أنين الفرات
"ما أجمل هذا النهر , وما أروع منظره , وما أبهى هيئته, وما أعذب خريره" هكذا همهمت أمل و هي تدلف إلى شرفة غرفتها المطلة على نهر الفرات. وما إن انزاح الستار حتى رأت عينيها الفرات بمنظر غير ذاك الذي اعتادته , وهيئة غير تلك التي ألفتها وسمعت أذنيها أنينا حزينا , فأثار هذا في نفسها قلقا و هواجس دفعتها إلى خارج منزلها و على ضفته حيث دار هذا الحوار.
أمل : فراتي العزيز مابك تبدو شاحب الوجه , حزين الشكل , ذابل الهيئة هكذا؟
الفرات: مصابي جليل و العزاء جميل .
أمل :أي مصاب جلل هذا الذي أصابك؟وما هذا الأنين الذي أسمع؟
الفرات: أصابني داء عضال شحب له وجهي , و سقمت منه مياهي , وانكسرت منه نفسي , وتوجع منه قلبي فصدر عن حلقي هذا الأنين.
أمل: أما من علاج لهذا الداء ؟ أما من طبيب يداوي هذا الوباء؟
الفرات: (بألم)لا يا أمل , فهو خبيث كالحية الرقطاء . أصابني متخفيا منذ ثلاثة عشر عاما بحجة أنه يريد مداواتي من علل أخرى فإذا به يلج في أعضائي فيضعفها ,و يتوغل في أحشائي فيوهنها , وما عن تحقق له ما أراد لي من ضعف و وهن بدأ يفصح عن نواياه الحقيقية .
أمل : ولكن لكل داء دواء وحتما يوجد الدواء لدائك هذا.
الفرات : إنه كالأفعى التي تنقض على فريستها , وتلتف حولها لتبث سمومها القاتلة في كل جزء من أجزائها. فيزيدها هذا قوة , وتجبرا وتحكما.
أمل: : وأين الأطباء من هذا ؟أما يدعي هؤلاء القدرة على الشفاء ؟و الشجاعة في مقاتلة الأدواء؟
الفرات:بلى يدعون. ولكنه داء عياء ألجم أفواههم بقوته ,وكتف أيديهم بسطوته ,وأرهب عقولهم بجبروته , وشل تفكيرهم بضيمه, فبات علاجه مستعصيا وعقاره مستحيلا.
أمل:كفا يا فراتي.لا أريد أن اسمع أنين اليأس هذا. أما أصبت من قبل بأدواء معضلة , وعلل مضنية, وأمراض مستعصية؟ ولكنك دوما كنت قادرا على قهرها بقوتك, وفتكها بصلابتك, ومعالجتها بعظمتك التي أدهشت تاريخ معالجة الأمراض و التصدي لها.
الفرات:بلى. ولكن هذا الداء أعجزني فلم اعد قادرا على مقاومته أو التصدي له.
أمل: هراء يا فرات.أنت قادر على هزيمته وطرده من جسدك ومواراته حيث توارت أمثاله من الأدواء.
الفرات: ولكنني أحتاج لعقار يقوى على محاربته معي.
أمل : لم أعهدك تستنجد يا فرات . الدواء كامن في قلبك ومنداح في حشاياك , وماثل بين يديك فلا تبحث عنه بعيدا. أنت وحدك القادر على مداواة علتك ولا حاجة لدواء من الخارج ولا داعي لطبيب من العالم.
الفرات : ولكن...
أمل : لن أسمع المزيد. أنا راحلة الآن وسأعود في الصباح . وساعة أعود أريد أن أرى فراتي العظيم كما عهدته رافع الرأس, شامخ الأنف , بهي الطلعة ,جميل المنظر,معافى الجسد وعذب الخرير. (ورحلت)
الفرات: أمل أمل ...أمل
غادرت أمل ضفة الفرات . وفي صباح اليوم التالي استيقظت على جلبة وضوضاء .فرنت إلى شرفتها فإذا بطوفان يغشى المدينة وإذا بصوت الفرات يخاطبها:
"لقد فعلت ما شئت يا أمل . اقتلعت هذا اللعين من جسدي ونبذته بعيدا .ولكن اعذريني فلم يكن هناك من وسيلة أخرى غير تلك ليرحل بعيدا والى الأبد."
فابتسمت أمل هامسة :نعم بعيدا والى الأبد يا فراتي العظيم.