الثلاثاء ٥ آذار (مارس) ٢٠٢٤
بقلم جابر القصاص

تقنيات الأدب النثري والتصوير السينمائي في شعر أمل دنقل

لا شك أن اسم (أمل دنقل) فرض نفسه على الدوائر الثقافية العربية ابتداءً من عقد الستينيات، وما زال ساطعًا إلى اليوم، كعلم لواحد من أبرز شعراء العربية خلال القرن العشرين، ولا نغالي لو قلنا: من أبرز شعراء العربية على مدار عصورها! لقد التصق اسم أمل بالقضايا الوطنية والقومية، فكانت قصائده مرآة للواقع العربي في انكساراته، وكان يمثل لسان حال الأمة العربية فيما تمر به من نوازل وكبوات، فاستحق مكانة رفيعة بين أبناء جيله، حتى أطلق عليه الناقد والشاعر فاروق شوشة لقب (شاعر اليقين القومي)(1)، كما لقبه الناقد نسيم مجلي بـ (أمير شعراء الرفض)(2).

لقد عاش أمل بين جماهير البسطاء طيلة حياته، سواء في مرحلة حياته الأولى في قريته النائية بجنوب مصر، وحتى بعد انتقاله إلى مدينة قنا، وكذلك بعد نزوحه إلى القاهرة، حيث ظل "عنوانه مقهى (ريش) – ميدان سليمان باشا – لا يحمل أوراقًا، ولا يحلم بغير الشعر، ولا يمتلك بيتًا حتى بعد زواجه في عام 1978م، وظل يتنقل بين الفنادق والحجرات المفروشة، حتى استقر على سريره الأبيض في معهد السرطان.."(3)

لقد تفجرت شاعرية أمل في مرحلة مبكرة من حياته، وهو يلقي قصائده الرصينة على زملائه من طلاب مدرسة قنا الثانوية، ثم في بعض التجمعات الأدبية بالمدينة، ثم ارتحل إلى الوجه البحري في مطلع الستينات، حيث عمل في عدد من الوظائف بين السويس والإسكندرية، قبل أن يترك الوظائف جميعها ليستقر بالقاهرة سعيًا وراء الشعر، وبدأ ينشر قصائده في بعض الجرائد والمجلات، ولم يكتف بذلك، بل انضم إلى الصالونات والمنتديات الأدبية، التي كانت تعج بها القاهرة في ذاك الوقت، لا سيما مقهى (ريش)، والأتيليه، وفيها كبار الشعراء، وقد بزغ نجم أمل في أحد تلك الصالونات، بقصيدته: (كلمات سبارتاكوس الأخيرة) التي كتبها ونشرها سنة 1962م، وكانت تلك القصيدة بمثابة شهادة ميلاد له في دنيا الشعر، ومفتاح دخوله عالم (الفرح المختلس)(4)، لتضمنها البعد العميق، والقدرة الفائقة على تصوير الواقع باستخدام الرمز، كما أثبت براعة مذهلة في توظيف التراث التاريخي والإنساني في شعره، على نحو غير معهود بهذه البراعة، على صغر سنه، فقد كان وقتها في الثانية والعشرين من عمره فقط!

وهذه القصيدة فتحت له أبواب عالم الأدب، وأصبح اسمه معروفًا في الأوساط الأدبية، وحين وقعت نكبة 1967م كان صوته أعلى الأصوات، وأعمقها في رصد تلك المأساة، من خلال رائعته (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، التي لم يكتف فيها بالبكاء والرثاء كالآخرين، بل قام فيها بتشريح وتحليل هذا الحدث، والكشف عن جذور الكارثة، فكانت أصدق وأعمق ما كتب عن الهزيمة الموجعة، والأكثر تعبيرًا عن مشاعر الجماهير العربية المكلومة، "وفيما تبقى من عام 67، وإلى أوائل السبعينات، كانت القصيدة على كل لسان، فليس قبلها قصيدة، وليس بعدها قصيدة"(5).

ثم توالت كتاباته، وتدفق إبداعه خلال عقد السبعينيات، وسطع نجمه أكثر حين كتب قصيدته (سفر الخروج) أو (أغنية الكعكة الحجرية)، التي أعلن فيها تضامنه مع مظاهرات الطلبة التي اندلعت عام 1972م، لمطالبة السلطة بالحرب من أجل استرداد الأرض المحتلة، وبسبب هذه القصيدة مُنع أمل من التعامل مع وسائل الإعلام الرسمية حتى وفاته، لكنه حفر اسمه بحروف من نور بين الجماهير العربية، كشاعر منحاز للجماهير الحالمة بالحرية، منتمٍ لجموع الشعوب العربية!

ومن هذا المنطلق جاءت قصيدته (لا تصالح) أو (الوصايا العشر) لتبلغ به ذروة السطوع، حيث أصبحت لسان حال الشعوب العربية الرافضة للتصالح مع العدو، وقد نشرت مرات عديدة خلال الأعوام – بل العقود – التالية، ثم جاء المرض في النهاية لينهي مسيرة ذاك الشاعر المناضل، لينضم – على حد قول د. صابر عبد الدايم – "إلى هذه الكوكبة من الشعراء الذين داهمهم الموت في سن مبكرة، وأحسب أنه رحل وقد بلغت موهبته ذروة نضجها الفني، واكتملت أبعاد تجربته"(6).

* وظيفة الشعر والشاعر في عقيدة أمل دنقل الأدبية:

من خلال هذه المسيرة الحافلة بالرغم من قصرها، نستطيع أن نستنبط رؤية أمل دنقل للشعر كفن ووظيفة، ودور الشاعر المطالب به في توظيف فنه، واستثمار موهبته، فيقول في أحد أحاديثه الصحفية: "الشاعر في العالم العربي، وفي ظل الظروف الاجتماعية والسياسية السائدة مطالب بدورين، دور فني: أن يكون شاعرًا، ودور وطني: أن يكون موظفًا لخدمة القضية الوطنية وخدمة التقدم، ليس عن طريق الشعارات السياسية، وليس عن طريق الصياح والصراخ، وإنما عن طريق كشف تراث هذه الأمة، وإيقاظ إحساسها بالانتماء، وتعميق أواصر الوحدة بين أقطارها.."(7)

ويقول في حديث آخر: "إن الشاعر هو ثورة في حد ذاته، يحلم بواقع لا يتحقق، وعندما يتحقق هذا الواقع يحلم بواقع أجمل، الشعر ثورة دائنة.."(8)، أي أن أمل دنقل كان ضد انغلاق وتقوقع الشاعر على نفسه، وانعزاله عن قضايا وطنه ومجتمعه، وضد انفصال الشاعر عن هويته الوطنية، وجذوره الثقافية، والشعر عنده يقترن بالحلم، أو ينبثق عنه، الحلم بواقع أفضل، وغد أجمل.. الحلم حتى بما يراه الآخرون مستحيلاً.. الشعر هو الرفض للواقع مهما كان، والثورة على كل شيء يقف في وجه الإنسانية.

إذن فنتاج أمل دنقل الشعري المنشور يمتد من عام 1962م، حتى وفاته عام 1983م، وهي مدة زمنية قليلة نوعًا ما، خاصة أنها تخللتها فترات توقف تراوحت بين الشهور والأعوام، لكنها أثمرت عن ستة دواوين منشورة، وعدد من القصائد التي لم ينشرها في حياته، ولم يضمها إلى دواوينه، لكن زوجته وأخاه تطوعا بنشرها. والدواوين التي صدرت له هي:

 ديوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، صدر في بيروت سنة 1969م، وتضمن (18) قصيدة، تتوزع من حيث تاريخ كتابتها على عقد الستينيات كله، قبل وبعد النكبة، وفي بعضها نبوءة بوقوع الهزيمة.

 ديوان (تعليق على ما حدث)، صدر في بيروت سنة 1971م، ويتألف من (13) قصيدة، نرجح أنها كتبت كلها بعد 1967م.

 ديوان (مقتل القمر)، صدر في بيروت سنة 1974م، ويتألف من (16) قصيدة، ويضم بواكير أعماله، وإن تأخر صدوره، وتظهر فيه طفولة الشاعر – أو مراهقته – الشعرية، وللقرية حضور مكثف في حروفه.

 ديوان (العهد الآتي)، صدر في بيروت سنة 1975م، ويتألف من (8) قصائد، ومن الواضح أنها كتبت جميعًا في النصف الأول من عقد السبعينيات.

 ديوان (أقوال جديدة عن حرب البسوس)، صدر في القاهرة سنة 1983م، ويتألف من قصيدتين اثنتين فقط، إحداهما منقسمة إلى جزءين، (لا تصالح)، و(أقوال اليمامة ومراثيها)، وكلتاهما نشرتا في الصحف قبل ذلك، فالأولى كتبها في منتصف السبعينيات عقب اتفاقيتي فض الاشتباك بين القوات المصرية والصهيونية، أي قبل معاهدة السلام، نابعة من قراءته للأحداث، وتوقعه مسارها، والثانية عقب توقيع المعاهدة، يؤصل فيها مبدأ الرفض، وكان الشاعر ينوي إنتاج قصائد أخرى على ألسنة شخصيات حرب البسوس، لكن المرض لم يسعفه.

 ديوان (أوراق الغرفة 8)، صدر في القاهرة سنة 1983م، عقب وفاة الشاعر، ويتألف من (13) قصيدة، كتبت كلها في السنوات الأخيرة من حياته، مع اكتشافه المرض، منها ست قصائد كتبت في الغرفة (8) التي سكنها بمعهد الأورام.

أما القصائد التي لم يودعها دواوينه، ونشرت زوجته بعضها بعد وفاته، ونشر أخوه البعض الآخر منها، فلا يمكن حصرها على التحديد، وقد تم إرفاق بضع عشرة قصيدة منها في أعماله الكاملة المنشورة، موزعة على مراحل حياته كلها، فبعضها كتب في مراحل مبكرة من حياته، تضمنت طبعة دار الشروق (7) قصائد منها، ونشرت دار الصفوة (13) قصيدة. ولا نستطيع أن نحدد سبب امتناعه عن نشرها في دواوينه، فأكثرها قصائد جيدة، ولكن الدكتور جابر عصفور ذكر أنه: "لم ينشر منها في دواوينه إلا ما رضي عنه، أما ما لم يرض عنه فلم ينشره وتركه مخطوطًا، أو منشورًا في الجرائد والمجلات المتناثرة"(9).

إذن فجملة ما نشر لأمل دنقل من قصائد بالكاد يبلغ سبعين قصيدة، بخلاف ما لم ينشره في دواوينه، وهو إنتاج قليل من جهة العدد، لكن الحضور القوي الذي حققته قصائده في وجدان الجماهير العربية يفوق مئات – بل آلاف – القصائد التي تناولت نفس الموضوعات، في نفس الحقبة الزمنية

وبالجملة فإن أمل نفسه يرى أن الشاعر لا ينبغي أن ينفصل عن واقعه ومجتمعه وقضاياه، "فالشاعر لكي يكتب الشعر، وليكون شاعرًا حرًا، يجب أن يكتب انعكاسات وجدانه الحقيقية، ولا يمكن لإنسان يعيش في ظل ظروف التخلف التي نعيش فيها، وظروف التداخل الثقافي التي لدينا، أن يكتفي بمجرد الإحساس بالجمال المطلق، فلا بد أن يعيد اكتشاف الجمال الموجود في الواقع الذي يراه، والذي يعيشه، وليس أن يعيش في واقع آخر يستعيره ثم يلبسه ثوبًا شعريًا جديدًا"(10).

ويرى أيضًا أن الشاعر عليه بأن يوظف فنه "لخدمة القضية الوطنية، وخدمة التقدم، لا عن طريق الشعارات السياسية والصراخ والصياح، وإنما عن طريق اكتشاف وكشف تراث هذه الأمة، وإيقاظ إحساسها بالانتماء، وتعميق أواصر الوحدة بين أقطارها"(11).

* أهم الخصائص الفنية في شعر أمل دنقل:

ومن ثم يمكن القول: إن أهم ما تميز به أمل دنقل من الناحية الموضوعية هو:

 امتزاج الخاص والعام في شعره..

 والجمع بين الأصالة والحداثة.

وكلاهما ناتج عن اختياره السير في صفوف الجماهير، والتعبير عنهم كواحد منهم، فهو يستعيد – أو يستعير – نبرة شاعر القبيلة، وشاعر الجماعة، في تقليد أصيل من تقاليد الموروث الشعري. وهذا ما رآه جميع المتتبعين لنتاج أمل الشعري، وعلى رأسهم فاروق شوشة، الذي خلع عليه لقب: (شاعر اليقين القومي)، لأن "هذا الانتماء القومي عند أمل دنقل، هو نفسه الذي جعل منه شاعرًا عميق الانتساب للجذور الأصيلة في شجرة الشعر العربي"(12).

هذه الأصالة – المتمثلة في استدعاء الروح القبلية العريقة – قام بصياغتها في قالب عصري، مستخدمًا التقنيات المبتكرة والمستحدثة، فامتزجت عنده الأصالة بالحداثة شكلاً وموضوعًا، حيث وصل بالقصيدة الشعرية إلى درجات عالية من التقنية الفنية، والقيمة الفكرية معًا، وذلك من خلال رؤيته الخاصة للحداثة أنها: "ليست شكلًا، بل مضمونًا، وأيضًا حداثة في الرؤيا.."(13)، والحداثة التي عمل عليها أمل دنقل هي الحداثة الفنية، لا الفكرية، فقد كان أمل ضد الحداثة الفكرية التي تسللت إلى الأدب العربي، على أيدي شعراء وكتاب أمثال (أدونيس)، وكان "يحمل على هذا النوع من الشعر لأنه يسير في اتجاه تضليل الإنسان العربي، وإحياء إعجابه بالصراعات والموضات التي تفد من الغرب"(14)، بينما كان أمل يستخدم الحداثة الفنية لتأكيد هوية العروبة!

أما من جهة الموضوع: فهو لم يقبل بدور الشاعر القديم الذي دعاه الانتماء إلى القبيلة إلى التبعية المطلقة، وإغماض العيون عن المثالب، على غرار:

وما أنا إلا من غزيّة إن غوت
غويتُ وإن ترشد غزية أرشدِ(15)

بل عمد إلى مواجهة هذا الواقع وتعرية مثالبه، مناديًا بواقع أفضل، خالٍ من هذا العوار، وقام بصياغة "ضدية" أو "مقابلة" بين الماضي الذي يراه مجيدًا، وبين الواقع الذي يعاني الجمود والتخلف والانكسار.. واستعان بالتكنيكات الفنية المتطورة في صياغة تلك الضدية..

لقد اعتاد أمل أن يقوم بإعداد تصور كامل للقصيدة قبل أن يشرع فيها، ولا ينساق لخواطره وتدفقها بشكل انطباعي، بل كان يصمم نظامًا مدروسًا للقصيدة، ونجد ذلك في قوله: "القصيدة لا بد من إعادة النظر فيها بدرجة كبيرة من الوعي، حتى تأخذ شكلها النهائي، أهتم اهتمامًا خاصًا بالبناء الهندسي والمعماري للقصيدة، هذا يجعل القصيدة عندي ليست مجرد صورًا تطرأ على الخاطر، بل لابد أن تكون متجانسة ومتكاملة من جميع الجوانب.."(16)، وهذا ما اعتبره الشاعر والناقد فاروق شوشة من مزايا إبداع أمل دنقل، وذلك أنه: "يُخضع قصائده لنظام صارم مدروس، ومعاودات ومراجعات مستمرة، قبل أن يدفع بها إلى النشر والدوران، هذا النظام الصارم المحكم هو الذي جعل قصيدته – في معظم الأحيان – تنجو من الثرثرة، وتداعي الإفضاء، والبعد عن مركز التوجع، وقطب الإشعاع والتأثير، وحفظها من السقوط في برودة النثرية، أو جفاف التقرير"(17)اهـ.

وقد تميز شعر أمل دنقل بخصائص فنية مميزة، تتبعها النقاد من خلال متابعة نتاجه الشعري، ويمكننا أن نستخلص من كلامهم جميعًا أبرز هذه السمات والخصائص الفنية لشعر أمل دنقل، وأهمها: المطالع القوية في افتتاح قصائده، وتشكيل المفارقة الذهنية والوجدانية المتنوعة في السياقات والصور التي يستعملها، وإدخال مشاهد الحياة اليومية في شعره، وكثافة حضور التراث الإنساني في شعره، على سبيل الإسقاط على الواقع المعاصر، وبراعته في تقديم الكوميديا السوداء، والحرص على الإيقاع الموسيقي، وتواتر القافية، وصناعة الصور الفنية المركبة شكلًا وموضوعًا، بالإضافة إلى إدخال تقنيات الأدب النثري: كالقصة والمسرحية، واللقطات السينمائية داخل القصيدة، وهي موضوع بحثنا هذا.

* تقنيات الأدب النثري، والتصوير السينمائي في قصائد أمل دنقل:

يقول الدكتور عز الدين إسماعيل: "إن كل الأنواع الأدبية تصبو إلى الوصول إلى مستوى التعبير الدرامي.."(18)

وهو يعني بالأنواع الأدبية: الفنون القولية، كالشعر، والقَص بكل ضروبه، والمسرحية شعرية كانت أو نثرية، ويقصد بالدراما: الصراع في أي شكل من أشكاله، ويضيف قائلًا: "والتفكير الدرامي هو ذلك اللون من التفكير الذي لا يسير في اتجاه واحد، وإنما يأخذ دائمًا في الاعتبار أن كل فكرة تقابلها فكرة، وأن كل ظاهر يستخفي وراءه باطن، وأن التناقضات وإن كانت سلبية في ذاتها فإن تبادل الحركة بينها يخلق الشيء الموجب، ومن ثم كانت الحياة نفسها إيجابًا يستفيد من هذه الحركة المتبادلة بين المتناقضات.."(19)، ويذكر من خصائص وسمات الدرامية: الحركة، والموضوعية، والتجسيد، أي تأثير الحركة والموضوعية في الوقائع المحسوسة التي تصنع نسيج الحياة.

ويشاركه في هذا الاتجاه الدكتور علي عشري زايد، فيقول مركزًا كلامه على فن الشعر: "تتجه القصيدة العربية الحديثة اتجاهًا واضحًا نحو الدرامية، سواء في مضمونها النفسي والشعوري والفكري، أو في بنائها الفني.."(20)

وشارك أيضًا د. عز الدين إسماعيل في اتصال الفنون الأدبية بعضها ببعض في الشعر العربي المعاصر، حيث قام أرباب هذا اللون الجديد من الشعر بمزج القصيدة بالفنون الأدبية الأخرى، ولم يكتفوا بهذا بل اتجهوا إلى إدخال العناصر السينمائية في القصيدة الشعرية، على الرغم من تباين اللونين، فالشعر هو فن قولي مكتوب، بينما السينما فن تصويري مرئي، ولكن استطاع عدد منهم إزالة هذا التباين بما امتلكوا من مقدرة شعرية فنية على تصوير المشاهد بالكلمات، وصياغة عناصر الصورة في كلمات مكتوبة، ولا شك أن أمل واحد من هؤلاء الذين نجحوا في هذا المزج باقتدار..

وأهم التقنيات النثرية والسينمائية التي استعملها أمل في شعره: تعدد الأصوات والأشخاص، الحوار (الديالوج)، الكورس (الجوقة)، الارتداد (فلاش باك)، الحوار الداخلي (المونولوج)، السيناريو..

فأما تعدد الأصوات والأشخاص داخل القصيدة فخير مثال نسوقه للتدليل والتمثيل: رائعته الأخيرة (الجنوبي)، وهو يستدعي من ذاكرته الأشخاص الذين رحلوا قبله من عائلته ومحيط معارفه وأصدقائه، حتى يصل إلى المقطع الأخير الذي يقول فيه:

مرآة

 هل تريد قليلًا من البحر؟
 إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي:
البحر- والمرأة الكاذبة.
 سوف آتيك بالرمل منه
... وتلاشى به الظل شيئًا فشيئًا..
فلم أستبنه
 هل تريد قليلًا من الخمر؟
 إن الجنوبي يا سيدي يتهيّب شيئين:
قنينة الخمر – والآلة الحاسبة
 سوف آتيك بالثلج منه
.. وتلاشى به الظل شيئًا فشيئًا..
فلم أستبنه
بعدها لم أجد صاحبيّ
لم يعد واحد منهما لي بشي
 هل تريد قليلًا من الصبر؟
 لا..

إن الجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه(21)

والمقطع كله يبدو أشبه بهذيان مريض يفارق الحياة، والأشخاص الماثلون به أشبه بالظلال غير المعينة، التي يناجيها المريض في هلوساته، والمقطع مثال أيضًا لبراعة أمل دنقل في سبك الحوار الشعري بين الشخصيات، وهو أيضًا من تكنيكات فنون الأدب النثرية.

وتعدد الشخصيات في القصيدة سمة غالبة على كثير من قصائد أمل، ومثال آخر على ذلك قصيدة (من أوراق أبي نواس) في ديوان (العهد الآتي)، التي تبدو أشبه بفصول قصصية، أو مشاهد مسرحية، يظهر فيها من الشخصيات: صديق الطفولة وهو يشارك البطل لعبة (ملك أو كتابة)، ثم شخصية الأب بين أفراد الأسرة، والحرس يقتادونه إلى السجن حيث ينتظره الموت، وشخصية الأم الخادمة الفارسية، والسادة الذين يمتهنونها، وأخيرًا شخصية الشيخ المستسلم الذي يتحدث عن تسلط الباطل على الحق، دون أدنى محاولة لنصرة هذا الحق!(22)

وفي قصيدة (سفر ألف دال) من نفس الديوان نطالع شخصيات: السجين الذين ينتهي به الأمر إلى المقصلة، والمحقق الذي يكيل الاتهام ظلمًا، والحبيبة التي تعانق البطل قبيل إعدامه ويخاطبها كأنها ابنته، ثم شخصيات المرأة التي تتجول بين الموائد تعرض فتنتها بالثمن، والكاتب الذي يحاورها، وتحكي له معاناتها..(23)

وفي قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) نطالع شخصيات: الجندي العائد من الحرب مهزومًا مبتور الذراع، وشخصية عنترة بن شداد الفارس العربي الشهير، وزرقاء اليمامة، والزباء، وجندي آخر يموت بالرصاص وهو يهم بارتشاف الماء، وطفلته التي يراها الجندي بعد عودته من الحرب..!!(24) والمتتبع لشعر أمل دنقل سيجد من هذا الشيء الكثير..

وأما الحوار فنجده في كثير من قصائد أمل، ويستعمله أمل في توظيف الفكرة بشكل جيد، وأحيانًا يستعمل عباراته مصدرًا إياها بأفعال القول: قالوا – قلت – قال – قالت... إلخ. وفي أغلب الأحيان يسوق الحوار بدون أفعال القول، مستعملًا الأداة (-) في أول كل عبارة، وقد يجمع بين الاثنين، ومن أمثلة ذلك الحوار الذي أورده في (مقتل القمر)، وهو يسرد النقاش الدائر بينه وبين أبناء القرية، فيقول:

يا إخوتي: هذا أبوكم مات!
 ماذا؟ لا.. أبونا لا يموت
بالأمس طول الليل كان هنا
يقص لنا حكايته الحزينة!
 يا إخوتي بيديّ هاتين احتضنته
أسبلت جفنيه على عينيه حتى تدفنوه!
قالوا: كفاك.. اصمت
فإنك لست تدري ما تقول!
قلت: الحقيقة ما أقول
قالوا: انتظر
لم تبق إلا بضع ساعات...
ويأتي(25)

وواضح طبعًا أسلوب القص النثري المصاحب للحوار، ويتضح هذا التكنيك بشكل أكبر في قصيدة (أوراق أبي نواس)، مشهد اعتقال الأب أمام أسرته، الذي يقول فيه:-

نائمًا كنت جانبه.. وسمعت الحرس
يوقظون أبي
 خارجيّ
 أنا..؟!
 مارقٌ
 من؟ أنا؟(26)

وأما الكورس و (الجوقة)، فهو تكنيك مسرحي غنائي، يعتمد على صوت رئيس هو الذي يطرح المضمون الأساسي بإسهاب، وصوت فرعي ينشده مجموعة من المغنين يردد خلف الصوت الرئيس عبارات مقتضبة محددة، توافق وتعضد ما يردده الصوت الأول، وقد استعمل أمل دنقل هذا التكنيك في قصيدتين كتبهما بعد هزيمة 1967م، الأولى: قصيدة (أيلول) على هذا النحو:

(صوت) (جوقة خلفية)
أيلول الباكي هذا العام ها نحن يا أيلول
يخلع عنه في السجن قلنسوة الإعدام لم ندرك الطعنة
تسقط من سترته الزرقاء.. الأرقام! فحلت اللعنة
ليلة أن وقف على درجات القصر الحجرية ... ... ...
ليقول لنا: إن سليمان الجالس منكفئًا
فوق عصاه قد حلت اللعنة
قد مات! ولكنا نحسبه يغفو حين نراه في جيلنا المخبول(27)

هكذا نستمع إلى صوتين، ومن الملاحظ أن الصوتين ينطقان – أو بالأحرى يغنيان – معًا في نفس اللحظة، لكن كلمات مختلفة، فصوت الجوقة الخلفية ما هو إلا نغمة صوتية خلفية للصوت الرئيس، لذا كانت كلماته قليلة مقتضبة، لأن دورها موسيقي أكثر منه أداء غنائي..

والقصيدة الثانية: (الحداد يليق بقطر الندى)، نلاحظ انفصال الجوقة عن الصوت الرئيس، حيث يقومان بالغناء بشكل تبادلي، تبدأ الجوقة، ثم تتوقف لينطلق الصوت الرئيس، حتى يتوقف هذا الصوت لتدخل الجوقة، وهكذا بالتبادل.. يقول:

جوقة:
قطر الندى يا خال
مُهرٌ بلا خيّال
... ... ...
قطر الندى يا عين
أميرة الوجهين
... ... ...

صوت:
كان (خمارويه) راقدًا على بحيرة الزئبق
وكانت المغنيات والبنات الحور
يطأن فوق المسك والكافور
والفقراء والدراويش أمام قصره المغلق
ينتظرون الذهب المبدور
ينتظرون حفنة صغيرة.. من نور(28)

وهكذا يستمر التبادل إلى نهاية القصيدة..

والفرق بين الحالتين لا يكمن فقط في التزامن أو التبادل بين الصوت الرئيس والجوقة، بل يمتد إلى التوظيف، ففي (أيلول) كان الصوت الرئيس والجوقة متوافقين في نغمة الإحباط والهزيمة، وإن كانت الجوقة تعبر عن هذا بعبارات مباشرة، بخلاف الصوت الرئيس، ومن ثم كان التزامن بين الصوتين هو الأوفق للقصيدة.. أما في حالة (قطر الندى) فثمة انفصال في الحالة الشعورية بين الصوت الرئيس والجوقة، فالصوت الرئيس يصف حالة الرخاء والترف التي يعيشها (خمارويه) رمز السلطة، بينما الجوقة تصف حال (قطر الندى) الأسيرة رمز الأرض العربية السليبة! ولذا كان التبادل أوفق من التزامن، للتعبير عن الانفصال الشعوري بين الطرفين، وهذه بلا شك براعة تحسب للشاعر..

وأما الارتداد أو (فلاش باك) فهو تكنيك قصصي/ سينمائي، وهو عبارة عن "قطع التسلسل الزمني للأحداث، والعودة من اللحظة الحاضرة إلى بعض الأحداث التي وقعت في الماضي، وقد يتم هذا الارتداد على لسان الراوي، أو من خلال وعي أحد الأبطال لأغراض فنية مقصودة.."(29)

وقد استخدم أمل تكنيك الارتداد مرارًا في قصائده، وقد قدمنا مثالًا له في المبحث السابق، من قصيدة (رباب)، والشاعر في اللحظة الآنية يصف لقاءه الأول بحبيبته، لكنه فجأة يترك هذه اللحظة الحاضرة، ويرتد بذاكرته ووعيه إلى حبه الأول للفتاة ذات العيون الخضراء، يقول:

(.. كنا جارين طويلًا
وخليج عيون خضر ترسو فيه
أشرعة الشوق
قلبي ما كاد يشبّ عن الطوق
حتى أبحر في عينيها الواسعتين..
برحلته الأولى
لكي أشهدها – الليلة - تتكئ عليه
كما كانت تتكئ عليّ
يشبّك في إصبعها خاتمه الذهبيّ
وتمرّ على جبهته بأناملها الرخصة(30)

ونضيف مثالًا آخر أكثر شهرة وأعلى قيمة فنية، نجده في رائعته (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، والجندي الجريح المهزوم، يشكو ما عاناه وكابده، وعند رؤيته ابنة زميل له استشهد بالحرب، يرتد بوعيه إلى مشهد سابق يتعلق بهذا الجندي الشهيد:

.. تقفز حولي طفلة واسعة العينين.. عذبة المشاكسة
(- كان يقص عنك يا صغيرتي.. ونحن في الخنادق
فنفتح الأزرار في ستراتنا.. ونسند البنادق
وحين مات عطشًا في الصحراء المُشمِسة..
رطّب باسمك الشفاه اليابسة..
وارتخت العينان!)(31)

وهذا الارتداد من المؤكد أنه يحمل إضافة لمحتوى القصيدة، فالشاعر "ما ساق لنا هذا المشهد المؤثر إلا ليجسد من خلاله إحساس الراوية الذي سبق التعبير عنه بالعار ويزيده عمقًا، فهذا الوجه الضاحك يدينه بالهرب، ويذكره برفيق سلاحه الذي آثر الشهادة بينما نجا هو، حيث يتساءل في أسى مدمر بعد أن انتهى مونولوجه:

فأين أخفي وجهي المتهم المدان؟
والضحكة الطروب ضحكته
والوجه.. والغمازتان"(32)، (33)

إذن هذا الاستخدام زاد من تعميق المأساة، فلم تعد الهزيمة وحدها، ولا الجراح التي خرج بها، ولا المشاهد المريعة التي رآها للضحايا في طريق هروبه، هي كل معاناته، ومصدر شقائه، بل زاد عليها الشعور بالذنب تجاه رفيقه، وكل هذا يعمق من تأثير المشهد، ويزيد من معالم المأساة عمقًا وكثافة.

كما أننا نلمح بجانب تكنيك الارتداد تكنيكًا آخر من تكنيك الأدب النثري، وهو: المونولوج الداخلي، أي الحوار النفسي الذي يجريه أحد الأشخاص داخليًا، دون أن يتكلم به جهرًا، "وهو من أبرز تكنيكات اتجاه تيار الوعي في الرواية الحديثة.."(34)، وهذه التقنية ذائعة في شعر أمل، وعادة يستعمل القوسين لإبرازه من بين المقطع المسرود، كما رأينا في مقطع سابق من (زرقاء اليمامة)، وكما نجده في هذا المقطع من قصيدة أخرى:

جاءت إليّ وهي تشكو الغثيان والدوار
(.. أنفقت راتبي على أقراص منع الحمل!)
ترفع نحوي وجهها المبتلّ..
تسألني عن حل!(35)

وهذه الجملة الاعتراضية المحصورة بين القوسين هي المونولوج الداخلي، الذي يحدث به المتكلم نفسه، وفيه ما يشبه الدهشة والتساؤل عن كيفية حدوث ما جاءت تخبره به المرأة! وأمل يستخدم المونولوج الداخلي ليس فقط في التعبير عن الدهشة والتساؤل، بل يستعمله أحيانًا في إضافة تفصيلة ما إلى اللقطة أو المشهد، ينتبه إليها الراوي نفسيًا، وينقلها الشاعر إلى المتلقي في حالة انفصال وتميز عن السياق، مثلما نراه في هذا المقطع:

توقفني المرأة..
في استنادها المثير
على عمود الضوء:
(كانت ملصقات "الفتح" و"الجبهة"..
تملأ خلف ظهرها العمودا!)
تسألني لفافة:
واحدة من تبغها الليلي)
تسألني إن كنت أمضي ليلتي وحيدًا(36)

فالمونولوج الداخلي أضاف تفصيلتين: إحداهما مرئية (الملصقات خلف ظهر المرأة التي نعرف مهنتها)، والأخرى ذهنية، أدركها من خلال وعيه بما يدور في الشارع، وكأنه بالتفصيلة الأولى يربط بين الأحداث السياسية التي تعصف بواقع الأمة العربية، وانعكاساته على فئات الطبقة الدنيا من المجتمع، وفي التفصيلة الثانية يعري واقع الفساد التي ينخر كالسوس في قاعدة المجتمع.. خاصة إذا علمنا أن القصيدة كلها مكتوبة في أجواء هزيمة 1967م.. وهكذا يلعب المونولوج دورًا حيويًا في شعر أمل دنقل.

كما نجد استخدامه لتكنيك سينمائي معروف، وشديد الضرورة والحيوية وهو: تكنيك المونتاج السينمائي، الذي يقوم على مزج اللقطات المتباعدة، والتي تبدو منفصلة، في مشهد كلي يحمل ارتباطًا بين تلك اللقطات، وهذا أيضًا كثير الذيوع في شعر أمل دنقل، وأشهر مثال له ما صاغه في (أغنية الكعكة الحجرية)، في المقطع الذي يتكون من مشهدين متداخلين يقعان في نفس التوقيت الزمني، مع تباين الشخوص، والحالة الشعورية، مشهد: الابن الثائر حين يتم اعتقاله، ومشهد: الأم الطيبة وهي تنتظر عودة ذلك الابن غير مدركة لما أصابه، يقول:-

دقت الساعة المتعبة
رفعت أمه الطيبة
عينها..
(دفعته كعوب البنادق في المركبة!)
... ... ... ... ...
دقت الساعة المتعبة
نهضت.. نسّقت مكتبه..
(دفعته يد..
 أدخلته يد الله في التجربة -)
... ... ... ... ...
دقت الساعة المتعبة
جلست أمه.. رتقت جوربه..
 (وخزتْه عيون المحقق..
حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة!)(37)

إنه هنا يستخدم تكنيك المونتاج السينمائي في المزج لقطتين متباعدتين، لكنهما متفقتان في عنصر الزمن، ويضع شخصية الأم وما تقوم به من أعمال منزلية لصالح ابنها، في مقابل معاناة الابن لتكريس عمق المأساة! وهذا ما يعرف بـ (المونتاج على أساس التوازي)، وهي بلا شك براعة مذهلة من الشاعر، وسعة رؤية غير تقليدية. كما نجد أيضًا صورة أخرى للمونتاج لكن (على أساس الترابط)، وهو يقدم لنا مشهدًا لزوجة تعود إلى بيتها لتجد خطابًا ملقى أسفل الباب يعلمها باستشهاد زوجها بالحرب، فيقدم لنا لقطات متتالية من زوايا مختلفة للمشهد:

لم يكن داخل الشقة المقفلة
غير قط وحيد
حين عادت من السوق تحمل سلتها المثقلة
عرفت أن ساعي البريد
مرّ..
(في فتحة الباب كان الخطاب طريحًا..
ككاب الشهيد!)
قفز القط في الولولة
قفزت من شبابيك جيرانها الأسئلة(38)

إنها لقطات متباينة لمشهد واحد، مترابط في صياغة المأساة، لقطة: زوجة قادمة من السوق تحمل سلة مكتظة بالمشتريات، في إشارة إلى أن حياة الزوجة تسير بشكل طبيعي بالرغم من غياب الزوج في الجبهة، ولقطة: القط نائم في كسل داخل الشقة، في إشارة إلى هدوء البيت.. ولقطة: خطاب الإعلام بالاستشهاد ملقى على الأرض، مع استعمال تشبيه يشير إلى لقطة أخرى بعيدة عن مكان المشهد الحالي: الجندي طريح، والكاب الذي يضعه فوق رأسه ملقى على الأرض بعد سقوطه.. ولقطة: القط وهو يثب مذعورًا على صوت النواح والولولة التي أثارتها الزوجة حين رأت الخطاب، ولقطة أخيرة: الجيران وهم يطلون من النوافذ على صوت الصراخ في تساؤل مذعور! ومع توالي هذه اللقطات، يتكون المشهد ويكتسب العمق اللازم للواقعة. إن الشاعر يقدم لنا صورة بصرية شاملة للمشهد من جميع الزوايا، في شكل لقطات مترابطة، قام بالمزج بينها بطريقة المونتاج السينمائي ليضع المتلقي داخل الحدث، ويكرس عمق المأساة!

كما حمل هذا المقطع سمة أخرى لأمل دنقل، وهي براعته في صياغة الصور الفنية المركبة، التي تتألف من عناصر بصرية وبيانية متعددة، تخدم القضية الكلية التي يطرحها مع النص، وهو ما نجده ذائعًا بوضوح في ثنايا قصائده، في مختلف مراحل عمره الإبداعية، ولنطالع مثلًا هذا المشهد:

رؤيا:
(ويكون عام.. فيه تحترق السنابل والضروع
تنمو حوافرنا - مع اللعنات - من ظمأ وجوع
يتزاحف الأطفال في لعق الثرى!
ينمو صديد الصمغ في الأفواه..
في هدب العيون.. فلا ترى!
تتساقط الأقراط من آذان عذراوات مصر!
ويموت ثدي الأم.. تنهض في الكرى
تطهو على نيرانها الطفل الرضيع!!(1)

إنه يصوغ رؤيا تحمل نبوءته عن هزيمة 1967م قبل وقوعها بثلاثة أشهر فحسب، وهي تمثل صورة قاتمة جدًا، ومركبة من مفردات وعناصر بصرية في غاية الشناعة: السنابل والضروع المحترقة، الأطفال يلعقون الثرى من الظمأ والجوع، العيون والأفواه المغلقة من القهر كأنها مقفلة بالشمع، العذراوات في حال الامتهان، الأم تطهو رضيعها على النيران، صورة مركبة ومعقدة، تنبئ عن أمر كارثي مرير سوف يحدث، وهو ما يؤكده في المقطع الأخير، حين يقول مخاطبًا مصر:

وستهبطين على الجموع
وترفرفين.. فلا تراكِ دموعهم.. خلف الدموع
تتوقفين على السيوف الواقفة
تتسمعين الهمهات الواجفة
وسترحلين بلا رجوع!
... ... ... ...
ويكون جوع!
ويكون جوع!(40)

كما تطالعنا صورة مركبة أخرى في هذا المشهد الدرامي:

أشعر الآن أني وحيد
وأن المدينة في الليل..
(أشباحها وبناياتها الشاهقة)
سفن غارقة
نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها إلى القاع منذ سنين
أسند الرأسَ ربانُها فوق حافتها..
وزجاجة خمر محطمة تحت أقدامه
وبقايا وسام ثمين
وتشبث بحارة الأمس فيها بأعمدة الصمت في الأروقة
يتسلل من بين أسمالهم سمك الذكريات الحزين
وخناجر صامتة
وطحالب نابتة..
وسلال من القطط النافقة(41)

حين ننظر إلى هذه الصورة الفنية المركبة، سنتخذ زاويتي نظر:

الأولى: زاوية العناصر البصرية، التي نجح في التقاطها بعدسته الشعرية، وهو يصف لنا حال المدينة المهزومة المقموعة، التي كانت بالأمس تزهو بالحضارة والعمارة، فتحولت في الحاضر إلى ما يشبه سفينة غارقة، ويستمر في رصد اللقطات البصرية التي تبين ما آلت إليه تلك السفينة/ المدينة من خراب وهزيمة، فالسفينة/ المدينة قبل غرقها نهبتها قراصنة الموت، وهم الغزاة والحكام الجبابرة، وتركوها خرابًا، والبحارة التي كانوا يملكونها عجزوا عن حمايتها، وغرقوا معها، ولا تزال رفاتهم محنطة، الربان على حافتها محنط، وقد سقطت منه رجاجة الخمر التي حاول أن يغيب بها عن الهزيمة والقهر، وبجانب زجاجة الخمر وسام ثمين ملقى، سواء هو الذي ألقاه بنفسه، أم سقط منه مثلما سقطت زجاجة الخمر، فلم يعد له معنى ولا قيمة بعد ما أصاب السفينة، وعجزه عن حمايتها، وبقية البحارة محنطون وهم مستمسكون بأعمدة الماضي الناصع، الذي لم يعد سوى ذكريات حزينة، في واقع بائس مهزوم، وتكتمل الصورة البصرية بخروج الخناجر الصامتة لعجزها، والطحالب التي نبتت مع توالي العصور في القهر والبؤس، والقطط الميتة.. هذه الزاوية من الواضح أنه تأثر فيها بفن السينما، لاعتماده العناصر البصرية المتنوعة والمتصلة.

الزاوية الأخرى: هي زاوية الصور البيانية التي صاغها وساقها، وتبدأ بتشبيه المدينة المهزمة المقموعة، بالسفن الغارقة، ثم تتولد من هذا التشبيه العديد من الاستعارات، تكمل الصورة البصرية التي يريد صياغتها.

وقد تنبه الدكتور جابر عصفور إلى أن تولد الاستعارات من التشبيه الأولي هو "ظاهرة سرعان ما أصبحت ملمحًا أساسيًا في شعر أمل.."(42)، وأحيانًا يتجاوز أمل التشبيه الأول، ويعتمد على الاستعارات وحدها في رسم الصورة البصرية المركبة،

الأرض ما زالت بأذنيها دم من قرطها المنزوع..
قهقهة اللصوص تسوق هودجها.. وتتركها بلا زاد..
تشد أصابع العطش المميت على الرمال..
تضيع صرختها بحمحمة الخيول
 الأرض ملقاة على الصحراء.. ظامئة..
وتلقي الدلو مرات.. وتخرجه بلا ماء!
وتزحف في لهيب القيظ
تسأل عن عذوبة نهرها
والنهر سمّمه المغول
وعيونها تخبو من الإعياء، تستسقي جذور الشوك،
تنتظر المصير المرّ.. يطحنها الذبول!(43)

فالمقطع بدأ مباشرة باستعارة مكنية، الأرض العربية ممثلة في امرأة نهبها اللصوص، وتركوها في الصحراء ظامئة جريحة، ولا تجد وسط هذا الظمأ سوى بئر يابسة، وحتى النهر البعيد مسمّم، فتموت بصورة بطيئة، شديدة القسوة، لدرجة أنها تنشد السقيا من جذور الشوك، وهكذا تمددت الاستعارة وتوسعت، واكتسبت جزئيات تفصيلية صغيرة تتألف منها الصورة الكلية، وهكذا نتوصل إلى أن "البنية الاستعارية التي تمتد بالصورة البلاغية، ويتشكل منها رمز جزئي أو كلي، هي إحدى خصائص الصورة الشعرية في قصيدة أمل دنقل.."(44)

وهكذا استطاع أمل دنقل من خلال المزج بين البعدين: الإنساني والقومي، أن يصوغ قالبًا شعريًا فريدًا جعله أحد أهم فرسان تلك المرحلة الملتهبة من تاريخ مصر والعالم والعربي، وتبلورت قدرته الفائقة على توظيف تقنيات الأدب الأنثري والتصوير السينمائي في قالب شعري متسق، وإن كانت هذه الخصيصة لم تقتصر عليه وحده، بل شاركه فيها آخرون من شعراء جيله، إلا أنه نجح في تشكيل نسق شعري فريد يمزج بين الأصالة والحداثة متفوقًا على غيره في هذا السياق، مما جعله شعره يحتل مكانة خاصة لدى الجماهير العربية، ولدى الحركة النقدية في ربوع الوطن العربي على السواء.

المراجع:-

(1) عنوان مقالة نشرت في مجلة (إبداع)، العدد (10)، أكتوبر 1983م.
(2) أصدر كتابًا يحمل الاسم نفسه، ضمن إصدارات (مكتبة الأسرة)، سنة 2000م.
(3) أحمد إسماعيل: كيف كتب أمل دنقل قصائده، مجلة أدب ونقد، مجلد (1)، عدد (1)، يناير 2004م، ص: 15.
(4) (الفرح المختلس) هو الشعر، وهو التعبير الذي استخدمه أمل نفسه في قصيدته (من أوراق أبي نواس).
(5) عبد العزيز المقالح: أمل دنقل وأنشودة البساطة، مجلة إبداع - مصر، العدد (10)، أكتوبر 1983م، ص: 21.
(6) صابر عبد الدايم: ثنائية الموت والحياة، دراسة في شعر أمل دنقل، مجلة اللغة العربية بالزقازيق، جامعة الأزهر، العدد (11)، سنة 1991م، ص: 199.
(7) أمل دنقل: حوارات أمل دنقل الصحفية، إعداد: أنس دنقل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2013م، ص: 35.
(8) أمل دنقل: المرجع نفسه: ص 123.
(9) جابر عصفور: قصيدة الرفض: قراءة في شعر أمل دنقل، الهيئة العامة للكتاب- القاهرة، الطبعة الأولى 2017م، ص 22.
(10) أمل دنقل: الحوارات: ص 35.
(11) أمل دنقل: الحوارات: ص 35.
(12) فاروق شوشة: شاعر اليقين القومي: ص 16
(13) أمل دنقل: الحوارات: ص 120.
(14) جهاد فاضل: أدباء عرب معاصرون، دار الشروق – مصر، ط1 سنة 2000م، ص: 159.
(15) دريد بن الصمة: الديوان، تحقيق: د. عمر عبد الرسول، دار المعارف، القاهرة، 1985م، ص 62.
(16) أمل دنقل: الحوارات: ص 121.
(17) فاروق شوشة: ص 16.
(18) عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره، دار الفكر العربي – القاهرة، ص 278.
(19) الشعر العربي المعاصر: ص 279.
(20) علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، مكتبة ابن سينا – القاهرة، الطبعة الرابعة، سنة 2002م، ص 189.
(21) أمل دنقل: الأعمال الكاملة، ص 371.
(22) الأعمال الكاملة: ص 310 وما بعدها.
(23) الأعمال الكاملة: ص 285 وما بعدها.
(24) الأعمال الكاملة: ص 95 وما بعدها.
(25) الأعمال الكاملة: ص 36- 37.
(26) الأعمال الكاملة: ص 312.
(27) الأعمال الكاملة: ص 102.
(28) الأعمال الكاملة: ص 190.
(29) علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية المعاصرة: ص 209، 210.
(30) الأعمال الكاملة: ص 214.
(31) الأعمال الكاملة: ص 97.
(32) علي عشري زايد: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر المعاصر، دار الفكر العربي- القاهرة، ط1 سنة 1997م، ص: 229- 230.
(33) الأعمال الكاملة: ص 97.
(34) علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية الحديثة: ص 211.
(35) الأعمال الكاملة: ص 117.
(36) الأعمال الكاملة: ص 187.
(37) الأعمال الكاملة ص 272- 273.
(38) الأعمال الكاملة: ص 294- 295.
(39) الأعمال الكاملة: ص 292- 293.
(40) الأعمال الكاملة: ص 292- 293.
(41) جابر عصفور: قصيدة الرفض: ص 394.
(42) الأعمال الكاملة: ص 90.
(43) جابر عصفور: قصيدة الرفض: ص 407.
(44) جابر عصفور: المرجع نفسه: ص 407.


مشاركة منتدى

  • شكر وتحية للكاتب المبدع جابر القصاص لهذه الإطلالة النقدية الضافية (تقنيات الأدب النثري والتصوير السينمائي في شعر أمل دنقل ) وإن كنت أود الاشارة إلى أن الشاعر الراحل كان جل أشعاره على نمط قصيدة التفعيلة وليس قصيدة النثر كما فهمت من عنوان مقالتكم الرائعة فهو من رواد شعر التفعيلة المرتبطة بتفعيلات الخليل بن أحمد . مع تمنتياتي لكم بدوام التوفيق

  • الشاعر المبدع رضا الحمامصي، ليس في المقالة أي شيء يشير إلى أن شعر أمل دنقل ينتمي إلى قصيدة النثر، وإنما المقصود: أن الشاعر استعمل بعض تقنيات الأدب النثري - كالقصة والمسرحية - في نظم قصائده، دون أن يتخلى رونق الشعر أو الالتزام بالتفعيلة، وذكرنا أبرز هذه التقنيات، تحياتي العطرة لمرورك الكريم والراقي. (جابر القصاص)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى