل تطارد الأنثى تلك الضخامة بالامتلاك المجازي للحضور ؟ أم أنها تؤول بواسطة الأثر الغائب لطاقة الآخر الذكر ، فتهدد طاقتها بالانحسار في عدمية الفضاء ؟
إنها لحظة التحول الأولى كمقدمة للعب الكوني بالصور و الكائنات المتداخلة لدى ماجريت ، و قد تحولت عند علاء عبد الهادي نقطة يتبلور من خلالها الواقع في صفاء ، يختلط دوما ببقع التحول الجذري للكينونة المرصودة في الصورة الفوتوغرافية ، لحظة اندماجها بالشعر ، فالأنوثة تبرز في المشهد كموضوع غير مكتمل قد خرج للتو من تدمير الجسد الآخر ، حاملة لطاقة الامتلاك دون خطابه الأول مثلما ينخلع السياق التصوري من المرأة التي تبدو ملاكا ، فتتجسد في بكارة ظاهرية تقبل التحول ، و التداخل كطاقة مقدسة تحمل ضخامة التراث الصاخب للجسد في اختلاطها بالقرد ، كما تخلع هذه القداسة و تدمرها ؛ لتتحول طاقة العدم في الشبق اللا واعي ، كأنه يطل علينا شبحا وحيدا ناقصا في المشهد .
ألم ترتبط ملائكية المرأة بصباح الراصد " تبدو ملاكا هذا الصباح " ؟ إنه حضور مهدد بانفلات اللحظة التي تبلور فيها المشهد هكذا دون غيرها .
ثمة تعارض آخر بين زيف التاريخ الحامل للسمعة السيئة ، حيث تأكيد التحسين و التطور و الطفرة التداخلية المتجهة نحو تناثر للقوى و الطاقات دون حدود للهوية أو الجسد . الطفرة تعلق السمعة السيئة ، و تسائل المسار التطوري بالكشف عن تداخلاته الإبداعية ، و طاقته المجردة في لحظة التحول الأقرب للتناثر الأفقي للصور ، و الأجزاء معزولة عن جذرها الغائب .
و عن صورة يمتزج فيها الطيران بالرقص يقول " في مرآتي صخب محبوس / في مرآتي قوادة و فريقان / أحد عشر رجلا / و إحدى عشرة صرخة غائرة / في مرآتي امرأة .. اشتعلت .. و غريق / في مرآتي روح تلعب بحقيبة جلد "
المرآة تجسد فرح الانتشار خارج حدود الذات من داخل انعكاس زائف ، إن واقع الذات هو تأويلها لا هويتها ، هو تلك الرقصة الصاخبة الحاملة لصرخات التدمير الملازمة لمحاولات الخروج من أسر التحديد و النسق ، أما اشتعال الأنوثة فهو حلم الحب ممزوجا باتساع الغرق في مياه الأنوثة ضمن نطاق المرآة في أسطوريتها التي تسائل امتلاك الأنا الكامن في " مرآتي " حيث يوشك الصخب أن يكتسب حضور الطاقة الهوائية في الصورة ليهرب من الأنا رغم تمثيله المستمر لتحوله الأول كبديل عن الوصف و التحديد .
و عن صورة لاعبة تجرى و قد اختلطت ملامحها بسرعة الحركة " أنا مثقلة برصيد هائل / من خطوات / يجب علي صرفها قبل الرحيل "
ما الرحيل ؟ هل هو استنزاف للجسد ؟ أم أنه حدث يعلق الرحيل باستدعاء مزيد من اللعب الشكلي كبديل عن الرحيل ، أو تأويل له بالسرعة التي تخفي ملامح الذات بعيدا عن مراقبة الحدود المهددة للكينونة بالرحيل ، هل يناهض الرحيل خطواته بالاختفاء ؟ إن اللاعبة تنتظر الرحيل ضمن صيرورة للنص تخترق الواقع ، و تعيد تمثيله لتحجب الرؤية الموضوعية بالاختباء في اللعبة كحياة متجددة للحظة التي تحول فيها الانتظار المثقل بهم الوجود إلى جريان شكلي يطارد الهواء ليصير محض قوة .
و عن مصارع للثيران لحظة انتصاره على الثور / الضحية " لم يدر / لماذا بعد أن طعنها مرتين / شعر بدمها / يسيل دافقا / تحت جلده "
هل يمحو القاتل ذاته المختلطة بموقع الانتهاك / الثور ؟
إنه يستعيد دماء حسد تاريخي متجدد دائما في القاتل و الفريسة معا ، فاللا وعي يستحضر انتشار الدماء ، و الزيادة المفرطة المهددة للذات بدمار فرويدي مقدس ، أو فضاء نرى فيه حكاية الثور في تمثيلها لوجود الذات خارج الفاعلية ، حيث يستبدلها دم الفريسة و يحتل كثافة الجسد في المشهد بالكشف عن الغياب لما هو ملكي أو مقدس فيه . من ثم يواجه الإنسان حكاية موته مقتولا دائما حين يجري في فضائه دم الثور و شبح الأب .
و حول صورة امرأة ينسدل الشعر بكثافة على جانبي وجهها ، كأنما هو آت من فضاء غير مرئي يقول " عندما تنضج الشجرة / ستسقط ثمارا كثيرة / و يبدأ الغصن في الدوي " لم تكن الشجرة نفسها أبدا ، بل كانت فضاء لبدائلها المجازية / المؤولة لغياب يختلط بحضور مقدس للعلامات الأخرى ، المرأة و اتساع الفراغ و الغصن المقدس و انتشار الثمار و السقوط ضمن النضج و الضخامة ، هل كان نضج الشجرة هو تحولها ؟ أم صيرورتها الزمنية المهددة بالعدم ؟ من هذا المنظور يحتل موقع الشجرة خدر أنثوي مقاوم لسطوة الزمن أو سطوة العدم المحتمل ، أو هو قلق ذكوري من غياب القداسة في انتشار الثمار المناهضة للمركز، في حضور مؤقت يعيد تكوين المركز وفقا لغيابه .
و عن رجل يحمل ماكينة خياطة يبرز وجهه من الماء يقول " قالت الحكيمة للشاعر / اخجل من تأملك / ولا تكن من يبحث / في أحشاء العنادل عن غناء "
هل تحمل الماكينة تشيؤ الرجل ؟ أم أن الشاعر يحمل صليبه / سقوطه حال تأمله ؟
إنه الخروج من شاعرية المشهد حين يكون الخروج بحد ذاته ممثلا لشاعرية جديدة تلائم بكارة التكوين ( ماء و رجل و ماكينة ) إنه تحول للواقع في اتجاه كولاج إبداعي متناثر . هذا الكولاج يستلب تأمله و ماهيته في لحظة لا تنتمي إلى الوعي أو الحضور ، بل التساؤل حول إمكانات تفاعل جديدة يخلفها هذا الواقع تتحدى الشعرية و الوجود الإنساني في بحثه الدائب عن معنى .
و عن لقطة يبدو فيها الثور وحيدا حال مصارعته " عندما تركه أحباؤه / على سريره مهملا / عندما انطلقت الدعوات التي يجب أن / يحمل وحده عبء تحقيقها / عندما رموا غرفته بالغرباء / و تشاغلوا بالصراخ مات "
هل كان الغياب كامنا في لقطة الثور وحيدا منذ البداية ؟ لقد احتل موقع الأب المقتول ، و استبق الحدث في اللعبة لكي يفسح المجال لدم آخر سيحتل موقعه الفارغ بالأساس رغم ضخامته ، هل جرد واقع الثور الموت من خطاب الموت ليصير لعبة احتفالية متكررة ؟
أم أنه الموت بدا كحكاية منعزلة في الممارسة كبديل عن الواقع ؟
لقد حدث في مخيلة الواقع المفجرة للواقع قبل أن يقع في تكرار لعبي للغياب يستلب الغياب أيضا . إنه تاريخ يحمل معنى الصيرورة لا الكلية لحضور العائلة ، لقد تخلى الواقع العائلي الكامن في التأويل عن شموليته فصار أثرا ، و يطلق رولان بارتRoland Barthes على النزوع الجمعي العائلي أسطورة العائلة البشرية الكبرى The family of man ، و هي تقوم على وضع الطبيعة في عمق التاريخ و شاعرية ذات نزعة آدمية Adamisme في النظر للموت و الولادة ، هذه النزعة تبطل صيرورة الإنسان و تحوله الفريد ؛ لأننا إذا نزعنا التاريخ من الموت و الولادة لن يبقى شيء نقوله ( راجع / بارت / أسطوريات / ت / قاسم المقداد / مركز الإنماء الحضاري بحلب / ط1 / 1996 ص 226 و 227 )
اللعبة هنا تسخر من حتمية قتل المقدس ، و تستبدل قوته الغائبة بتجدد القوة مجردة من الحدث ، أما الثور فيسخر من اللعبة و يستبدلها بموت ذاتي فريد من الداخل فيحوله إلى حدث حرفي يناهض التمثيل المتعالي ، و يفترض الإهمال كبديل عن القداسة ليصير موته الواقعي ملتبسا دائما .
و عن رجل يجسد صرخة العنف و التوحش الليلي يقول " ليل متأنق / يخلع ملابسه مثل بصلة / و احتفال يومي يبدأ بطعنة غادرة / يبرمها شعاع ضال " الليل .. القتل الممزوج بوحشية مفرطة يجسد نزوعا تدميريا نقيا يقع في قلب الواقع ، و يؤثر في صيرورته المستقبلية ، دون انعزال في نطاق الصورة التي تؤطر تلك الوحشية ، هل هو تآكل الوجود في الألم و التحلل المفاجئ للجسد ؟
تكتب سوزان سونتاج Susan Sontag حول زوال الحدود بين الصورة الفوتوغرافية و الموقف الذي أخذت منه ، و تؤكد ذلك بأن جرائم التعذيب نفسها لم تكن أكثر أهمية من الصور ، فالرعب الكامن في الصورة له فاعلية في تشكيل الذاكرة . من ناحية أخرى تعامل القتلة مع الصور كما لو كانت ضمن فعل أو إجراء جماعي Collective action شعروا فيه بتبرير متقن أو مثالي للقتل ( راجع / Susan Sontag / Regarding the Torture of Others / New York Times magazine / Published: May 23, 2004)
لم تكن الصرخة الوحشية إذا بعيدة عن ذاكرتنا . إنها تعبث فوق الأجساد المقتولة لتستعيد الألم المتولد عن الصرخة لا الصمت ، هل هي عودة للموتى ليتجدد الشعوربالقتل ؟
و يظل التشويه في لقطة الرجل يذكرنا بحضور الفن ضمن حرفية الواقع فيذكرنا بتشويه فرانسيس بيكون الوحشي للوجوه ؛ لينزع واقعيتها التي حضرت الآن في تأويل يمزجها بالليل ليصير العنف مخبوءا وراء الألم .
و عن لبؤة تتثاءب " الذبابة مثلي .. على سجيتها تماما / الذبابة تجهل قيمة النساء اللواتي تحط عليهن / كالثورة أو كالحرية مثلا " يعلو هنا صوت اندفاع الغرائز في تجزؤها ووحشيتها المنفصلة عن المفاهيم تلك التي تتحرك وفق طاقة غير واعية تناهض ما قامت عليه من أصل معرفي ، و تذكرنا بنقد الحماسة لدى ليوتار ، و أصولها الحدسية تلك التي تتجسد فيها الغرائز في صمت مختلط بوحشية توشك أن تنفجر ، أو تتحول إلى ذبابة .
و عن صورة فتاتين في سياق مجاعة يقول " أنا كاذبة / فقد رأيت ذات مرة سحابة / تنام في سكون / على جلبة الشمس ) التشكيك في واقعية العري و الجوع تؤكده سحابة تعيد تشكيل المشهد و تستبق لعب العالم المنتظر ، الجسد يكذب وجوده لكي يدخل في حالة الإغواء بالتحول و التعالي الواقعي الخفي ، تماما مثل السحابة المؤولة .
و عن رجل يفترش الأسفلت " ثمر هذا الصباح طازج / فقد قامت البائعة بكل ما في وسعها لإنضاجه / لكن اللون حامض "
اللون الحامض يعمل كبديل للتهميش ، لكنه بديل يقاوم طلب التهميش ، فاللون سخرية من الحالة برمتها؛ لأنه متحول ، و ظازج . هكذا تظل البائعة مستلبة في حالة اللون المقاوم للهامشية و مقاييس المجموع جميعها .