همس الحجر
لم يبقَ منها سوى أطلال واقفة تتحدى الفناء .. أطلال مهجورة تلتهمها الرمال .. الغبار يغطيها منذ ألفي سنة . كانت في عصرها تمتلئ بالناس والحيوية والنشاط .. بوابات عتيقة تراكمت عليها مئات البصمات والوجوه والذكريات .. كلها غادرت ، وبقيت كشاهد إثبات وعنوان مدينة !
حينَ تمشي في الحضر تشعر بأنك تمشي مع التاريخ . مدينة وادعة ، جميلة .. وبوابات لا ينقصها سوى أبواب لأقرعها وأستأذن بالدخول إلى الماضي .. ما بقي منها حجارة فقط .. حجارة تحكي قصة مدينة كانت هنا .. أسوار وبقايا بيوت حزينة هدّها الغدر .
جئت اليوم لأسألها .. وهل يحق لي أن أسأل عن مدينةٍ كان ماضيها شمساً تستضيء أُمم العالم من حضارتها وتقدمها .. لكني لم أجد فيها سوى أحجار منقوش عليها حكايا زمن قد مضى .. أُحدق بأسى بالمدينة التي ركبت عربات الزمن وهربت بالنسيان !
تبدو حزينة أمامي .. وكأنها تحدثني عن أيام مجدها .. خطوات الحاضر تمضي بي نحو الماضي .. تأتيني الأصوات من بعيد .. تحملها رياح الزمن .. ويفيض كل شيء فيها بالبوح . هدوءً .. هدوءً في خطوات النحيب !
يستوقفني تمثال امرأة .. أدور حوله .. بيدي أتلمس دفء الحجر .. أجلس قبالته على حجرٍ كبير .. أتأملهُ وفي نفسي تساؤل : أيعقل أن تكون هي الخائنة الوحيدة ؟ فهناك حكاية غريبة عزوا فيها سقوط الحضر بيد الفرس إلى خيانة " النظيرة " بنت " الضيزن " ملكها العربي ، التي دلت " سابور " وجنوده على الطريق لثغر أسوار المدينة المطلسمة بعد أن جزع عن حصارها لمدة سنتين .
التساؤل يدور في فكري ويحفر بعمق .. ولا أهتدي لجواب ! أتذكر حكايتها .. صوت قوي يصخب في داخلي .. لماذا تُروى الحكايا دائماً عن خيانة المرأة ؟ الأسماء تتراصف في مخيلتي .. ولم يكن لهن ذنب سوى أنهن .. نساء قويات ! ومع هذا كنّ المشجب الوحيد الذي وضع الرجال والزمان هزائمهم عليه .. هل أذكر الأسماء .. أظن لا حاجة .. فالكل يعرفها !
وبينما الأفكار تأخذني .. وإذا بيدٍ تدير وجهي .. ألتفت خائفة ، فأنا واثقة بأني وحدي هنا.. اضطربتْ.. أتكون هي ؟ وأنظر إلى التمثال.. ليسَ في مكانهِ..لكنها لا تشبهها..استغربتْ !
لا تستغربي .. هم نحتوها .. هي تحمل اسمي فقط .
أهز رأسي بالإيجاب . جلستْ قبالتي على حجرٍ قريبٍ من حجري .. ومن جلستها عرفتُ بأنها الأميرة " نظيرة بنت الضيزن " .
بدت عيناها الهادئتان مفعمتين بالفهم وهي تقول :
تتساءلين عن خيانتي ؟
هذا ما وجدناهُ في كتبنا .
نظرت إليّ بعيون حزينة :
وهل كل ما يكتب ويؤرخ صحيح ؟
بالطبع لا !
وجدتها نظرة المحيّا ، بلون الزهر .. وشعرٍ من ذهب . تغوص ذاكرتي في بحر الحيرة .. حتى إذا ما عدتُ .. ونظرتُ إليها .. لا أُصدق الوجود الذي أنا فيه ، ويعيدني صوتها :
وماذا تقول كتب تاريخكم ؟
حَسَب الرواية ..
(( خرجتِ إلى السور فالتقيتِ صدفة بـ" سابور " وكان قد باشر بفكِ حصاره عن المدينة بعدما فقد الأمل في سقوط حصونها ، فنظرتِ إليه ونظر إليكِ حتى دَب العشق بينكما ، فما عدت قادرة على ضبط نفسكِ ولسانكِ .. وأخبرته بحالكِ وقلتِ له : " ما لي عندك إن دللتك على فتح هذهِ المدينة ؟ " . فقال : " أجعلكِ فوق نسائي ، وأتخذكِ لنفسي " . فبُحتِ له بسر الطلسم الذي يحمي مدينة أبيكِ . فقبلهُ .. وكان كما قلت .. ثم سار " سابور " معكِ إلى " عين تمر " جنوب غرب بغداد ، وسألكِ : " أنتِ ما وفيت لأبويكِ حسن الصنيع ، فكيف تفين لي ؟ " . ثم أمر ببناءٍ عالٍ ، فبني ، وأصعدكِ إليه وقال لكِ : " ألم أرفعكِ فوق نسائي ؟ " قلتِ : " بلى " . فأمر بفرسين جموحين ، فربط ذوائبكِ في ذنبيهما ، ثم استحضرا ، فقطعاكِ " .
كانت تصغي باهتمام .. حاولت أن تبتسم .. إلاّ أن وجهها الفاتن كان حزيناً جداً غارقاً بالألم .. لذا لم تستطع أن تبتسم .. فهزت رأسها دلالة الأسف .. وبدأت تتكلم بهدوء تاركةً بين الجمل فترات صمت .. صوت رخيم مشرب بمرارة الحزن . حدقتُ في عينيها ، قرأتُ الصدق . وتابعت حديثها بصوت أكثر عمقاً من ذي قبل .
وفجأةً توقفت عن الكلام وطرأ تغيير مفاجئ على ملامحها .. وتشبثتْ عيناها هناك .. فاستدرت وبشكل غير إرادي لأُتابع ما رأتْ وجفلت من أجلهِ .. لم أجد شيئاً ! عدتُ ببصري إليها .. فلم أجدها قبالتي .. اندهشت .. أين اختفت ؟ التفت .. لم أجد أمامي سوى تمثال المرأة
.. تمثال عيناه جامدتان مثبتتان في نقطةٍ ما !
اللحظات أومضتْ كبرق ومثلها انطفأت .. ويهتز كل شيء أمامي ، فأتمسك بتلابيب الحاضر !
عن موقع القصة السورية