

نقولا زيادة شَاهدٌ على عمق الآلام
أمام عميد المؤرخين، يَشتمّ الانسان عبق التاريخ، كما يشعر بوطأة الحضارة وأعباء المكان وعمق الزمان....
أمام أفرادٍ من نوعٍ اسطوري، يكتنزون دهرًا من أحوال الأمم،يبحث الفرد عن خبايا الاحداث وأبعادها، فينقلب البصرُ خاسِئًا وهو حسير...
أمام متصوفٍ فريدٍ، يطحن عمرًا من الخبرة الانسانية، والحكمة الخالدة يبحث الفرد بين شفتيْه عن حكمة تشهد على قلب كائن...
على قمة المئة عامِ تربَّع، شاهدًا على آمالٍ عريضة لأجيالٍ عبرت.... وآلام دُفِنَت في قلب شعب أسيرٍ كسير....
إنه شيخ المؤرخين نقولا زيادة ؛ التقيته آخر مرةٍ في مدينة العين بدولة الامارات، مشاركًا ومتحدثًّا في مؤتمر تاريخ العلوم العربية، فتى تسعيني لم يُغِّيَر عُنف العصر من عنفوانه شيئًا.
برفقة زيادة المؤرخ الحضاري؛ وعبد الوهاب المسيري الموسوعي العملاق وجدت نفسي في رحلة لمدة يومين.
بين مقدسي عريق وفلسطيني الهوى، تدور دردشة حول القضية؛ كنت أصغي وبي وله، وقد ارتفع منسوب العروبة في دمائي لينفجر اسئلة حول فلسطين الذاكرة والانسان.
أجابني زيادة بابتسامة ساخرة: "يا بنتي انا لم أحاول يومًا ان أخطّ مأساتي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تحديدًا... وفي وقت من الأوقات كتبت سيرتي واحوال يومياتي...وفيما عدا ذلك كتبت معاناة الانسان بشكل عام...ولم اؤرخ مرحلة... الانسان هو القضية "
مضيفا ممازحا "ما تفكري اني ختيار ولكن ذاكرتي جيدة "
كنت اقود السيارة متجهة من العين الى امارة دبي، ويجلس زيادة في المقعد الخلفي وقد اراح عصاه وبجانبه الدكتور نقولا فارس رئيس فريق البحث العلمي اللبناني يجاذبه هموم العلم وتاريخه، خرج زيادة عن الحديث الأكاديمي فجأة ليسألني ممازحًا: هل يوجد في برج العرب هذا "عرق" ؟
فأجبته: "يعني تريد أن تجد مشروبًا شعبيًّا في فندق السبعة نجوم يا حج نقولا؟
"يابنتي انه مشروب نبيل ونقي ولي معه ذكريات جميلة"
ثم سرد لي حكاية، نقلتني من حرّ صحراء دبي وقساوة "الابراج الطويلة " وعنف السيارات "الفارهة" التي نستقلها، الى القدس حيث رائحة القصعين وشجرة الزيتون، عابرا بي على جنح براق مخملي أبيض، أسكر وجداني واطرب الحاضرين.
ساعة طوت ذكريات شاب وفتى، ساعة حسبتها برهة لحلاوتها أخبرني فيها عن أدق تفاصيل الحياة المقدسية، عن طفولته في بيت المقدس وكروم العريش وعملية عصر العنب وتقطيره لتحويله الى "عرق"، مرورا بذكريات شابٍ شهد تآمر المستعمر الأنكليزي وعنف المحتل الصهيوني ودور "الوكالة اليهودية"، ساردًا الاحداث وكأنها سلسلة لا متناهية.
منطلقًا من اقدم عاصمة في التاريخ دمشق حيث أبصر النور، واصفًا سكة حديد الحجاز التي نقلته مع أمه الى فلسطين بعد وفاة والده، وصولا الى زهرة المدائن اقدس بقعة ارض، ثم حكايته في قرية ترشيحا بمدينة عكا حيث على حصونها وقف ممانعًا معلمًا في قراها، مستقرا اخيرا بيروت ست الدنيا وعروس العواصم التي تخرجّ من جامعاتها.
عند " برج العرب" لم يبدِ "زيادة" اهتمامًا بالفخامة والرخامة والأناقة والمدنية.. لقد بدا غير مكترث، نظر في وجوه من انبهروا هازئًا:" حياة الانسان ابسط والسعادة لا تقاس بالطول... فكلما تقدمت خبرة الانسان بالحياة.. كلما تواضعت احلامه واصبحت اقل تعقيدا...وربما بيت حجري من قرميد في القدس القديمة تعيد الحياة الى الروح... فرائحة التراب عقب المطر تسكر"
لم يخطر ببالي حينها ان ادون حديثًا يعده البعض دردشة مسافر عابر غير ان كل كلمة قالها كتبت بماء من ذهب في ذاكرة روحي لتولد من جديد في الذكرى الثانية على رحيله.
بعد عودته الى بيروت كتب لي رسالة بخط يده، ارسلها عبر الفاكس يشكرني فيها على الزيارة، تاركًا لي عنوان منزله ورقم الهاتف.
وللمرة الاولى عام 2006، عقدت العزم ان امضي كامل الصيف في لبنان، بعد ان كانت تتنازعني رحلات قصيرة اليه، واضعة على رأس مفكرتي عنوان زيارة "زيادة".
وقبل مرور 48 ساعة على وصولي بيروت، عند ظهر الاربعاء 13 تموز، انفجر أضخم عدوان عرفته البشرية، قاصفًا بصواريخ محرّمة الاستعمال دوليًّا، قنابل اختزلت كل أحقاد البشر وشرور الأرض.
ويشتد العدوان، وعلى وقع أزيز الطائرات الغازية ونحيب الثكالى وانين الاطفال، رحل نقولا زيادة في 27 تموز يرافق الشهداء مغمضًا عينيه على ابشع مجزرة لأرضٍ تعمدت بدماء اطفال قانا.
فإلى روحه الطاهرة في عليائها مني كلمات:
كأرزةٍ.... شامخةٍوأعْتَقِ زيتونةٍ....على مسَاحات الزمنِ عبرتْكَحمَائِمِ القُدْسِ...بياضًا.... ناصعًاتلوّن حَيَاةَ الحرّ.... رسمتْأبَيْتَ الا ان تُرافق الشُّهداءفي عليائهمومِن قَلبِ المَأسَاة....رَحَلْتْهُناك تسردُ الآنللارواح.... قِصَّةًمِن رِوَايَاتٍعلى مائدةِ التَّاريِخِ....تناثرتْمِنَ القُدْسِ... إلى دير يَاسِينمِن عَكا الى حَيفَا..مِن يَافَا الى...... الخَليلمن قانَا الى صَبْرامن بَيروت... إلى الجَليلمِن الدولة....العثمانيةالى الوكالة.... اليهوديةمن مستعمرٍ طامعٍالى أنظمة..... العبوديةبقيت شاهدًاعَلى أعنف.... حَقبةكأقدم صخرةٍ دهريةتَعْتَصِرُ الكُرومَنبيذَ كنائسِ بيتَ لحمٍوتمسح... بالزيتِجراح... الأقصىوتداوي بغصن الزيتون... ألم الجليلعلى اعتاب من رَحَلواانكسرت نجومفي السماءِ صَافّاتٍوملّت من دخانها الشّهبمِرآةُ رُوحِي اليَومترشفُ بَوحَ ذاكرةٍشهدت أهوالا وأهواللَوّنت كتاباتك مخيلاتمن بقوا... ومن رحَلوااطلقتها...الى احرار وأطفاللا ذنب لهم الا انهم كانوا هناكتنحني الأرواحتحيي نبل ذاكرةحملت حضارة بكل أمانةوما شوهت أبدًا تاريخ الأجيال.