
يوميات الحرب على غزة
مهداة إلى طلال حماد
المقطع الأول (1) كوابيس
الطفل يخرج من القبر حيا
( قصة حلمت بها الليلة التاسعة من الحرب على غزة 5_ 1_ 2009 )
كنت مع أمي وشخص ثالث لا أتذكره جيدا، بل ربما ما كنت اعرفه أصلا، على حافة مقبرة، جوار آخر قبر فيها، وكان مرتفعا، فضلا عن كونه مبنيا بالرخام، لكن قاعدته كانت معلقة في التراب، وكانت منجرفة من الأسفل باتجاه الطريق، وحيث كنا نتواجد ثلاثتنا .
على الأغلب كان الشخص الثالث الذي كان برفقتنا صبيا، فضوليا، اخذ ينبش لسبب لا اعلمه في التراب تحت حافة القبر المكشوفة أو المعلقة، حيث كنا، فإذا بطرف من القماش الصوفي يظهر له، فواصل النبش وإذا بجسد صغير ملفوف يظهر، ما أن كشف عن وجهه، حتى كان طفلا، ذا وجه فيه نمش، وكان حيا، تثاءب الطفل ولم يصرخ، لكنه كان حيا تماما، وكأنه ولد للتو!
حماته أمي وسارت به بضعة مترات قليلة، اقترحت عليها أن نذهب به إلى أول مركز للشرطة، حتى نعلن عن المعجزة، فالطفل لاشك انه وقد كان ملفوفا وابن سنة تقريبا، قد دفن على أساس انه ميت، وكان هذا قبل يوم أو يومين على الأكثر، وفي الغالب كان مغميا عليه، ولم يكشف عليه طبيب، أو حتى أن طبيبا مستجدا كان قد كشف عليه على عجل، وثم دفنه، لكنه لم يكن مكفنا! بل كان مدفونا، هكذا بكفولته البيضاء المقمطة، وملفوفا بغطاء صوفي عادة ما تقوم الأمهات، وفي الشتاء بلف أطفالهن الصغار بمثله.
المفاجأة كانت حين صعدت إلى شاهد القبر، الذي راعني كونه قد بني بالرخام، فهو يليق برجل ذي مكانة، وليس بطفل، قرأت الاسم الذي كان على الشاهد، لم يلفت انتباهي أي شيء مختلف فيه، فقد كان الاسم ثلاثيا أو رباعيا، يبدأ ب محمد ...
لكن التاريخ كان غريبا 1928 م ....
قبل أن نصل إلى مركز الشرطة، جاء رجل وامرأة وأخذاه من بين يدي أمي، دون أن ينطقا بكلمة واحدة، ثم اختفوا ثلاثتهم، ونحن مازلنا مندهشين ....
ملاحظة :
يذكرني هذا الحلم بحلم آخر، أتذكره الآن بعد أن كدت أنساه، وقد رافقني _ في مناماتي طوال عدة سنين _ فانا فجعت بوفاة والدي دون أن أتمكن من رؤيته قبل أن يموت بسنوات رغم محاولاتي المتكررة، والآن وقد مضت على وفاته عشر سنين تقريبا، أتذكر الآن أني رأيته في منام ما، وكان قد مات ودفن، لكنهم بعد أيام ثلاثة أو أربعة، فوجئوا به يخرج من قبره حيا، بعد أن أزاح بلاطة القبر ونفض عن معطفه التراب، وأتذكر أيضا انه عاش معنا وقتا إلى أن مات لاحقا حيث شاركت بتشييعه ودفنه، يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته .
ليلة غنت لي أم كلثوم
في الليلة ذاتها وكانت الليلة الثانية على انطلاق الحرب البرية الإسرائيلية علة غزة، وقد اشتد القصف الذي كان يهز السرير
امس يوم للحرب، كان مفاجأة مرعبة، كنت أظن انه يمكن أن يأخذ مني ما يريد عبر الهاتف، لكنه صرح لي بأنه يريدني في الأستوديو، بعد نشرة العاشرة، أجبته باني لا املك سيارة، فرد بأنه سيرسل لي واحدة مع السائق، وما علي سوى أن اصف له المكان حيث أنا !
ولأني كنت ليلتها عند أخي، أعطيته الجوال فوصف المكان للسائق، كانوا جميعا _ أخي وعائلته وزوجتي يظنون بأنهم سيحضرون إلى المنزل ليصوروني فيه، وحين علموا بنيتي الذهاب إلى الأستوديو، ثاروا وأثاروا معهم مخاوفي .
ما كان يمكن لي أن ارفض، لكن الطريق إلى برج الشروق كانت موحشة، ومرعبة، كنت أتذكر خلالها كل المشاهد المختزنة في الذاكرة للسيارة المحترقة ( المفحمة ) بفعل صواريخ الاباتشي والاف 16، التي كانت تصطاد كثيرا من قادرة وكوادر الفصائل الفلسطينية المسلحة في شوارع غزة، على مدار سنوات خلت .
لحظة خطرة
منذ سنوات وأنا اخطط مع صديقي د. عاطف سلامة، للذهاب إلى روسيا للبحث عن غسان كنفاني في معهد الاستشراف، فتأخذنا مشاغل الأيام والعمل وحتى الكسل، إلى أن ينه هو رسالة الدكتوراه في الإعلام، ثم ننغلق كلانا معا _ منذ عامين في إسار غزة .
أن تجيئني الدعوة إلى " روسيا اليوم " من سائد السويركي في ذلك المساء من خامس يوم للحرب، كان مفاجأة مرعبة، كنت أظن انه يمكن أن يأخذ مني ما يريد عبر الهاتف، لكنه صرح لي بأنه يريدني في الأستوديو، بعد نشرة العاشرة، أجبته باني لا املك سيارة، فرد بأنه سيرسل لي واحدة مع السائق، وما علي سوى أن اصف له المكان حيث أنا !
ولأني كنت ليلتها عند أخي، أعطيته الجوال فوصف المكان للسائق، كانوا جميعا _ أخي وعائلته وزوجتي يظنون بأنهم سيحضرون إلى المنزل ليصوروني فيه، وحين علموا بنيتي الذهاب إلى الأستوديو، ثاروا وأثاروا معهم مخاوفي .
ما كان يمكن لي أن ارفض، لكن الطريق إلى برج الشروق كانت موحشة، ومرعبة، كنت أتذكر خلالها كل المشاهد المختزنة في الذاكرة للسيارة المحترقة ( المفحمة ) بفعل صواريخ الاباتشي والاف 16، التي كانت تصطاد كثيرا من قادرة وكوادر الفصائل الفلسطينية المسلحة في شوارع غزة، على مدار سنوات خلت .
سما تخاف من الصواريخ
منذ رشقة الصواريخ الأولى، وحيث كانت " رهف " التلميذة في الصف الثالث الابتدائي في المدرسة حينها، وقد أصيبت بالرعب جراءها، رغم أن جارتنا أم شادي " قطعت لها الخوفة "، وهي تصر علي أن نغادر منزلنا، الذي هو عبارة عن شقة في الطابق الخامس من البرج الأول من أبراج الفيروز المقابلة للمشتل، الموقع الذي كان يتبع المخابرات العامة، ثم أحالته حماس إلى معتقل من سلسلة " غوانتانامو " للفتحاويين، ومن سار على هواهم، كذلك مستودعا على ما يبدو للذخائر، وهو يعتبر احد بوابتي مخيم الشاطئ، غير بعيد كثيرا عن البحر ولا عن منزل إسماعيل هنية، رئيس الوزراء السابق، بل ويتوسط موقع المشتل مخيم الشاطئ ومبنى " السفينة " موقع المخابرات العامة المركزي الذي يعتبر حصنا منيعا . حين فعلت نزولا عند رغبة ابنتي التي لا أقوى على رد طلب لها، زاد على ذلك إيماني بالحكمة التي تقول " خذوا فالكو من زغاركو " . وذهبت بهت وبأختها وأمهما إلى بيت أخي في " التوام " _ احتضنتني ابنة ابن أخي " سما " ابنة العامين، لحظتها غمزني أبوها بان اسألها : لم اختبأت في الخزانة يا سما ؟
ردت بلهجة متلعثمة تتفق مع طفولتها المبكرة
عثان الثواريخ !(أي بسبب الصواريخ)
السبت : بدء الهجوم
كان يوماً خاصاً، حيث ذهب الأولاد إلى أول امتحانات الفصل الأول من السنة، بهمة ونشاط، وقبل أن يحل موعد عودتهم بقليل، تفاجئ الصواريخ الجميع، بالسقوط في لحظة واحدة، في كافة الأرجاء، وينتاب القلق كل من في البيوت على أولادهم في المدارس.
بعد وقت كانت " شهد " الطالبة في الأول الثاني قد عادت على متن السيارة التي تذهب بهم /ا وتعود، فيما كان السائق نفسه، الذي لم نستطع الاتصال به، حيث كان أول ضحايا القصف جوال على التجوال بحريته المعتادة، يذهب إلى " رهف " التلميذة في الثالث الابتدائي، التي انتاب أمها القلق لدرجة أخذت معها تولول، فما كان مني إلا أن خرجت باتجاه مدرستها لأعود بها، إن كان دون مكروه أصابها، لم أجدها، قالت لي المعلمات بأنها قد " روحت " عدت للبيت على عجل، وكانت المسافة مسيرة ربع ساعة، لا أكاد أقوى على مواصلة السير، وحين وجدتها قد سبقتني إلى البيت، شعرت بأول الارتياح .
اتصل بي " أبو جابر " أخبرته بأن أحدى الغارات كانت على المشتل الذي لا يبعد أكثر من 500 متر عن الأبراج التي أسكن فيها، وأن تقديري،بعد أن كانت عناصر الأمن قد أخلت المكان بأن قصف مثل هذه المواقع إنما هو رسالة، لكن توالي أخبار الضحايا بالعشرات، ثم بالمئات خلال دقائق معدودة أكد النية المبيتة على إيقاع عدد كبير من الضحايا.
ساعات معدودة، مع استمرار القصف كان السكان وكأن أحداً ما طلب منهم ذلك يلجأون إلى منازلهم، فيما يشبه منع التجول التام، وحيث تنقطع الكهرباء، فإن كل مواطن وضع على أذنه سماعة وصلها بجواله، وتنقل بها بين الإذاعات المحلية .
ثم انهالت علينا المكالمات المحلية والخارجية، التي باتت صلتنا الأساسية بالعالم الخارجي .
المقطع الثاني (2) مكابدات
الموت في بيوت الله!
إذا كان الله قد استراح في اليوم السابع، بعد أن خلق الكون كله في ستة أيام، وإذا كان الإسرائيليون قد استوحوا من سفر التكوين أسطورة نصرهم في حرب الأيام الستة عام 1967، فان الفلسطينيين " ملوا " من الحبس طيلة الستة أيام الأولى على بدء الحرب على غزة، وكعادتهم في اجتراح معجزاتهم الخاصة، وكما توقعت بالضبط، انتظروا حتى كان يوم الجمعة، فخرجوا جميعا للصلاة في المساجد، رغم أن بعض هذه كان قد قصف خلال الأيام التي سبقت ذلك اليوم . علق احدهم بالقول بأنه إذا كان لابد من الموت بلا بأس أن نموت في بيوت اللة !
وهكذا خرجت الناس من بيوتها التي تحولت خلال الأيام الأولى إلى سجون لهم، ثم صارت تقليدا بعد ذلك، ومنذ اليوم التالي .
دبت الحياة في النهار في غزة، حيث كنت ترى الناس تجوب الشوارع والأسواق، كذلك السيارات تسير في الشوارع منذ التاسعة أو العاشرة حتى الخامسة إلى أن تغيب الشمس، بعد ذلك يبدأ القصف ويكون الليل مسرحا للطائرات ( ال أف 16 والاباتشي ) ولحرب المواجهة بين الديناصور والفراشة !
الطناني على الهواء مباشرة
بمناسبة كتابتي للمقال " غزة بين نارين " في اليوم الرابع للحرب، استضافني الصحفي الشاطر محمد المدهون على إذاعة صوت الشعب، لأشرح ما اقصده بالنارين، وكان يحمل أكثر من بطيخة بيد واحدة، ويدير في الوقت ذاته الذي يتحدث إلي فيه شبكة المراسلين الميدانيين من أكثر من موقع ساخن .
صادف تلك اللحظة سقوط خمسة أو ستة صواريخ على مجمع الوزارات في تل الهوى، شعرت أني على الأرض مع المراسل باسل الطناني ، من شدة قدرته على الوصف ومتابعته ومن مرافقة أصوات القصف لصوته المتهدج، حين ظهرت أمامه فجأة عربات الإسعاف الثلاث دون سائقين، واخذ يصيح مطالبا المطافئ والدفاع المدني للإسراع إلى المكان، ثم كانت اللحظة العصيبة، حين توقف جواله هم عن الإرسال .
محمد المدهون يقول فقدنا الاتصال مع باسل، وأنا قلبي يدق وجلا على الشاب . بعد خمس دقائق كان يعيد الاتصال، لكن من مشفى الهلال في آخر الشارع، حيث كان قد أصيب في يده.
عن الكتابة في ظل القصف
اتصلت بي يوم السبت الثاني ( اليوم الثامن للحرب ) ظهرا، عند الساعة الثانية تقريبا، الصحفية المجتهدة في صحيفة الغد الأردنية عزيزة علي _ التي أمازحها عادة بالقول أنت عزيزة علي جدا _ وسألتني عما يكتب الكتاب في غزة من قصائد وقصص !
فاجأني السؤال جدا، ليس لأنه ذكرني بما كنا _ أنا وزملائي _ نفعله قبل عشرين سنة، حين كنا نسأل الكتاب عما كتبوا في الانتفاضة عام 87، ولا لأنه _ أي السؤال _ يشير إلى انتماء عزيزة إلى عصر جميل، كانت فيه المقاومة تحترم الكتاب والفنانين، الذين بدورهم كانوا يجدون لهم مكانا في خنادق المواجهة، ولكن لان الكتاب فعلا غائبون عن المعركة، ليس هذه الأيام فقط، بل قل منذ أكثر من خمس عشرة سنة، بل وغائبون عن كل المعارك صغيرة كانت أم كبيرة . أجبتها بالطبع _ وأنا لا اعجز عن الخروج من مثل هذه المواقف المحرجة عادة _ بان المطلوب من الكتاب أن يعلنوا موقفا ثم يمارسون فعلا، وبعد ذلك يفكرون في كتابة قصص وقصائد متحررة من تبعية الثقافي للسياسي، ومن سذاجته و كذلك متحررة من ذواتهم المهشمة، وان يفكروا جديا في جدوى وجودهم أصلا وطبيعته، ثم لم تفتني الإشارة إلى نفر من الكتاب الذين انخرطوا في " الإعلام " يحاولون تصويب " وجهة " الرصاصة الطائشة، وإعادة حالة التصويب للكلام .
* ألعاب حيّة!
بعد طول فترة الحصار، وبعد تفشي ظاهرة طارئة غريبة ن بعد أن تناثرت القاذورات في غزة، بعد إضراب عمال النظافة في بلدية غزة، إحتجاجاً على عدم تلقيهم مرتباتهم، بعد وصول حركة حماس إلى سدة الحكم، عام 2006، تكاثرت الفئران في حاويات " الزبالة " فما كان من البلدية سوى أن " دست " سموم الفئران فيها، وبدل أن تموت الفئران ماتت القطط، التي كانت لا تجد في تلك الأكوام قوتها، فحصلت على أسباب موتها .
خلال فترة الحصار اختفت ألعاب الأطفال المستوردة، فما كان من أهل غزة سوى قول المثل : الفاضي بيعمل قاضي – وربما أيضاً لسبب آخر، هو أن الضيف والمستضيف يتعاطف تلقائياً مع كل الضعفاء، وهل هناك ما هو أكثر من وداعة من القطط ؟ ما كان من أهل غزة إلا أن اندفعوا لاقتناء القطط، التي وجدت بين أيدي الأطفال والصبية ملاذاً آمناً، وفرصة لحمايتها من الانقراض الذي يبدو وشيكاً، حتى صار لها ثمن، فهذه قطة تباع بمئة دولار وأخرى بمائتين، وهكذا صار الجيران يوصون من يقتني قطة سيامية، على واحد من أبنائها، لمجرد أن تلد، ثم بات الأمر " تجارة " مربحة لبعض العاطلين عن العمل، أو هواة الاتجار بالحيوانات الأليفة .
بارقة أسماء
منذ سنوات وأنا احلم بجواري " ليلة القدر " وأزقة أصيلة، آسفي، فاس، الرباط، مراكش، وأغادير، وظل الحلم يراودني، ولم يشأ لي اللة أن يتحقق رغم عديد الدعوات التي تلقيتها خلال السنوات القليلة الماضية، وكان يحول بيني وبينها إغلاق المعبر، منذ تم أسرنا نحن المليون ونصف المليون مختطف في غزة، مقابل جندي إسرائيلي واحد، مراهق يحمل الجنسية الفرنسية واسمه جلعاد شاليت .
إلى أن اتصلت بي القاصة / الصحفية البهية أسماء الغول، ثم جاءتني بعد دقائق مع طاقم القناة المغربية الأولى، وسجلت معي حوارا حول تداعيات الحرب البرية، كانت خارطة فلسطين " كاملة " بكل مدنها وقراها تنتصب فوق رأسي، تخيلت الصورة التي ستبهج شعبا يعشق فلسطين، ويطرب لأشعار محمود درويش ولاغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، بدوري انتشيت للفكرة، فأخيرا ستحل صورتي على ارض " الرباط "، كانت بارقة مرت كطيف جميل ضمن أيام قاتمة، لكن غلالة الكآبة، بتبعتها، مجرد أن انتهى المصور من تحريك شريطه المرئي . ذلك أني لن أراه _ أنا _ لا هناك ولا هنا، فالكهرباء مقطوعة منذ أيام، ومن يدري متى تعود ؟ !
انقطاع التواصل
بعد مرور أسبوع على بدء الحرب على غزة، انقطعت الكهرباء بالكامل، وبذا فقد انقطعت أسباب الحياة تقريبا، وبمعنى أدق انقطع التواصل مع العالم الخارجي، بعد أن كانت الأسباب المرتبطة بالكهرباء _ الانترنت والفضائيات _ حيلة غزة المحاصرة، للخروج الافتراضي من دائرة العزلة والاتصال مع الخارج .
عبء إضافي آخر يحل على كاهلي، مرت الآن أربعة أيام، وأنا أتساءل عن بريدي الالكتروني، الذي يتلقى أكثر من مائتي رسالة الكترونية يوميا ؟ !
ما يخفف عني هو التوقع بان هشام ساق اللة، الموجود بغزة أيضا، لن يتمكن من إمطار اميلي بوابل رسائله التي لم أقرأ منها واحدا، منذ بدأ في إسقاطها فوق رأس بريدي الخاص . أما " شرفات " وبعد أن استنجدت بزميلتي وشريكتي فيها " مها دعيس " جاءني صوت صديقي وشريكي د. تيسير مشارقة المسئول، شعرت بالخروج من دائرة الاستسلام حين أعطيته اسم المستخدم وكلمة المرور، رغم معرفتي باني القي على كاهله
عبئا آخر .
الجوال سيد الموقف
بعد الانتشار السريع خلال الأعوام القليلة الماضية لأجهزة المحمول، جاء وقته أيام هذه الحرب، وقد كنت لا اخفي امتعاضي من اتساع دائرة انتشاره، خاصة بين أيدي الصبية الذين يكتفون بملكية " الرنة " وبالكاد يستخدمونه للحصول على خدماته الأخرى، غير المكالمات .
لم يكف جوالي لحظة واحدة عن تلقي كل أشكال الاتصالات من أصدقاء ومن صحفيين ووسائل إعلام، البعض بالطبع ليطمئن، والبعض ليقف عند تقديري لسير الأحداث، وآخرون لتسجيل آرائي .
ثم تحول الجوال إلى مذياع، فكل مواطن تقريبا، يضع سماعته في أذنه ويتنقل بين الإذاعات المحلية، يتلقط أخبار القصف الجوي، ثم أخبار الاجتياح البري، لا احد في غزة يمكنه أن يشاهد الفضائيات، وحيث أن غزة الفقيرة متخلفة _ بدرجة ما _ عن المحيط الغني، فباستثناء فضائيتي الأقصى وفلسطين ( بوقي التجاذب والاستقطاب الداخلي ) فليس للفصائل سوى إذاعات محدودة نطاق البث ( بالكاد يغطي قطاع غزة ) ومن يسمع الإذاعات في العصر الفضائي؟!
ما دامت غزة قد عادت إلى استخدام " الكارات " _ العربات التي تجرها الحمير _ كوسيلة تنقل ونقل، ومادامت النساء عدن لاستخدام بوابير ولمبات الكاز، بديلا عن الغاز والكهرباء، يصبح حضور الإذاعات أمرا عاديا للغاية .
ثم بعد قصف ثلاث من أبراج شركة جوال، ومع انقطاع الكهرباء، كف جهاز الجوال عن كونه وسيلة اتصال _ تقريبا، إلا ما ندر _ وبقي مجرد جهاز راديو فقط !
دون كيشوت الشمال
ماذا يمكنني أن افعل أكثر من كتابة المقال نصف الأسبوعي للأيام، وأكثر من تلبية دعوات وسائل الإعلام للتعليق على أحداث الحرب، وأكثر من المبادرة مع الزملاء في شبكة الكتاب الفلسطينيين للرد على العدوان بإعلان الوحدة الداخلية فورا، وأكثر من متابعة تحديث " شرفات " بنشر أخبار الكتاب والفنانين العرب المتضامنين مع غزة ؟
الحرب ومن قبلها الحصار منعاني من متابعة كتابة " السيدة الأولى " و " الجنرال " وعدد من القصص القصيرة وإخراجها، وعطلا مشاريع متعلقة بالشبكة وحتى بفاعلية لجنة غزة الخاصة باحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية 2009 .
ليس مهما، ماذا يمكن لي أن افعل أيضا ؟ اجلس مع الجيران، ارفع من معنوياتهم وافتح لهم أفقا من الأمل، أحضهم على التماسك والتوحد، وأدعو إلى تشكيل اللجان الشعبية : للمقاومة، ولإدارة شؤون الناس ؟
فكرت أن احمل أوراقي وقلمي وان اذهب إلى واحدة من الإذاعات، طالبت بتشكيل مكتب إعلام موحد، يشرف على الخطاب الإعلامي، لا حياة لمن تنادي _ حالة من الارتجال والفوضى _ هي سمة غزة العامة على أي حال _ .
لو كنت املك رشاشا ؟ ضحكت من الفكرة، كنت سأبدو _ في حرب الصواريخ المتبادلة _ كمن يطلق التصريح لصد الصاروخ _ كدون كيشوت الشمال، الذي كان يرتدي البدلة العسكرية ويضع جعب الرصاص على صدره ويحمل الكلاشن كوف ويقف على مدخل المخيم، لا يرابط، لكنه كان يعتقد بأنه " يرفع " معنويات المقاومين !!
المقطع الثالث (3) أحضان دافئة
* دموع فيروز
قبل أسابيع كانت إذاعة الجزائر الدولية، قد اتصلت بي لأعلق على مواقف سياسية خاصة بالشأن الفلسطيني، وبصفتي " محللاً " سياسياًِ، وقد تكرر الاتصال عدة مرات، وكانت مذيعة اسمها فيروز، تطلبني عبر الهاتف، وتخبرني برغبة الإذاعة بإجراء الاتصال .
فاجأتني فيروز التي بالكاد أعرفها، فأنا لا أعرف اسمها الثاني ٍ، ولم أرَ صورتها، ولا أعرف شيئاً عنها، عمرها، حالتها الاجتماعية، إلى آخر ما هنالك، سوى أنها مذيعة بتلك الإذاعة الجزائرية، وربما لأني كنت الوحيد الذي تعرفه " وتعرف رقم هاتفه النقال، فاجأتني باتصالها في اليوم التالي ليوم الحرب، لا لتطلب مني حديثاً إذاعياً، بل لتطمئن على أني بخير ...ثم تجهش بالبكاء ....
مشاعر فيروز الإنسانية الجياشة، عقدت لساني، وأقنعتني بأنها أبلغ رد على الحرب الإسرائيلية من كل التصريحات النارية، والبيانات والمواقف على مجمل تفاصيل الخارطة السياسية العربية الإقليمية، من حسن نصرالله إلى آخر مندوب لأصفر دولة عربية في الأمم المتحدة .
* أخوك عبد الرحمن
منذ وقت حرصت ولأسباب مختلفة، على اقتناء جهاز الاتصال ( الهاتف) الأرضي فيه شاشة تظهر لي رقم المتصل، لأتجنب " المتسكعين " وهواة الثرثرة وضياع الوقت، بعد أيام من اندلاع الحرب، ومع صعوبة الاتصال بالهاتف النقال، ثم استحالة، تحول " الأرضي " الذي كان منسياً ومهملاً وثقيل الكلام، إلى وسيلة الاتصال الأساسية مع العالم الخارجي، وكان يوم رن فيه جرس هذا الهاتف، كان الرقم يشير إلى مكالمة خارجية، وبالتحديد تحمل كود السعودية، ظننت أن من يطلبني إما إذاعة الرياض، المعتادة على الاتصال بي، أو أختي المتزوجة والمقيمة في الرياض، فاجأني الصوت بقوله: أنا أخوك عبد الرحمن كان مجرد مواطن عربي سعودي، من الجزيرة العربية، يطلبني كوني مجرد مواطن غزي، ليطمئن على ويرفع من معنوياتي، يقول نحن معكم، قلقون عليكم، ....ياالله، الدم لا يصير ماءً، صوت عبد الرحمن كما دموع فيروز، صار أبلغ وأجمل موقف أتلقاه، ولا أحد سواي يسمعه، فهو خافت، لا إدعاء فيه ولا صخب ! .
* أم الدنيا وأم العرب
ليلة مناقشة مجلس الأمن للقرار الذي اتخذه في اليوم التالي وحمل الرقم ( 1860 )، حملت أملاً لنا ظل يراودنا طوال أسبوعين، وهو أن تتوقف آلة القتل عن الاقتراب أكثر من الأجساد الحية، طوال تلك الليلة، وأنا أتأمل عظمة مصر ورئيسها، فرغم ما يرشقه بها العديد من مطلقي " التصاريح " النارية ودون كيشوتات العصر، من قليلي العلم والوعي والأدب، لا تكف من البحث عما يمكن أن يخرج أهل غزة من المأزق، ويوفر عليهم ما يمكن توفيره من القتل والعذاب، تأكدت حينها لم سماها أهلها بأم الدنيا، وتيقنت أنها لو كانت كذلك، فيلغينا نحن أن نكون أماً للفلسطينيين .
كذلك لفت انتباهي ما ترسله المملكة العربية السعودية من مواد إغاثة، بهدوء ودون انتفاخ أوداج أو إعلانات نارية، على طريقة مستحدثي السياسة هنا وهناك، استعرضت ما فعلته المملكة وما تمثله مصر، حيث تفرد الأولى عباءتها على أشقائها العرب، كأب مسئول، فيما الثانية هي أم الجميع الرءوم،لأتوصل إلى النتيجة : بأنه إذا كانت مصر أماً للدنيا فإن السعودية تستحق لقب الشقيق الأكبر للعرب جميعاً، وأن ملكها خادم الحرمين، يستحق أن يطلق عليه لقب " أب العرب .
المقطع الرابع (4) غضب
* إعلام أحمد سعيد
مع موقف إرسال الفضائيات، أو بمعنى أدق بعد التشويش للبث في أجواء قطاع غزة، اضطررنا إلى وضع السماعات في آذاننا، والتنقل بين محطات الإذاعة المحلية، الأقصى وإخوانها، من براق وقدس وشعب، ولأني إلى حدود ما " محرمين سياسيين " على سبيل الدعابة، صرت أبحث عن " نشرات أخبار " عبر أثير هذه الإذاعات،باستثناء ما يلتقطه مذياع المحمول من بث الـ BBC ذكرتني تلك الإذاعات الفتية بإعلام أحمد سعيد " مع الاعتذار للصحفي المصري الذي كان قد بشرنا بنصر مؤزر عام 67 – قبل أن تندلع الحرب -، يبدو أن رؤوسنا كثيرة فارغة قد كبرت، بعد أن انتفخت جيوبها من تجارة الدم، ما دام هناك نم يدفع حتى تكون غزة أضحية أو قرباناً على مذبح الطوطم القطيعي، ما زالت " المقاومة " بخير ما دام قادتها مختبئين تحت الأرض، غير عابئين بمئات الضحايا من المواطنين الفلسطينيين الذين يسقطون تباعاً، في لعبة المقامرة السياسية الدائرة لتحقيق مشاريع سياسية آخرها – تحقيق ما ناضل الفلسطينيون عقوداً من أجله : إقامة الدولة المستقلة ! .
* لغزة وجه ٌ آخر
نتابع بالطبع الأخبار والمواقف والتصريحات، ونحن لسنا محايدين ولا أرجلنا في الماء البارد، بل أجسادنا في دائرة النار والاستهداف، ولا يدري أحدنا إن كان سيعيش بعد انتهاء هذه الحرب أن الموت المباغت سيختطفه في أية لحظة، نسمع القصف ونسمع عن " مقاومة " ولا نرى أحداً، لا مطلقي قذائف الدبابات ولا صواريخ الـ أف 16 والأباتشي، ولا مطلقي الصواريخ المضادّة، نسمع فقط تصاريح نارية من دمشق ومن الضاحية الجنوبية لبيروت، وإنشاءً لغوياً من الإذاعات المحلية، عن مناطق " ساقطة أمنية " تقدمت فيها آلة القتل الإسرائيلية، وعن " صمود للمقاومة " لا أحد يعبأ لسقوط الضحايا أو يعتبر ذلك خسارة ما، وكأن الحرب بين طرفين لا علاقة " للطرف الثالث " الضحايا بها، ولا تؤثر على سيرها .
غزة إذاً بمعظم سكانها مشدوهة تفغر فاها لمنطق الحرب الذي يتعامل معها " كموضوع "، غزة تأكدت من كونها مختطفة في هذه الحرب، لذا فهي ليست كمان كان حالها عام 87، لا تحتضن أبناءها الذين لا يبدون الوفاء لها، ولا الحرص على حياتها، غزة تختزن الغضب ضد الجميع الآن، من " المسفر في بلد عقوق الوالدين، إلى كل من يعبث بحياتها من أبناء وأشقاء، إلى آخر جندي إسرائيلي ستطأ قدماه يوماً حبة من ترابها ! .
مقاومة تعيد الاحتلال!
كانت الأسئلة التي تراودنا خلال سنوات مضت عن مفهوم المقاومة، حين كانت مواقع الاحتلال ومجموعات مستوطنيه تملأ غزة والضفة الغربية، ويصرّ " المقاومون " على تجاوز كل هذه المواقع وتلك التجمعات إلى تل أبيب والقدس الغربية لاستهداف " المدنيين الإسرائيليين، وعن جدوى "حصر " المقاومة في الشكل المسلح، وضمن الإطار العصابي، بعد أن عرف الفلسطينيون بخبرتهم نجاعة الانتفاضة الشعبية عام 87
وبعد أن تحررت غزة، حتى لو وفق ما يدعيه البعض، بأن ذلك لم يحدث وفق خطة شارون "الانسحاب من جانب واحد، لتأكيد احتلاله للضفة الغربية، بتنا نتساءل عن جدوى إدارة الظهر لإعمار غزة وإطلاق مشاريع التنمية فيها بعد الظفر بـ 40% من أراضيها التي كانت مستوطنة، وبعد اكتشاف حقلي الغاز اللذين قدرت أوساط الاختصاص بأنهما سيدران على الخزينة " مليار دولار سنوياً " والاستمرار في " تسليح المجموعات العسكرية " التي تنامت حتى ظهرت مجموعات أكثر تعصباً لم تطلق رصاصة واحدة من قبل وحتى من بعد على إسرائيل .
ثم ازدادت دائرة التساؤل عن جدوى " إطلاق " – المقاومة – من غزة، عبر صواريخ يسميها الرئيس الفلسطيني عبثية، رغم تكديس حماس للأسلحة في الخليل، التي فيها أسوأ مستوطنة يهودية ( هددت لاحقاً بإحداث انقلاب على السلطة في الضفة الغربية بها ) . بعد إعلان الحرب على غزة، اتسعت دائرة السؤال وتحولت إلى استغراب من مقاومة تعيد الاحتلال بدل أن تكنسه!
قطر: دولة عقوق الوالدين
محيرة هذه الدولة التي أسمها قطر، هي بالكاد بحجم قطاع غزة، وحتى أن سكانها أقل عدداً من سكان القطاع، هل هي أخوية، أم قاعدة أمريكية ؟ دولة فيها الجزيرة أم هي دولة الجزيرة، من يحكم الآخر حمد أم القرضاوي ؟
هذا كله ليس مهماً، المهم هو السؤال المتعلق بذلك السبب الذي يدفع قطر إلى كل هذا الطموح الذي يذكر بطموح " قرطاجة " وما سر تطلعها الغريب العجيب والمفاجيء " بغزة " قد يكون السبب أن القرضاوي يقيم في قطر فيما تحل مكانته في غزة، لكن سببا آخر يبدو أكثر وجاهة،وهو أن انقلاب غزة على " أولي الأمر " يجد هوى لدى أمير أنقلب على والده ! .
في أحد أيام الحرب، ربما كان التاسع، وبعد أن رد مجلس الأمن مشروع قرار عربي لوقفها .
سارع أمير قطر للتأكيد على دعوته لعقد اجتماع قمة عربية، فيما الجميع يدرك ما يمكن أن ينجم عن مثل هذه القمم ؟ البي بي سي التي أذاعت الخبر مرفقاً بمقاطع صوتية للأمير، أخذت جواباً من المسفر عن السبب الذي يحول دون طرد قطر لمكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي، يقلل بكلام مراوغ، وهاجم مصر بكلام لم يسفر عن إقناع رجل عادي مثلي .
وبقيت في الذاكرة صورة قطر فيها مشيخة متواضعة إلا من كيس النقود، تواصل التمرد على النظام الأبوي – الذي تراه الآن سورياً/ مصرياً – وهي جزء من النظام بالمناسبة، وتقدم فيها نموذجاً جديداً لمعنى الهوية بتشكيلها منتخباً على رأسه ولد يدعى سباستيان سوريا!
ملاحظة : كان يمكن لإجراء من نمط إغلاق مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي من الدولة أو إغلاق قواعد السيليه الأمريكية أن يحدث دوياً بقلب الطاولة الإقليمية، وكان يمكن لإجراء تكف فيه دولة تسير على سياسة " عقوق الوالدين " ويكف عن تكبير رأس حماس ومنعها من إجراء الحوار الداخلي، أن تفتح الباب للخليجية المنفردة خارج السرب الخليجي إلى قلوب الفلسطينين