نحو تأصيل نظرية مابعد–نصّيّة في قراءة الخطاب الأدبي
بين نصّيّة اللانصّ ولانصّيّة النص: نحو تأصيل نظرية مابعد–نصّيّة في قراءة الخطاب الأدبي
لم يعد سؤال النصّ، في الفكر الأدبي المعاصر، سؤالاً عن كيان لغوي معزول أو بنية منضبطة تستمد شرعيتها من انسجامها الداخلي فحسب، بل أصبح سؤالاً عن الكيفيات التي تُنتِج من خلالها اللغة أثرَها في المتلقي، وعن الآليات التي يتحوّل عبرها الخطاب من مجرد كلام مكتوب إلى نصّ حيّ. ومع التحوّلات الجمالية والمعرفية التي عرفها الأدب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وارتقاء النظرية الأدبية إلى مستوى مساءلة الثوابت، ظهرت مفارقات نقدية جديدة تسعى إلى إعادة تعريف ماهية النصّ. من أبرز هذه المفارقات: نصّية اللانصّ و لانصّية النص؛ وهما مفهومان يُعيدان تحديد المسافة بين النصّ وما يجاوره، ويبرزان الديناميّة الدقيقة التي تربط بين الشكل والمضمون، بين الظاهر والخفيّ، وبين بنية الخطاب وطاقته على إنتاج الدلالة.
لا تقتصر أهمية هذين المفهومين على كونهما صياغتين متقابلتين؛ بل يفتحان الباب لقراءة معمقة للحداثة الأدبية وللبنى الما بعد–نصّيّة، حيث تتخلخل الحدود، ويصبح النصّ فضاءً متحركًا يتشكّل باستمرار وفق شروط التأويل والاستقبال.
أولاً: مفهوم نصّيّة اللانصّ… حين تتحول الفوضى إلى بنية
يحيل مفهوم نصّية اللانصّ إلى قدرة الخطاب الذي يتعمّد خرق القواعد النصّية التقليدية على أن يتحوّل، رغم ذلك، إلى نص مكتمل من حيث الأثر والمعنى. ففي مقابل النص الخطيّ، الملتزم بالحبكة والمقولات السردية، تبرز نصوص تتفلت من التسلسل، وتفكّك اللغة، وتكسر التجنيس الأدبي، وتشتغل على الشذرات، والمقاطع، واليوميات، والكتابة الحرة، لكنّها تُنتج، عبر هذه الفوضى المنظمة، بنية دلالية ليست أقل قوة من النصوص المحكومة بنظام.
1. جمالية التشظّي
تكمن قوة نصّية اللانصّ في أنّ التشظّي ذاته يصبح عنصرًا بنائيًا. إن غياب الترتيب ليس نقصًا، بل استراتيجية جمالية، وخلخلة النظام ليست خروجًا عليه بقدر ما هي إعادة صياغة لحدوده. هنا تتحول الفوضى إلى آلية نصيّة، واللانظام إلى شكل بديل من التنظيم، في سياق تتداخل فيه الأزمنة والرؤى والطبقات السردية.
2. تفكيك سلطة الشكل
يعمل هذا المفهوم على إسقاط قداسة الشكل، وتحرير الكتابة من النماذج الموروثة. فالنصّ، في هذه الرؤية، لا يكون نصًّا لأنه منضبط، بل لأنه فعّال. الناقص، المنقطع، المشطور، قد يكون أكثر نصّيّة من المكتمل، لأنه يخلق توتراً دلالياً، ويستفزّ القارئ، ويستدعي مشاركته في بناء المعنى.
3. أمثلة وتمثيلات
يمكن ملاحظة هذا النمط في العديد من الكتابات المعاصرة:
نصوص ما بعد الحداثة الغربية (بورخيس، كاليطو، بارت)،
اليوميات الممزّقة والنصوص الهاجسية،
الروايات التي تحوّل الذاكرة والهلوسة واللاضروريات إلى مكونات نصية.
هذه النصوص لا تُنتج نصّيّتها من الانضباط، بل من الانتهاك: انتهاك التسلسل، انتهاك المنطق، انتهاك القالب.
ثانياً: مفهوم لانصّيّة النص… اكتمال يخفي العطب
إذا كانت نصّيّة اللانصّ تمثّل الوجه الجمالي للانفلات، فإن لانصّيّة النص هي الوجه الكامن خلف اكتمال مخادع. هنا نجد نصوصًا تتوفر على جميع العناصر الشكلية: بنية سردية، شخصيات، زمن، لغة محكمة، تقسيم واضح للفصول… لكنّه، مع ذلك، يظل نصًّا بلا نصّيّة، لأنّه عاجز عن إنتاج المعنى أو إثارة الأسئلة أو منح القارئ خبرة جمالية تتجاوز ظاهر الترتيب.
1. الامتلاء الوهمي
النصّ الذي يسقط في لانصّيّته هو نص يغرق في اكتماله، ويكتفي بالتقعيد المسبق، وينساق وراء حبكة نمطية، أو يكرر خطابات مستهلكة، أو يركّب الشخصيات تركيبًا سطحيًا لا عمق فيه. إنّه نصّ يجري وفق آلية ميكانيكية، لكنه يفتقر إلى الروح.
2. الشكل بوصفه قناعًا
في هذا السياق، يتحول الشكل إلى قناع، وإلى تمويه يخفي غياب الرؤية الفكرية والعمق الإنساني. فالاكتمال الشكلي ليس قيمة في ذاته ما لم يُضِف إلى التجربة القرائية أفقًا جديدًا. والنصّ الذي يُنتج نفسه عبر الوصفة الجاهزة، مهما بدا متينًا، يظل نصًّا بلا نصّيّة.
3. انهيار الدلالة رغم انتظام البناء
لانصّيّة النص ليست فوضى، بل انعدام الأثر داخل النظام. إنه نصّ ينتظم ليمارس الفراغ، ويكتمل ليخفي العطب، ويُتقن هندسته ليُبطل روحه.
ثالثاً: المسافة بين المفهومين… فضاء القراءة المابعد–نصّيّة
ليست العلاقة بين المفهومين علاقة تضاد صارم، بل علاقة توتر خصب يفتح مجالًا لقراءة أعمق للخطاب الأدبي. فالنصوص الأكثر حداثة هي التي تتحرك داخل هذا المجال الوسيط: نصوص تمتلك بعض سمات اللانصّ، لكنها لا تقع في الفوضى غير المنتِجة، ونصوص تمتلك بعض سمات النص الكامل لكنها تتجاوز انغلاقه.
1. النص ككائن دينامي
أصبح النص في نظرية ما بعد البنيوية كائنًا متحركًا:
يتشكّل،
يتفكّك،
ويتحوّل بحسب طرائق التلقي،
لا بحسب الترتيب الذي يخططه المؤلف.
اللانصّ قد يتحوّل نصًّا بمجرد أن يمنح القارئ أداة للتأويل، والنصّ قد يفقد نصّيّته إذا انعدم أثره.
2. القارئ بوصفه شرطًا للنصّية
تلعب نظرية التلقي دورًا جوهريًا هنا. فالنصّية ليست خاصية داخلية فقط، بل نتيجة تفاعل بين النصّ والقارئ.
نصّ مفكك قد يصبح نصًّا عظيمًا إذا أحسن القارئ تأويله،
ونصّ مكتمل قد ينهار إذا بقي مغلقًا دون جدوى.
3. بين النظام والفوضى
يُعيد هذا التوتر صياغة الحدود بين النظام والفوضى:
فثمة فوضى خلاقة تُنتج النصّ،
وثمة نظام عقيم يلغيه.
رابعاً: نحو نظرية مابعد–نصّيّة
تكشف دراسة هذين المفهومين عن ضرورة تجاوز التصنيفات التقليدية للنصوص. فالعصر الأدبي الراهن، بمختلف تجاربه وتجريبياته، يتطلّب نظرية نقدية جديدة تُدرك أنّ النصّ ليس بنية مغلقة، بل مجالًا مفتوحًا للتجريب والتأويل.
1. النص بوصفه إمكانًا
النصّ ليس ما هو مكتوب على الصفحة، بل ما يمكن أن يكونه.
إنه إمكان، احتمال، أفق يتشكّل في القراءة.
2. الكتابة باعتبارها مجازفة
الكتابة، وفق هذه الرؤية، ليست إنتاجًا لمنتج نهائي، بل مغامرة مفتوحة على احتمالات التشكيل.
فالكاتب الذي يتقن الفوضى أكثر من النظام قد يخلق نصًّا يفيض بالمعنى.
والكاتب الذي يتقن النظام دون روح قد ينتج عملاً متماسكًا لكنه ميت.
3. إعادة تأويل مفهوم “النص”
إن نصّيّة اللانصّ ولانصّيّة النص ليستا سوى تجليات للتحول الأكبر:
النص أصبح سؤالًا، والكتابة أصبحت تجربة حدّية، والمعنى لم يعد معطى بل عملية إنتاج مستمرة.
إن مقاربة مفهومي نصّيّة اللانصّ و لانصّيّة النص تكشف بجلاء عن التحوّلات التي مست طبيعة الكتابة في الأدب المعاصر. لم يعد النص يُقاس ببنيته وحدها، بل بقدرته على توليد الدلالة، وبمستوى التوتر الإبداعي الذي يخلقه بين نظام الشكل وفوضى المحتمل. وبين الفوضى التي تتنظّم من الداخل، والنظام الذي ينهار من الداخل أيضًا، تتشكّل خرائط جديدة للقراءة النقدية، تجعل النصّ فضاء مفتوحًا لصناعة المعنى، لا كيانًا مغلقًا محكومًا بمعايير الأمس.
وهكذا، فإن النصّ لا يكتمل إلا حين يتجاوز نفسه، ولا يفقد نصّيّته إلا حين يكتفي بذاته. وفي هذا الجدل المستمر تتأسس جماليات الكتابة الحديثة، ويتجدد الأدب بوصفه فعلاً معرفيًا وجماليًا لا يتوقف عن إعادة إنتاج شروط وجوده.
