الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ميادة مهنا سليمان

وَردةٌ أمْ شُوكولا؟

كُنتُ أذرَعُ الخيمةَ جيئةً وذهابًا، أقولُ لِنفسِي:

لا أُريدُ أنْ أغفوَ، ماذا لَو أَعلنوا الهدنةَ فجأةً؟

أطفاليَ الثَّلاثةُ نائمونَ، غبطتُ هناءَةَ بالِهِمْ، ونومَهُمُ العميقَ، تنهَّدتُ، فَأنا مُتعَبةٌ جدًّا، استُشهِدَ زوجي منذُ عامٍ، أحمِلُ وجعًا ثِقلَ الجبالِ، ومعَ ذلكَ أبتسِمُ، فَقدْ تبنَّيتُ حِكمةً كتبتُها:"سرِقةُ الفَرحِ منَ الحياةِ حَلالٌ"

وَكي أُنهيَ توتُّري قرَّرْتُ أنْ أكتُبَ، فأنا أعملُ مع صحيفةٍ أمُدُّها بمقالاتٍ أسبوعيَّةٍ.

لمْ تطُلْ حَيرتي عمَّ أكتُبُ؛ فالأيَّامُ السَّوداءُ الَّتي نعيشُها كافيةٌ لكتابةِ رواياتٍ، لا مَقالاتٍ فحسبْ!

عَنوَنتُ مقاليَ الجديدِ بِ " فجرٌ مُرتقَبٌ"، قلتُ فيهِ:

"يخفقُ قلبي كُلَّما قرأتُ كلمةَ(الهُدنة)، ينتابُني شعورُ طفلةٍ تنتظرُ فجرَ العيدِ، تحلمُ بالعيديَّةِ، بِالأراجيحِ، والألعابِ، والرِّفقةِ الجميلةِ.

كلُّ يومٍ نُمضِيهِ هُنا في المُخيَّماتِ بِألفِ يومٍ ممَّا يعُدُّهُ الآمِنون، ففي كُلِّ لحظةٍ خسائرُ بشريَّةٌ.

نحنُ الصَّابرونَ الَّذينَ نمتلكُ أطولَ نهرِ دمٍ في الوطنِ العربيِّ، نحنُ الَّذينَ رأينا الجُثثَ تُنقلُ في عرباتِ الدَّوابِّ، وجمَّدَ البردُ عروقَنا، فتدَّفَأْنا بِجَمرِ العزيمةِ.

اسألِ البيَّاراتِ الَّتي تفوحُ عبقًا لا يُدانيهِ أيُّ عِطرٍ فرنسيٍّ باذِخٍ، اسألْها عنْ أمجادِنا، نحنُ الَّذينَ كلَّما هدمَ الاحتلالُ بيوتَنا، بنَيناها بِحِجارةِ الصَّبرِ، ولطالَما طهَونا طعامَنا فوقَ رُكامِ مطابِخِنا، وكُنَّا سُعداءَ نتلذَّذُ بِشَمِّ روائِحِهِ الممزوجةِ بالنَّصرِ.

نحنُ الَّذينَ لا نشرَبُ فنجانَ قهوَتِنا على أنغامِ فيروزَ، بلْ على أزيزِ الرَّصاصِ، ونحنُ الَّذينَ ننشرُ غسيلَنا على حِبالٍ مُمتدَّةٍ بينَ عواميدَ مَكسورةٍ، كي نقولَ للشَّمسِ:

ها نحنُ ذَا، فانشُري أشِعَّتَكِ على قُمصانِ فرَحِنا، وعلى أثوابِ أملِنا.

مُشتاقةٌ للعودةِ إلى غزَّةَ، إلى حارتي، إلى رائحةِ زوجيَ المُعشِّشةِ في جدرانِ بيتِنا الَّذي قصَفَهُ العدوُّ، فرحَلَتْ روحُهُ إلى السَّماءِ، وبقِيتُ أتساءَلُ بِألمٍ:

كيفَ تركتَني، كيفَ تركتَ غزَّة، وأنتَ الَّذي كُنتَ تقولُ: "بعرفش أعيش غير في غزَّة"!

آهٍ.. اشتقتُ إلى شارع النَّصرِ، والرَّشيدِ، والحسبةِ، أريدُ أنْ أتسكَّعَ كالعاشقةِ في كُلِّ مكانٍ لهُ عبقُ الذِّكرياتِ في روحي.
أُريد أنْ أنسى حواراتٍ يوميَّةً أسمعُها، فتُوجِعُ قلبي؛ بِالأمسِ سمِعتُ طفلًا يسألُ أُمَّهُ:

ماما ما عاد يرجع بابا؟

 أبوك بِالسَّما يا حبيبي!

 بالسَّما، أنا بحبَّهاش مليانة صواريخ!

أريدُ أنْ أنسى قساوةَ الأخبارِ الَّتي تُمطِرُ الفيس بوك:

"ميرال وماريَّا بعدَ أنْ كانَتا تتقاسَمانِ غُرفةً واحدةً، استُشهِدَتا، وتشاركَتا كيسَ الأشلاءِ"!

"الشَّابَّةُ البكماءُ الَّتي ارتقى أهلُها كانَ آخِرُ ما بحثتْ عنهُ في جوجل: لقدِ اقتربتِ الهدنةُ"!

"ارتفاعُ عددِ ضحايا القطَّاعِ إلى أكثرَ منْ ثمانيةٍ وأربعينَ ألفَ شهيدٍ منذُ السَّابعِ من أكتوبر 2023"

" ارتقاءُ خمسةِ أطفالٍ جرَّاءَ موجةِ البردِ الشَّديدِ في مُستشفى (أصدقاءُ المريضِ) غربَ غزَّة"

"استُشهدتْ طَبيبةٌ شابَّةٌ عندما توجَّهتْ لأحدِ البيوتِ تُعالجُ مريضًا، تعرَّفوا عليها منْ خاتَمِها فقط!"

"أكلَتِ الكلابُ جُثَّةَ طفلٍ مِن ذَوي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ، أكلَتها بِالكاملِ، تعرَّفوا عليهِ مِن طَرفهِ الصِّناعيِّ"!

" أيقَظوهُ في وقتٍ مُبكِّرٍ، قالَ مُتذمِّرًا: اليومَ عُطلةٌ! حَوقَلوا، وَقالوا لهُ: أهلك كلّهُم استشهدوا"!

تنهَّدتُ، وتذكَّرتُ يومَ اختصَرتُ بيتي بِحقيبةٍ، وخرَجتُ تاركةً خَلفي ذكرياتٍ تنتحِبُ، ووجعًا لا حُدودَ لهُ.

يقولونَ إنَّ العودةَ إلى شمالِ غزَّةَ ستبدأُ بعدَ سبعةٍ أيَّامٍ، وستكونُ مِن شارعِ الرَّشيدِ فقطْ، اللهمَّ أعطِني فرحةَ تلكَ اللحظةِ، فإنِّي جائعةٌ إلى الفرحِ، وعَطشى لِلطُّمَأنينةِ"!

أنهَيتُ مقالي، ودَسَسْتُ نفسي في الفِراشِ، لكِنْ مَا كِدتُ أغفو حتَّى جادتِ السَّماءُ بِمطرٍ غزيرٍ، شعرتُ أنَّ الخيمةَ ستَتشقَّقُ منْ قوَّةِ حبَّاتِ المطرِ، وفجأةً انهَارَ قِسمٌ منها، فُذِعرْتُ، ونهضْتُ مُسرِعةً أُحاولُ إصلاحَهُ قبلَ أنْ ينهارَ القِسمُ الآخَرُ الَّذي يُظّلِّلُنا، لكنِّي فشِلتُ، لقدْ كانَ المطرُ الغزيرُ أسرعَ منِّي، فتبلَّلنا، وبدأَ الأولادُ في البُكاءِ، فازدادَ ارتِجافُ يدَيَّ، واضطِرابي، ولمْ يكنُ بِمقدوري أنْ أطلبَ المُساعدةَ، فَحَالُ الجميعِ منْ حالي.

وبينَما أنا أرتجِفُ بردًا، تنحنحَ شابٌّ خلفي- بدَا ثلاثينيًّا مِثلي- قالَ:

أختاهُ، ادخُلي إلى أولادِك هدِّئي مِنْ رَوعِهم، وأنا أُصلِحُها!
شَعرْتُ أنَّهُ ملاكٌ أرسَلهُ اللهُ لي، ابتهَجتُ، وانصرَفتُ إلى أولادي أضُمُّهُم إلى صدري.
تعذَّبَ الشَّابُّ حتَّى أصلَحَ خيمتي، وحينَ انتهى، شكرْتُهُ بِخجلٍ، فقالَ:
العفو أُختي، تلكَ خيمتي أُقيمُ فيها مع زوجتي، إنِ احتجتِ شيئًا نادِ: أبَا حُسامٍ فقط!
هَزَزتُ رأسي مُبتسمةً، وشيَّعتُهُ بِعينينِ دامِعتَينِ حتَّى دخلَ خيمتَهُ، فأشعلتُ نارًا نتدفَّأُ عليها، وغيَّرتُ ثيابَنا، وعُدنا للنَّومِ نحتضنُ بعضَنا.

في صباحِ اليومِ التَّالي أرسلتُ مقالي للصَّحيفةِ، وعُدتُ أتابعُ أخبارَ هُدنتِنا.
مرَّتِ الأيَّامُ فيما بعدُ رتيبةً، ولمْ تكُفَّ طلقاتُ العدوِّ، أو نيرانُ حِقدِهِ عنْ ملاحقةِ أمانِنا، وطُمأنينتِنا.
في ظُهرِ اليومِ الأخيرِ ما قبلَ الهُدنةِ رأيتُ أبا حُسامَ يخرُجُ، ويدخُلُ إلى خيمتِهِ، وقدْ بدَا لي مُضطربًا، فكَّرتُ أنْ أسألَهُ إنْ كانَ يحتاجُ شيئًا، وكنتُ في الحقيقةِ مُستغرِبةً، ليسَ منْ مُساعدَتِهِ لي، بلْ منْ شُعورٍ خفيٍّ بِأنَّني أعرِفُهُ مُذْ لَمَحَتْهُ عيني في تلكَ الليلةِ البائسةِ.

قلتُ لِنفسي:

رُبَّما لا أعرِفهُ، لكنَّهُ ائتلافُ أرواحٍ، فأنا مولعةٌ بالرُّوحانيَّاتِ، نهَضتُ تارِكةً أولادي يلعبونَ، ومضَيتُ إلى خيمتِهِ، أستطلِعُ حالَهُ، ناديتُ:
أبا حُسام!
خرجَ الشَّابُّ مُبتسِمًا، وقدْ بدَا الشُّحوبُ على وجهِهِ، فأشارَ:

تفضَّلي، ها هِيَ زوجتي، إنَّها مُصابةٌ بِحُمَّى النّفاسِ، وترفضُ أنْ أُحضِرَ لها طبيبًا!
ألقيتُ السَّلامَ عليها، وقلتُ لها: عليكِ العافيةُ، فَشكرَتني بِصعوبةٍ بالغةٍ!

بادرَني أبو حسامٍ، وسألَ عنْ حالِ أولادي، ثُمَّ أردفَ دامعًا:

حماهُمُ اللهُ لكِ، أنا كانَ عِندي (حُسامٌ وحنينٌ)، استُشهِدا عندما قصفَ الأوغادُ مدرسَتهُم!
ومولوديَ (حسَنٌ) ماتَ منذُ شهرٍ مُتجمِّدًا منَ البردِ!
تأثَّرتُ كثيرًا، وواسيتُهُ، التفَتُّ أُطيِّبُ خاطرَ زوجتِهُ، فرأيتُها ترتجِفُ، لمسْتُ جبينَها، وقلتُ:

حرارتُها مُرتفِعةُ جدًّا!
أمسكَ أبو حُسامٍ يدَها بِلهفةٍ قائلًا:
سأذهبُ لِأُحضِرَ لكِ طبيبًا، وتبقى جارَتُنا عندَكِ، هزَّتْ رأسَها، أمَّا هوَ فالتفتَ إليَّ مُستعطِفًا:

أتُمانعينَ أُختي؟
قُلتُ بِترحيبٍ: لا يا أخي، اتَّكِلْ على اللهِ!
تأخَّرَ حُسامٌ في العودةِ، وزوجتُهُ زادَ ارتفاعُ حرارتِها، ولمْ تنفعُ معَها الكمَّاداتُ، ولا كلماتُ مُواساتي، وفجأةً شهقَتْ، وأسلمتِ الرُّوحَ إلى باريها، فصرَختُ مذعورةً، واجتمعَ النَّاسُ قائلينَ:

لا إلهَ إلا اللهُ، غطُّوها ريثَما يعودُ زوجُها!
خرَجتُ أبكي، فيما أولادي قدِموا يصرُخونَ مُرتعِبَينِ، فعُدنا سريعًا إلى خيمتِنا.

حضَّرتُ بعضَ البطاطا المقليَّةِ لنا، وقسَّمتُ حبَّةَ بندورةٍ كبيرةً علينا نحنُ الأربعةُ، وقُمتُ بلفِّ سندويتشاتٍ للأولادِ.
قالَ ابني (تيمٌ) ذو السِّتةِ أعوامٍ:

مشتاق آكل البطاطا في الصَّحنِ زَي أيَام زمان؟
غصَصْتُ بِاللقمةِ، وكِدْتُ أبكي!
يا لَهُ منْ سؤالٍ سِكِّينٍ ذبَحَ قلبي، لكنِّي ابتسَمتُ رُغمًا عنِّي، وقُلتُ:
غدًا نعودُ إلى دارِنا يا حبيبي، ويعودُ كُلُّ شيءٍ كما كانَ!
حكَّتْ (تولينُ) أصغرُ العُنقودِ رأسَها، وقالتْ بِلُثغةٍ:

اثتقتْ لألعابي يمَّا!
نكّزَها ابنيَ الأكبرُ (تامرٌ)، وقالَ لها:
اليهود قصفوا دارنا، فِشْ ألعاب ولا إشي!
اشتعلَ الوجَعُ في صدري، آهٍ.. لو يعلمُ الأطفالُ أنَّ أسئلتَهم كازٌ يُرشَقُ على نارِ الحزنِ لمَا سألوها!

وأنا آكلُ اللقمةَ الأخيرةَ، تناهى إلى سَمعي صوتُ تكبيرٍ، فقُمتُ مذعورةً، وإذْ برِجالٍ يحملونَ جُثمانًا، اقتربوا، اقتربوا من خيمتِهِ، لا، لا أنا لا أصدِّقُ، أبو حُسامٍ الشَّهيدُ!

للتَّوِّ كانَ هُنا يحكي، يبتسمُ، يمشي، أيُّ قدَرٍ غريبٍ أنْ يرحلَ وزوجتَهُ في اليومٍ نفسِهِ؟

لمْ أتمالكْ نفسي، بكَيتُ كثيرًا، فيما تمَّ تشييعُ الجُثمانَينِ، ونقلُهُما بِجرَّارٍ زِراعيٍّ، ودفنُهما بِطريقةٍ توجِعُ القلبَ أكثرَ منَ الموتِ نفسِهِ.

في المساءِ كُنتُ حزينةً على أبي حُسامٍ، وزوجتِهِ، وحزينةٌ لِعدمِ استِطاعتي حُضورَ دفنِهما بسببِ ذُعرِ أولادي، ورغمَ ما أنا فيهِ مِنْ حُزنٍ، تسلَّلَ بصيصُ فرحٍ إلى روحي؛ فالهُدنةُ ستبدأُ غدًا، هل حقًّا نعودُ؟
وإلى أينَ نعودُ؟ إلى الرُّكامِ، والدَّمارِ، وشبَحِ الذِّكرياتِ؟
احتدَّيتُ فجأةً، وقلتُ، وكأنَّ العدوَّ أمامي:

نعم، نعودُ إلى الرُّكامِ، ولا نستسلِمُ، نعودُ فالأرضُ لنا!

في السَّهرةِ بدأتُ أتصفَّحُ الفيس بوك، رأيتُ نعواتِ شهداءٍ كُثرٍ، وأسماءَ بعضُها أعرِفُها، وبعضُها أجهلُها، الشَّيءُ الوحيدُ الَّذي صعَقني رؤيتي صورةَ جارِيَ الشَّهيدِ أبي حسامٍ!
ضَربتُ يدي على صدري، وبكيتُ قائلةً: إذنْ أنتَ؟
حدَّقْتُ في الاسمِ ثانيةً: (جواد عبد الله القَطشان) استُشهِدَ اليومَ بِرصاصٍ غادِرٍ!

نعم إنَّهُ جوادٌ النَّبيلُ صَديقُ الطُّفولةِ، وابنُ جيرانِنا في حارتي القديمةِ، جيرانِنا الطَّيِّبينَ الَّذينَ بكَينا يومَ تركوا الحارةَ، كمْ مرَّتْ سنواتٌ على ذلكَ التَّاريخِ، يا اللهُ سُبحانَكَ!

إذنْ لمْ يكنْ شُعوري خاطئًا بأنَّني أعرِفهُ، وفي الحقيقةِ كانَ جوادٌ اسمًا على مُسمَّىً، إذْ إنَّهُ لمْ يكنْ يأكلُ عروسةَ الزَّعترِ دونَ أنْ يقسِمَ لِي جُزءًا منها، حتَّى لو رَأى معي طعامًا، وفي إحدى المرَّاتِ أنقَذني منَ البللِ لمَّا كُنَّا عائِدَينِ منِ المدرسةِ والمطرُ غزيرٌ، يومَها كُنتُ قدْ نسيتُ مِظلَّتي في الصَّفِّ، فأعطاني مِظلَّتَهُ، وركضَ إلى بيتِهِ قائلًا:

سأسبِقُ المطرَ كي لا أبتلَّ!

أمَّا أنا، فوصَلتُ بعدَهُ غيرَ مُبلَّلةٍ، وأنقَذَني يومَها منْ توبيخِ أُمِّي.

بكَيتُ بِوَجعٍ، ونِمتُ، وَبعدَ ساعتَينِ استيقظْتُ مُجدَّدًا على صوتِ المطرِ القويِّ، وشعرْتُ أنَّ العاصفةَ تكادُ تخلعُ الخيمةَ، وقفتُ أحدِّقُ بِخيمةِ جوَادٍ، كنتُ كأنِّي أنتظرُ أنْ يأتيَ ليُصلِحَ خيمَتي، ثمَّ فجأةً، خُيِّلَ إليَّ أنَّهُ يبتسمُ مُشيرًا لِي: تعالَي!
على الفورِ أيقظتُ الأولادَ، وأخذتُهم إلى خيمتِهِ، فقدْ كانَت في جهةٍ مُعاكسةٍ للرِّيحِ، وبِذا آمَنُ ألَّا تطيرَ معَ الهواءِ، غطَّيتُ أولادي جيِّدًا، ونِمنا.

في الحُلمِ رأيتُ جوادًا يقِفُ أمامي، يبتسِمُ، ويدُهُ وراءَ ظهرِه كما كانَ يفعلُ في الطُّفولةِ، فابتسَمتُ قائلةً:
وردةٌ أمْ شوكولا؟ لنْ تسألَني هذهِ المرَّةَ، أجزُمُ أنَّها شوكولا، إذْ مَا نفْعُ الوردةِ في المخيَّماتِ؟
ثُمَّ إنَّنا هُنا نشتهي الحلوى، ونكتفِي بِشراءِ الطَّعامِ الضَّروريِّ.

ظلَّ جوادٌ صامتًا، فسَألتُهُ: ألمْ أُخمِّنْ؟

ابتَسمَ مُجدَّدًا، ومدَّ يدَهُ، فتفاجَأتُ، لقدْ ناوَلني مُفتاحَ القُدسِ، واختَفى!

استيقظتُ وقلبي يخفِقُ، بدأتُ أجولُ بِنظري في أرجاءِ الخيمةِ بحثًا عنهُ، أيقنتُ أنَّهُ كانَ حلُمًا، وبدأتُ أسمعُ أصواتَ غِناءٍ، وتهليلٍ، وقفتُ عندَ شِقِّ الخيمةِ، فرأيتُ بعضَ العائلاتِ قدْ قرَّرتِ العودةَ منذُ الصَّباحِ الباكرِ رغمِ برودةِ الطَّقسِ، أيقظتُ الأولادَ واتَّجهنا إلى خيمتِنا، بلَّلْنا بعضَ كِسراتِ الخُبزِ البائتِ بِالشَّايِ، وتجهَّزنا، بعدَ ساعتَينِ سِرنا مع مجموعةٍ فرِحينَ نغنِّي بِحماسٍ:

بلدي الحِلوة الغالية يا غزَّة
أرض المجد, وأرض العِزَّة

حمدتُ اللهَ أنْ منحَنيَ الحياةَ، لِأرى هذهِ اللحظةَ المُباركةَ، وشعرْتُ أنَّ جوادًا فرِحٌ لِفرَحي، جوادًا الَّذي أنقَذَني منَ المطرِ ثلاثَ مرَّاتٍ، شعرْتُ أنِّي أراهُ مِنْ بعيدٍ يبتسِمُ لي كعادتِهِ، يضعُ يدَهُ خلفَ ظهرِهِ، ويمُدُّها فجأةً، لكنْ:
لا وَردةٌ، لا شُوكولا، لا مُفتاحٌ هذهِ المرَّةَ، بلْ بُندقيَّةٌ!

تابَعتُ سَيري، كنتُ أغنِّي، وأنا أبكي، حارِقٌ دمْعُ الوجعِ، دمْعٌ على (أربعِ مِئةِ وواحدٍ وسبعينَ) يومًا في المُخيَّمِ، ما بينَ جوعٍ، وعطشٍ، وقهرٍ، وبلَلٍ، وعذاباتٍ لا تنتهي، اشتقتُ للبيتِ، للأمانِ، للطُّمأنينةِ، ازدادَ انهِمارُ دمعي، مشَينا طويلًا، تعِبنا كثيرًا، لكنْ وصَلنا تترافقُ خُطواتُنا معَ الزَّغاريدِ، وأهازيجِ النَّصرِ؛ لمْ يقتَلِعْنا العدوُّ، نحنُ الَّذينَ اقتَلعنا صبرَهُ، صَامدونَ نحنُ، ومُتجذِّرونَ، لقدْ عُدْنا، لقدْ عُدْنا يا حبيبتي غزَّة!

وقفْتُ أمامَ بقايا بيتِي، قُلتُ في عزيمةٍ: سأبنيهِ كَما لو كُنتُ رجلًا!

قُلتُها، وتذكَّرتُ جارَتي النَّحيلةَ (أمَّ منصورٍ) حينَ استُشهِدَ ابنُها، فَحملَتْ جُثمانَهُ، ودارَتْ بهِ في أرجاءِ البيتِ قائلةً: حملتَك في بطني يمَّا، وبحملَك شهيد، فِش نسوان بغزَّة، كُلنا رجالها يمَّا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى