نحو أفق بلا إرهاب
تاريخية الدين وتاريخية الماركسية:
و بعد وقوفنا على مفهوم الدين ومفهوم الماركسية وأساس كل منهما ومنطلقه، نتساءل:
هل نتعامل مع الدين كظاهرة تاريخية؟ وهل نتعامل مع الماركسية كظاهرة تاريخية؟ وإذا كان الأمر كذلك هل يمكن القول بأن دور الدين قد انتهى؟ وهل يمكن القول بأن دور الماركسية قد انتهى؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بالدين في عصر تطور فيه كل شيء إلى ما لا نهاية؟ ولماذا هذا الحصار الإعلامي المضروب على الماركسية؟ أليس الاهتمام بالدين دليلا على لا تاريخية الدين؟ أليس الحصار المضروب على الماركسية دليل على لا تاريخيتها؟
إننا في الواقع أمام إشكالية تحتمل عدة مقاربات، فبالنظر إلى ارتباط كل دين بمرحلة معينة، وإلى اختلاف الأديان عن بعضها البعض، وتطور الدين اللاحق عن الدين السابق فإن الجواب سيكون هو أن الدين تاريخي كبقية الظواهر التاريخية التي لا تتكرر أبدا. وكذلك الشأن بالنسبة للماركسية باعتبارها ظاهرة نظرية ظهرت في مرحلة تاريخية معينة وتم تطبيقها على خلاف ما ظهرت عليه في مرحلة تاريخية أخرى لتذهب إلى حال سبيلها، ومن جهة أخرى فالدين باعتباره معتقدا يرتبط بوحدة الإنسان، وبفكره وبممارسته لازال قائما، وقيامه في الإنسان مستمرا استمرار الإنسان نفسه، فهو ينتقل كمعتقد وكطقوس من جيل إلى جيل. الأمر الذي يقتضي القول بإطلاقية الدين. ونظرا لأن الماركسية كمنهج للتحليل والتفكير، وكهدف يرتبط أيضا بالإنسان، الذي يستعمل ذلك المنهج في كل مكان، فإنه يمكن القول أيضا باطلاقية الماركسية. وهو ما يعني أن كلا من الدين والماركسية يجمع بين النسبية والاطلاقية.
ونحن في تناولنا لفقرة تاريخية الدين وتاريخية الماركسية وانطلاقا من المنهج العلمي الذي اعتمدناه في تعاطينا مع الدين ومع الماركسية في نفس الوقت نرى أن كل شيء لا يمكن أن يكن إلا تاريخيا. فما يظهر انه مطلق ليس إلا نسبيا. لأن الرؤيا إلى الدين تتجدد باستمرار نظرا لاختلاف الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، ومن مكان إلى مكان آخر. وهذا الاختلاف في الشروط وفي الأمكنة هو الذي يجعل فهم الدين الواحد يختلف من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان وهو ما يجعلنا نقول بأن الدين يصير أديانا بعدد العصور، وبعدد الأمكنة، وبعدد الأفراد، لأن كل فرد يفهم الدين على طريقته. وانطلاقا من شروطه، وحتى نفهم المسألة اكثر فالدين الإسلامي في مرحلة الوحي، ليس كالدين الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين، أو في عهد الأمويين، أو في عهد العباسيين أو في عهد العثمانيين أو في عهد الاستعمار، أو في عهد استغلال الشعوب التي كانت مستعمرة، أو في عصر العولمة. والدين الإسلامي في السعودية يختلف عنه في العراق، وفي إيران، وفي سورية، وفي الأردن، وفي مصر، وفي تونس، وفي تركيا، وفي الجزائر، وفي المغرب، وفي أوربا، وفي أمريكا، وفي إفريقيا، وفي آسيا، وفي استراليا، وإسلام المالكية ليس هو إسلام الحنفية، وليس هو إسلام الحنابلة، وليس هو إسلام الشافعية، وإسلام شيعة بني أمية ليس هو إسلام شيعة علي، وليس هو إسلام آل الزبير، وليس هو إسلام الخوارج. وإسلام الطبقة الحاكمة في كل بلد من بلدان المسلمين ليس هو إسلام كل شعب من شعوب المسلمين، وليس هو إسلام مؤدلجي الدين الإسلامي الذين تختلف ادلجتهم للدين الإسلامي من بلد إلى بلد آخر، ومن تيار إلى تيار آخر، وحتى البرامج الدينية نجدها تختلف من مدرس إلى آخر. والهدف من التدين وممارسة الطقوس الدينية التي نسميها في الدين الإسلامي بالعبادات يختلف من شخص إلى آخر، ومن تيار ديني إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى. ومن عصر إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر. وهو ما يؤكد أن كل شيء يعتقد أو يمارس في الدين الإسلامي نسبي، وتبقى فكرة الاطلاقية قائمة في فكرة الله كمعتقد يجب الإيمان به وحده دون سواه. وهذا الإيمان في حد ذاته يتخذ طابعا نسبيا في معظم الممارسات الدينية.
و ما قلناه في الدين الإسلامي، يمكن قوله في الدين المسيحي، ويمكن قوله في الدين اليهودي، وفي كل الديانات الأخرى التي لازالت قائمة في هذا البلد أو ذاك، ولا أحد يستطيع أن ينفي تلك النسبية.
فما الذي يجعل الدين يرتبط بالنسبية، اكثر مما يرتبط بالاطلاقية؟
إننا مهما حاولنا أن نعطي للدين طابعا جماعيا وكيفما عملنا على أن يكون الإيمان بدين معين جماعيا، وحرصنا على أداء الطقوس الدينية بشكل جماعي، فإن الدين يبقى ذا بعد فردي، لأنه في نهاية المطاف يخص وجدان الفرد في علاقاته بالمعتقد. وهذه المسألة ندركها جيدا أثناء أداءنا للصلاة كما يراها الإسلام أو كما تراها المسيحية أو كما تراها اليهودية. وفي إطار الجماعة في المسجد أو في الكنيسة أو في البيعة، فإن كل فرد في الجماعة ينصرف وحده في التوجه إلى الله بطريقة في التفكير أو في الوجدان تختلف من مصل إلى آخر، فكان كل واحد يصلي وحده، ونفس الشيء نقوله في الصيام أو في الحج، أو في الزكاة، أو حتى في الشهادة. فالدين ذو طابع فردي على مستوى المعتقد. وعلى مستوى الطقوس والناس وحدهم يكسبونه ذلك البعد الجماعي الاجتماعي الاقتصادي والثقافي والسياسي. وهو ما يعتبر حجة على نسبيته، لأن الإنسان عندما يرتبط بدين معين لا يرتبط به إلا من اجل تحقيق مصالح معينة دنيوية أو أخروية، وهذه المصلحة تختلف من طبقة إلى أخرى ومن فرد إلى آخر داخل الطبقة كتأكيد لنسبية الدين.
و لذلك فنحن عندما نطرح السؤال هل الدين تاريخي أو مطلق؟ فإننا نجد أنفسنا، وانطلاقا من وقائع التاريخ نفسه مجبرين على القول بتاريخيته. لأن تطور الإنسان باستمرار يقتضي تطور معتقدات هذا الإنسان. فالأديان الوثنية المتعددة التي تعاقبت في مختلف العصور واكبتها معتقدات بوجود عدة آلهة تقرر في شأن البشرية والكون. وهو ما نفاه القرءان " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" ثم تطور التعدد إلى الاعتقاد بوحدانية الإله، وزوجة الله وابن الله، وهو أيضا ما انتقده القرءان عندما جاء فيه " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله" كما جاء فيه أيضا " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد" ليصل إلى آخر الأديان الذي هو الدين الإسلامي الذي جاء تعبيرا عن التطور الذي وصلت إليه البشرية فحسم مع فكرتين أساسيتين في المعتقد: الفكرة الأولى، هي فكرة التعدد، والفكرة الثانية هي فكرة التجسيد. ففكرة التعدد حسم معها بما جاء في القرءان "قل هو الله أحد" " ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا". أما فكرة التجسيد فحسم معها بقوله "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" وقوله " ليس كمثله شيء"، فلماذا هذا الحسم مع التعدد، ومع التجسيد في نفس الوقت.
إننا نرى أن التطور الذي وصل إليه الإنسان يقتضي ذلك، حتى يتحرر الإنسان من الجري وراء ما يسيء إلى كرامته، لأن تلك الكرامة تقتضي أن لا يعبد الأوثان، كما تقتضي أن لا توجد هناك واسطة بينه وبين الله. كما هو الشأن في المسيحية واليهودية حيث الرهبان وسطاء بين الله، والبشر المومنين بالمسيحية أو اليهودية. فيقتضي أيضا أن لا يومن بوجود عدة آلهة، لأن ذلك قد يؤدي إلى التأثير على شخصيته، وسلب حريته، فالاعتقاد بوجود اله واحد، لا يتجسد (لا تدركه الأبصار..) هو تطور يقتضي تحرير الإنسان أولا وأخيرا من سيطرة المعتقدات الخرافية الفاسدة. وهذا لا يعني أبدا أن الدين بلغ درجة صار معها مطلقا لأن الاطلاقية تقتضي إبعاد الدين من شؤون الحياة العامة والخاصة الفردية والجماعية. وبما أن هذه المسألة غير واردة، فإننا نرى أن وحدانية الله هي بداية ومنطلق لنسبية أخرى. هي نسبية فهم الدين، وتمثله، وطرق عبادة الله. واختلاف كيفية العبادة واعتبار الدين عقيدة وشريعة واختلاف الشريعة باختلاف تأويلات النصوص الدينية. هذا الاختلاف الذي يستمر إلى ما لا نهاية كما تدل على ذلك كتب التفسير التي كتبت منذ نزل القرءان، وإلى الآن. ففي كل عصر نجد تفاسير تكون محكومة بالشروط الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية التي تفرض فهما معينا يختلف عن افهام من عاشوا شروطا أخرى مختلفة في الأزمنة الماضية، ومن يعيشون شروطا أخرى في الأزمنة المستقبلية. وكما تدل على ذلك كتب الفقه التي الفت في عصور مختلفة، وفي أمكنة مختلفة والتي تضمنت أحكاما فقهية تتناسب مع الأزمنة ومع الأمكنة التي استنبطت فيها، وكلها ذات مصدر ديني مأخوذة من الكتاب والسنة، أو بواسطة القياس والاجتهاد وكلها مصادر للشريعة الإسلامية. والخلاصة هي أن تاريخ الأديان، وتاريخ الأديان السماوية وتاريخ الدين الإسلامي، وتاريخ التفاسير، وتاريخ الفقه، وتاريخ الدراسات الدينية بصفة عامة، وتاريخ الدراسات الإسلامية بصفة خاصة كلها تؤكد على تاريخية الدين. أما اطلاقيته، فما هي إلا افتراض من مؤدلجي الدين الإسلامي المنمذجين للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية في النموذج الماضي الذي ليس إلا تاريخيا بدوره.
فلماذا تصر جهات معينة على إطلاقية الدين؟
فنحن عندما نتكلم عن الدين ننسبه: دين إبراهيم، الدين المسيحي، الدين اليهودي، الدين الإسلامي، الدين الوثني، وفي إطار كل دين نجد مذاهب، ونحن نقوم بنسبة كل مذهب إلى صاحبه. وفي إطار المذهب الواحد نجد تيارات. ونحن ننسب كل تيار إلى صاحبه وعندما تتم ادلجة الدين فنحن نقوم بنسبة كل إيديولوجية دينية إلى أصحابها، أي أن كل ما يجري في الواقع مما له علاقة بالدين يجعلنا نجزم بنسبية الدين وبتاريخيته في نفس الوقت. إلا أن الطبقة الحاكمة في كل بلد من بلدان المسلمين وموظفيها المؤدلجين للدين الإسلامي، والأحزاب التي تستعين بأدلجة الدين الإسلامي، واليمين المتطرف المغرق في ادلجة الدين الإسلامي تصر على إطلاقية الدين نظرا لدوره في حفظ المصالح الطبقية لمؤدلجي الدين الإسلامي. لأن كل من يستغل الدين إنما يستغله لأجل ذلك، حتى الكهنة الذين كانوا يشرفون على عبادة الأوثان كانوا يعتبرون ذلك وسيلة لخدمة مصالحهم وحماية تلك المصالح في نفس الوقت.لأنه إذا لم تكن هناك مصالح من وراء إطلاقية الدين ولا تاريخيته لا يمكن أن يحرص هؤلاء على هذه الاطلاقية اللاتاريخية ولأقروا بأهمية التحليل العلمي الذي يكشف عن نسبية الدين وتاريخيته. وبالتالي، فأي تفكير ديني هو تفكير نسبي لا يتجاوز من أنتجه ليصير جزءا من الدين كما يريد ذلك مؤدلجو الدين الإسلامي. وإذا وصلنا إلى ذلك واقتنع الناس بالتحليل العلمي الذي يؤكد على نسبية الدين وتاريخيته فإن المصير الذي يجب أن تعرفه كتب المؤدلجين في مختلف العصور وإلى يومنا هذا هو الحرق حتى تتخلص البشرية من آفة ادلجة الدين الإسلامي، ويصير الدين حرا، والمتدين حرا في اختيار العقيدة التي تناسبه، ودون ضغط من أية جهة، حتى يصير مضمون ما جاء في القرءان "لا إكراه في الدين" قائما على ارض الواقع. وتصير الدولة متحررة من ادلجة الدين، ويصير فصل الدين عن الدولة قائما في الممارسة السياسية, وتصير المصالح الطبقية بعيدة عن استغلال الدين، ويغيب من يفرض وبقوة السلاح والقمع اعتبار الدين مطلقا، حتى يصير الدين بريئا من الادلجة ومرتبطا بالاختيار الحر والنزيه.
و في حالة إصرار المؤدلجين على إطلاقية الدين، فلماذا هذا التعدد في الدين؟
إن تاريخ البشرية ملئ بالأديان المتعاقبة في تاريخ كل شعب على حدة، وحتى تلك التي اعتبرت ديانات التوحيد ظهرت في مراحل مختلفة.
فقد عرفت البشرية الديانة الوثنية التي شاعت بين الناس بسبب سيطرة الخرافة والجهل على عقولهم، فصاروا يتمثلون الآلهة التي تتحكم في مصيرهم أوثانا يعبدونها، أو أشجارا أو نجوما أو قمرا أو شمسا أو نارا أو رياحا أو بشرا اخلصوا في عبادتها جميعا رغبة في أن تتدخل تلك الآلهة لأجل إصلاح المصير وتحقيق السعادة للمومنين ومدهم بالقوة اللازمة لتحقيق حياة احسن، وللتغلب على الأعداء وجلب الخيرات المادية والمعنوية التي تحقق تلك السعادة.
كما عرفت البشرية عبادة آلهة متعددة لها علاقة بالقيم وبالأخلاق، فقد عبدوا اله الخير، واله الشر، واله الخصب، واله القوة...الخ، وهي آلهة مجردة اعتقد الناس حينها أنها تتدخل في حياة الناس فتجعلها سعيدة أو شقية، وتجلب الخيرات التي يحتاجها الناس أو تحرمهم من تلك الخيرات.
و اعتقدوا كذلك بوحدانية الله في ديانة إبراهيم وديانة موسى، وديانة عيسى، وفي الدين الإسلامي، واعتبروا أن الوحدانية هي الطريق إلى تحقيق السعادة البشرية للناس جميعا. إلا أن تخلف البشر وعدم قدرتهم على استيعاب تلك الوحدانية، وعدم تخلصهم من المعتقدات الوثنية جعل المومنين بتلك الديانات ينحرفون عن تلك الوحدانية ويعتبرون أن الله ثالث ثلاثة في المسيحية وفي اليهودية، وصاروا يتخذون لهم وسطاء بينهم وبين الله في الإسلام.
و في إطار الدين الواحد صار الناس يومنون بذلك الدين عن طريق مذهب من مذاهبه.فكأن تلك المذاهب ديانات أخرى لا تتفق مع الدين الأصلي إلا في الجوهر أما الشكل فهناك اختلاف كبير.
و لذلك فهذا التعدد في الأديان، وهذا التعدد في المذاهب في إطار الدين الواحد، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى القول بنسبية الدين لا بإطلاقيته.
و التعدد في الدين يرجع إلى اختلاف التوظيف الديني لخدمة المصالح الطبقية وحماية تلك المصالح من طبقة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر، ومن مكان إلى مكان آخر، حسب اختلاف الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتلك المصالح الطبقية وحدها هي التي أدت إلى هذا التعدد في الدين، وفي المذاهب، وهي التي أدت إلى القول بإطلاقية الدين حتى وإن كان هذا الدين متجاوزا وجدانا وعقلا ومنطقا كما هو الشأن بالنسبة للديانة البوذية عند الهنود كمثال على ذلك.
و إذا كان الدين مطلقا، فإن اطلاقيته تستلزم الثبات والديمومة، فلماذا كان القدماء يعبدون الطبيعة والشمس والقمر، والرعد، والأشجار، والنجوم، والحيوانات؟
إن الأصل في الدين هو الخوف، والعجز عن معرفة مصدر ذلك الخوف، كما أن الدين هو الخضوع المطلق للجهة المعتقد أنها هي مصدر الخوف، ومصدر القوة في نفس الوقت. وإذا كان الأمر كذلك، فإن القدماء عبدوا الطبيعة لأنهم كانوا يجهلون مصدر الخيرات الكثيرة التي كان الناس يحتاجون إليها وهي مصدر هلاكهم في نفس الوقت، فهم يعبدونها رغبة في خيراتها، ورهبة من عواصفها، ورعودها، وحيواناتها المفترسة. وسعيا إلى تجنب ما يهلكهم. والحصول على ما ينفعهم في حياتهم اليومية، وما يضمن استمرارهم إلى ما لا نهاية لأن كل ذلك بإرادة الطبيعة باعتبارها القوة الأولى في الكون. وعبادة الإنسان القديم للطبيعة هو الذي جعله ينصرف إلى التفكير فيها، ويكتشف كيف يسيطر عليها باكتشافه لأدوات السيطرة على الحيوانات. وكيف يتقي شر الشمس، والرعد والعواصف، والفيضانات وغيرها. وكيف صار يستغل الأرض التي أغنته عن البحث عن قوته اليومي حتى لا يعرض نفسه للأخطار، الأمر الذي جعله يبحث عن آلهة أخرى, وعمل على عبادة الشمس والقمر والنار باعتبارها مصادر للضوء والحرارة وغيرها مما يعجز الإنسان حينذاك عن معرفة حقيقته. وبعد أن استنفذ المعرفة بعناصر الطبيعة الثابتة، والناتجة عن تحولاتها امسك عن كل ذلك وتوجه في عبادته إلى تقديس الأشخاص الذين شرعوا في السيطرة على البشر بواسطة القوة لاعتبارهم أن مصدر تلك القوة غير معروف لكون من يملكها يتميز بقوة خارقة تستحق خضوع الناس له. فإذا مات صنع تمثال له يعبده الناس، ويسجدون إليه لتنتقل القداسة من صاحب التمثال، لتشيع بذلك ما صار يسمى في تاريخ الديانات بعبادة الأصنام التي كان يصنعها الناس بأيديهم.
فلماذا كان الناس يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم؟
إن المرحلة التي شاعت فيها عبادة الأصنام التي تمثل الأشخاص أو الحيوانات. لم يعد الناس يعبدون تلك الأصنام على أنها تمثل أشخاصا معينين بقدر ما صاروا يعبدونها على سبيل التقليد. ولذلك نجد انهم كانوا يقولون إذا سئلوا عن ذلك كما عبر القرءان على لسانهم "انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون" أي أن العبادة كانت تتم على سبيل الاقتداء فقط وليس على سبيل الاقتناع، والمستفيدون من عبادة الأوثان كانوا يحرصون على استمرار تلك العبادة لما تدره عليهم من أرباح، وكانوا يعتبرون أي دعوة لإلغاء عبادة الأوثان تهديدا لمصالحهم وسعيا إلى القضاء على النظام السياسي الذي يحمي ذلك الشكل من العبادة.
و الوقوف على الأسباب التي دعت إلى عبادة الأوثان يدفعنا إلى طرح السؤال: لماذا هذا التعدد في الأديان السماوية؟
إن الدين السماوي لم يأت من اجل إضافة دين جديد إلى الأديان التي سبقته، فالدين السماوي جاء ليحرر الإنسان من عبادة أمور لا تعبر إلا عن انحطاط الإنسان واحتقاره لنفسه، لتصير عبادته لله كذات مجردة غير معروفة. ولكن هذه الدعوة إلى عبادة الله تمت مقاومتها من الذين كانوا يستغلون عبادة الأوثان لخدمة مصالحهم ولحماية تلك المصالح فكانوا يمارسون الحصار والتعذيب والتقتيل ضد كل الذين عملوا على التحرر من عبادة الأوثان. وهنا تحضرنا تجربة نوح الذي مكث في قومه تسعمائة وخمسين سنة قبل أن يغرق الله قومه ولم ينج إلا من ركب سفينة نوح كما أشار القرءان إلى ذلك. كما تحضرنا تجربة إبراهيم الذي عانى كثيرا من قومه ومنهم أبوه الذي كان يصنع الآلهة ويبيعها لمن يعبدها. وتحضرنا تجربة موسى الذي عانى كثيرا من بني إسرائيل الذين أذاقوه الأمرين منذ طفولته وحرفوا التوراة التي أنزلت عليه. وتجربة عيسى الذي عانى كذلك من بني إسرائيل اللذين عذبوه كثيرا وحاولوا التخلص منه لولا أن الله رفعه كما جاء في القرءان " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" وكما حصل مع محمد بن عبد الله الذي عانى كثيرا من عبدة الأوثان ومن اليهود في نفس الوقت، ولم يستطع تثبيت الإسلام في الجزيرة العربية إلا بمشقة كبيرة.
فلماذا كان الناس يرفضون توحيد عبادة الله ويتمسكون بعبادة الأوثان؟
إن الأمر يتعلق بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي في العصور القديمة. وبطبيعة المجتمع الذي كانت تسود فيه العبودية من جهة، وكانت الحياة فيه ترتبط بالقبيلة وبالعشيرة، أي انه كان ممزقا إلى درجة أن توحيد العبادة فيه تكون من باب المستحيلات.
و لذلك نجد أن الانتصار الجزئي لدعوة موسى لم يدم طويلا، فقد تحولت من بعده إلى عبادة ثلاثة آلهة الله وزوجة الله وابن الله كما أشار إلى ذلك القرءان " وقالت اليهود عزير ابن الله" وكذلك بالنسبة لعيسى التي سرعان ما تحولت إلى عبادة ثلاثة آلهة "و قالت النصارى المسيح ابن الله". وحتى الإسلام الذي نجا من ذلك التحريف، فها هم الناس يعبدون الزعماء الدينيين الأحياء باعتبارهم وسطاء بين الله وبين البشر، ويعبدون الأضرحة، والمساجد بمعنى أن الوثنية مستمرة حتى في ظل سيادة الأديان السماوية، لأن الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي فرضت عبادة الأوثان لازالت قائمة، والقضاء على تلك الشروط لا يتم إلا بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحين ذلك فإن من اختار أن يعبد شيئا آخر فله الحق في ذلك، لأنه " لا إكراه في الدين" كما جاء في القرءان.
و لو افترضنا أن الناس جميعا صاروا يعبدون الله طبقا لما جاء به الدين الإسلامي باعتباره اكثر تطورا واكثر تقدما من الأديان السابقة. فلماذا هذه المذاهب الدينية الشيعية والسنية في ظل الإسلام؟
إن تحرر الإنسان من عبادة غير الله أو من اتخاذ الوساطة بينه وبين الله في الدين الإسلامي لا يتم إلا بهيمنة العقل العلمي الذي يقوم على أنقاض العقل الخرافي والعقل المؤدلج للدين الإسلامي الذي يمكن تسميته بالعقل الظلامي الذي لا علاقة له بالظاهرة الإيمانية في الدين الإسلامي، والعقل العلمي ليس إلا المنهج العلمي القائم على أساس القوانين العلمية للمادية الجدلية والمادية التاريخية، وبدون سيادة تلك العقلية العلمية ستبقى المجتمعات محكومة بالخرافات، وبالفكر الظلامي الذي تختلف درجة تأثيره من شخص إلى شخص آخر، ومن جماعة إلى جماعة أخرى. وهو ما وقف وراء ظهور التأويلات التي وقفت وراء ظهور الأحزاب القائمة على ادلجة الدين الإسلامي من جهة أخرى. الأمر الذي أشاع الوهم بتعدد المذاهب في الدين الإسلامي لتتعدد بذلك الطقوس المتبعة في العبادات الدينية الخاصة بالدين الإسلامي، ولتتعدد الأفكار المتبعة في نفس النازلة من مذهب إلى آخر. فكأننا أمام أديان، ولسنا أمام مذاهب. ولكن عندما يسود العقل العلمي، فإن الناس يتحررون من التبعية للأشخاص أصحاب المذاهب أو قادة الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي حتى لا نسميها أحزابا دينية. وحين ذلك، وكما قلنا سابقا، يختارون الدين الذي يشاءون ويعبدون الله على الطريقة التي يشاءون، ودون ضغط من أحد أو إرهاب من سلطة، أو تهديد من زعيم حزب مؤدلج للدين الإسلامي. والعقل العلمي لا يسود ولا يلعب دوره إلا بتحقيق الحرية، حرية الأرض والإنسان، والديمقراطية بمضامينها الحقوقية، والعدالة الاجتماعية التي لا تقوم إلا على أساس التوزيع العادل للثروة بين جميع أفراد المجتمع. والعقل العلمي يقتضي وضع دستور ديمقراطي، وملاءمة القوانين مع المواثيق الدولية، وبناء مؤسسات تمثيلية تعكس إرادة المواطنين، وإيجاد حكومة من أغلبية مؤسسة البرلمان، تقوم بخدمة مصالح الشعب وحماية تلك المصالح بتطبيق القوانين المتلائمة مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. والعقل العلمي يقضي بتجريم استغلال الدين الذي هو للناس جميعا في الأمور السياسية حتى وإن كان ذلك الاستغلال من قبل مسؤولي الدولة. وتجريم قيام أحزاب على أساس ديني كيفما كان هذا الدين، أو على أساس ادلجة الدين الإسلامي حتى يصير الدين لله قولا وفعلا، والوطن للجميع.
و لكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو لماذا ينقسم المسلمون إلى شيعة وسنة؟ ولماذا نجد في الشيعة مذاهب كما نجد في السنة مذاهب، وفي إطار الدين الواحد الذي هو الدين الإسلامي؟
إن انقسام المسلمين إلى شيعة وخوارج إنما هو تقرير لواقع ادلجة الدين الإسلامي منذ مقتل عثمان بن عفان. ومنذ صار المسلمون إما من اتباع علي أو من اتباع معاوية، أو من اتباع آل الزبير، أو من اتباع الخوارج لأن توظيف الدين في السياسة في ظل الإسلام بدأ منذ ذلك الوقت، ومنذ صار يعتقد كل توجه سياسي انه هو الذي يحكم باسم الله أو انه هو الذي يجب أن يحكم باسم الله، خاصة، وأن هذا الانقسام في ذلك الوقت اتخذ طابعا عشائريا، أو قبائليا، أو اسريا. وبالتالي فكل من استطاع وبواسطة القوة السيطرة على دولة المسلمين سواء في عهد الخلفاء الراشدين، أو في عهد بني أمية أو في عهد بني العباس يحكم باسم الله وهو أمر لا يمكن النظر إليه إلا من باب الاستغلال الإيديولوجي لتضليل الناس.
فنحن نعرف أن الشيعة يمثلون في ذلك الوقت عموم المقهورين في مجتمع المسلمين، وأن هؤلاء المقهورين التفوا حول علي كزعيم سياسي، ولكن في نفس الوقت كأمير للمومنين ضد من كان يستغلل الدين لصالح تكريس حكم الأرستقراطية القرشية بقيادة معاوية، فإنه يمكننا القول بأن الصراع من اجل الوصول إلى السلطة أو من اجل المحافظة عليها اتخذ طابع الصراع الطبقي التناحري كما هو قائم في عصرنا هذا. لأن الطبقة التي تصل إلى السلطة تسخر الموارد لصالحها، غير أن الوعي الطبقي بمعناه الحقيقي لم يكن واردا في ذلك الوقت. لذلك فإن الوعي الإيديولوجي كان يركز على توظيف الدين من اجل السيطرة على أجهزة الدولة ولكن ليس لأجل توظيف الموارد لصالح الطبقة التي صارعت بل من اجل من يصير إليه الحكم الذي يصير متكلما باسم الله. ونظرا للخلافات التي تحصل داخل الأسرة أو العشيرة التي تحكم، فإن التأويلات تتعدد داخل الشيعة كما داخل السنة ليصير الشيعة أشتاتا، وتتعدد الولاءات والفرق وتكون الوسيلة هي ادلجة الدين الإسلامي. والهدف هو الوصول إلى السلطة لامتلاك شرعية الحكم باسم الله. وهذا هو السبب الذي جعل المسلمين ينقسمون إلى شيعة وسنة، وإلى فرق شيعية وفرق سنية ولكل فرقة تأويلها للدين، وهو ما يعبر عن استمرار الجنوح إلى تكريس التعدد الديني المتمثل في التعدد السياسي الذي يقضي بإقصاء كل الفرق الأخرى مهما كان لونها. ولتجاوز هذه الوضعية التي سرت إلى عصرنا هذا، فإننا نؤكد ما ذهبنا إليه من ضرورة تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حتى يبقى الدين لله والوطن للجميع.
و هذا التعدد في الفرق السياسية المؤدلجة للدين الإسلامي والتي تحاول تكريس ظاهرة التعدد الديني الذي سبق مجيء الإسلام يدفعنا إلى طرح السؤال:
أليس الدين مرتبطا بالتطور الذي تعرفه البشرية؟
و هذا السؤال وغيره من الأسئلة التي تسير في نفس السياق، يحيلنا إلى طرح سؤال آخر:
هل نجد لكل تشكيلة اقتصادية اجتماعية دينها أو دياناتها؟
إننا في الواقع يمكن أن نتفق على مستويين من الدين في أية تشكيلة اقتصادية-اجتماعية. مستوى الرغبة في الخلاص من الآلام التي تصيب البشرية المعذبة بسبب الاستغلال الممارس عليها، ومستوى ادلجة الدين أي دين مهما كانت طبيعته لتضليل أولئك الكادحين المقهورين حتى لا يمتلكوا الوعي بالاستغلال الممارس عليهم، سواء تعلق الأمر بالتشكيلة العبودية أو بالتشكيلة الإقطاعية أو بالتشكيلة الرأسمالية. وفي كل تشكيلة نجد أن الطبقة التي تتمكن من أجهزة الدولة باعتبارها أداة السيطرة الطبقية تسعى إلى توظيف جيش من المؤدلجين للدين الذين يسمونة كهنة أو سدنة، أو رهبانا، تكون مهمتهم هي إقناع الناس بتلك الادلجة، وصرفهم عن التفكير فيما يمارس عليهم من استغلال اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي خدمة لمصالح الطبقة التي تحكم غير أن الدين يقتضي كهنة ورهبانا معينين في التشكيلة العبودية، ليس هو الدين الذي يقتضي نوعا آخر من الكهنة والرهبان في التشكيلة الإقطاعية، وليس هو الدين الذي يقتضي مؤدلجين من نوع خاص جدا في إطار التشكيلة الرأسمالية. فالدين يرتبط ببساطة الاستغلال أو تعقده. فبساطة الاستغلال اقتضت عبادة الطبيعة أو الحيوانات أو الأشخاص أو الشمس أو القمر أو المثل، لتتطور إلى عبادة الأوثان التي ترمز إلى الطبيعة أو الإنسان أو الحيوان لنصل إلى إدراك الإنسان أن ما يعبده لا يتناسب مع ما يصل إليه من تطور. فتظهر الديانات التوحيدية كاستجابة لذلك التطور، ولكن الانقسام الطبقي في التشكيلات الاستغلالية لابد أن تجر معها مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي، فتبرز الحاجة إلى الخلاص، وإلى مؤدلجي الدين فيكرس التعدد الديني بتعدد المؤدلجين. وبالتالي فإن كل دين مهما جاء معبرا عن التطور الحاصل في المجتمع كما هو الشأن بالنسبة للدين الإسلامي، يصير مصدرا للتعدد الديني بدل أن يتحول إلى قوة داعمة لذلك التطور الذي يقتضي تخليص الدين من الإيديولوجية لتحرير الدين من جهة، وتحرير الإنسان من ادلجة الدين من جهة أخرى.
فما الذي يتحكم في الجنوح نحو التعدد الديني – المذهبي الحزبي في ظل الدين الإسلامي؟ أليست الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية التي تعيشها البشرية في مرحلة تاريخية معينة، وفي مكان معين هي التي تقتضي ظهور دين معين؟
إننا بمعالجتنا لموضوع هذا السؤال، لابد أن ننزل من السماء إلى الأرض، وهو ما يقتضي منا القول بأن تاريخ البشرية هو تاريخ الصراع الطبقي، وأن القهر الذي يمارس ضد الكادحين وضد الطبقة العاملة في إطار استغلال الأسياد للعبيد، أو استغلال الإقطاعيين للاقنان (عبيد الأرض) أو استغلال البورجوازية للطبقة العاملة. هذه الأشكال من الاستغلال الهمجي الذي عرفته البشرية عبر عصور مختلفة، ونظرا لعدم امتلاك الوعي الطبقي الضروري لخوض الصراع، فإن معاناة الكادحين من الحرمان من دخل محترم، ومن تعليم يتناسب مع متطلبات العصر ومن ثقافة تبث بينهم قيم التقدم والتطور والحرية ومن حياة مدنية يتساوى فيها جميع الناس أمام القانون، ومن دستور ديمقراطي، ومن المساهمة في انتخابات حرة ونزيهة، ومن حكومة تلتزم بخدمة مصالح الكادحين هو الذي دفع الكادحين في التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية السابقة على التشكيلة الرأسمالية على التماس الخلاص في عبادة الأوثان وفي الأديان المختلفة، وفي مذاهب كل دين على حدة، وفي التنظيمات السياسية المؤدلجة للدين الإسلامي بالخصوص، ومنذ مقتل عثمان. ولذلك نرى ضرورة تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حتى يتمتع الكادحون بحقوقهم المختلفة في ظل التشكيلة الرأسمالية تلك الحقوق التي تساعدهم على امتلاك الوعي الطبقي الذي يساعدهم على ممارسة الصراع الطبقي في مستوياته المختلفة الإيديولوجية والسياسية والتنظيمية بعيدا عن اللجوء إلى طلب الخلاص باللجوء إلى المذاهب الدينية، وإلى الأحزاب السياسية المؤدلجة للدين. ذلك اللجوء الذي لا يفيد إلا الطبقات المستفيدة من الاستغلال، وفي مقدمتها الطبقة الحاكمة التي تستغل الدين عن طريق مؤدلجيه، لتضليل الكادحين رغبة في تعميق استغلالهم، وسعيا إلى تأبيد سيطرتهم. وللوصول إلى امتلاك الكادحين لوعيهم الطبقي، لابد من تغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية التي تحكم واقع الكادحين والمقهورين، وواقع الطبقات المستفيدة من الاستغلال في نفس الوقت حتى يتأتى ان يبقى الدين لله، وحتى يبقى الاعتقاد به فرديا. وحتى يصير الصراع الطبقي بعيدا عن الاستغلال الديني او اللجوء إلى الدين هروبا من التفكير في المآسي الناجمة عن الاستغلال.
و تغيير شروط الواقع المطلوب يجعلنا نطرح السؤال:
أليس كل ما عرفته الأديان من تطور ومن تعدد، ومن مذاهب دليلا على تاريخيتها وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يتمسك مؤدلجو الدين الإسلامي باطلاقية هذا الدين؟
لقد سبق أن أشرنا إلى أن تعدد الأديان والمذاهب دليل على تاريخيتها، ونسبيتها في نفس الوقت وفكرة الله تغيرت من دين إلى دين آخر. وما يمكن اعتبارها مطلقا هو حاجة الإنسان إلى التغذية الروحية التي يلعب الدين دورا كبيرا فيها، ومع ذلك فمؤدلجو الدين الإسلامي على اختلاف مستوياتهم لا يقولون بتلك النسبية، ولا يعملون على التمييز بين ما هو مطلق، وما هو نسبي في الدين. وهم بذلك يخالفون حتى ما جاءت به الأديان. ومن ذلك ما ورد في القرءان من أسباب النزول، ومن ناسخ ومنسوخ. مما يؤكد نسبيته وتاريخيته، وعمر بن الخطاب كان يأخذ بالنسبية عندما حرم على المؤلفة قلوبهم اخذ نصيبهم من الزكاة لأن الرسول كان يسعى إلى الاستقواء بهم عندما خصهم بنصيبهم من الزكاة، ولم يقل أحد في ذلك أن عمر عطل حكما ورد في القرءان " انما الصدقات للفقراء والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله" بل تقبلها الناس على أن إعطاء الصدقة للمؤلفة قلوبهم كان يناسب مرحلة معينة، ولم يعد يناسب مرحلة حكم عمر بن الخطاب.
و مؤدلجو الدين الإسلامي في مستوياتهم المختلفة عندما يصرون على إطلاقية الدين، فلأنهم يعتبرون تلك الاطلاقية مناسبة لاعتبار أنفسهم من "أهل الحل والعقد" كما أنها مناسبة لحماية مصالحهم الطبقية والوصول إلى إقامة الدولة الإسلامية التي هي دولة استبدادية لتطبيق "الشريعة الإسلامية" كما يؤولها مؤدلجو الدين الإسلامي الذين يعتبرون تأويلهم ذاك هو "الشريعة الإسلامية" واستبداد مؤدلجي الدين الإسلامي ب"الدولة الإسلامية" ليس إلا وسيلة للاستبداد بالمجتمع ككل. والعمل على تأبيد ذلك الاستبداد الذي يصير "حكم الله" في الأرض. ويصير حكم مؤدلجي الدين الإسلامي حكما باسم الله باعتبارهم أهل الحل والعقد، وفي سبيل ذلك لا داعي لاستحضار تعدد المذاهب، وتعدد أحزاب مؤدلجي الدين الإسلامي، لأنها جميعا تتعامل مع الدين على أنه لا يمكن أن يكون إلا مطلقا مهما كانت الحجج والأدلة القائمة على نسبيته وتاريخيته، وحتى إذا سلمنا بإطلاقية جوهر الدين الإسلامي فإن تأويلاته المذهبية والإيديولوجية تبقى نسبية.
و بذلك نصل إلى أن نسبية الدين وتاريخيته هي نتيجة لتعدد الأديان الطبيعية والوثنية والسماوية. وتعدد المذاهب داخل الدين الواحد وكثرة الأحزاب السياسية التي قامت على ادلجة الدين الإسلامي منذ مقتل عثمان وإلى يومنا هذا، وإذا كان هناك لا شيء يستحق الاطلاقية فهو جوهر الدين الإسلامي بصفة خاصة كما جاء في بعض آيات القرءان " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن نعبد إلا الله" لنصل إلى أن اعتبار إطلاقية تأويلات الدين الإسلامي الأيديولوجية، ستقود إلى الكوارث التي تغرق البشرية في المزيد من الدماء. لأن تلك الاطلاقية الإيديولوجية تجعل البشرية تعتقد أن زمن الرسل والأنبياء لازال مستمرا، ونحن نعرف أن آخر الأنبياء والرسل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وكل من يدعي النبوة أو الرسالة بعده ليس إلا كذابا. وبما أن هذه المسألة غير واردة، فإن مؤدلجي الدين أعطوا لأنفسهم مظلة ولاية الفقهية الذي يجمع في شخصيته أحقية ولاية أمور الدين وأحقية ولاية أمور الدنيا. وهي أحقية لا علاقة لها بالديمقراطية، ولا باحترام إرادة المواطنين في كل بلد من بلدان المسلمين.
و وقوفنا على تاريخية الدين ونسبيته يقودنا إلى طرح سؤال عن الشق الآخر في الموضوع: الماركسية، وهل الماركسية تاريخية؟
إن الماركسية بحكم طبيعتها جاءت مرتبطة بمرحلة تاريخية معينة، وهي مرحلة وصول البورجوازية إلى السلطة في أوربا، وبناء الصناعة الأوربية في إطار ما صار يعرف بالثورة الصناعية التي صاحبت قيام البورجوازية التي أدت إلى السيطرة على أجهزة الدولة لتحرير الاقنان من الأرض. وتكون الطبقة العاملة التي كانت تعاني من الاستغلال الهمجي الذي عاينه ماركس وانجلز في ألمانيا وفي فرنسا وفي بريطانيا العظمى، فارتبطا معا بالمجتمع البورجوازي ودرسا واقع الطبقة العاملة، وعملا على دراسة التاريخ البشري وصولا إلى امتلاك تصور علمي عن تطور البشرية، وعن واقع المجتمع الرأسمالي في القرن التاسع عشر، وعملا على معرفة ما يجب عمله لوضع حد لاستغلال الكادحين بصفة عامة، ولاستغلال الطبقة العاملة بصفة خاصة وتوصلا، لأجل ذلك إلى وضع قوانين الاشتراكية العلمية المادية الجدلية والمادية التاريخية. والماركسية تعني بذلك أنها نسبية وتاريخية، أي أنها ليست نظرية مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، بل إن جوهرها هو الذي يكتسب صبغة الاطلاقية، وجوهرها يكمن في المنهج والهدف. فمنهج الماركسية هو منهج مطلق، يرتبط بالاستناد إلى توظيف قوانين المادية الجدلية والمادية التاريخية وتلك القوانين في تفاعلها مع التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي، ومع تطور الآداب والعلوم والفلسفة تصير نسبية نظرا لما يطرأ عليها من تغيير. فهي إذن تجمع بين الاطلاقية والنسبية في نفس الوقت، والاشتراكية العلمية كهدف أيضا تجمع بين الاطلاقية والنسبية، فهي يحكم استراتيجيتها، ولكونها تشكل حلما للبشرية، فإنها تصير مطلقة. ونظرا لارتباطها بتجارب معينة وبالخصوصيات المحلية، فإنها تصير نسبية. ولذلك يمكن القول بأن البشرية عرفت تشكيلات اقتصادية صارت في ذمة التاريخ كالتشكيلة العبودية، والتشكيلة الإقطاعية، وتعرف التشكيلة الرأسمالية التي تحرص على أن تصير هي نهاية التاريخ. وهي الآن تسعى إلى الاستبداد بالعالم في إطار ما صار يعرف بعولمة اقتصاد السوق، وهناك تشكيلة تسعى إلى أن تبسط سيادتها على الارض في اطار خوض الصراع المرير مع الرأسمالية، وهذه التشكيلة هي التشكيلة الاشتراكية، وهي تشكيلة تسعى الماركسية باعتبارها منهجا وهدفا إلى تحقيقها والمحافظة على ما هو متحقق منها على أنها ليست هي نهاية التاريخ بل باعتبارها مرحلة لما هو أرقى. وما هو أرقى هو المرحلة الشيوعية التي يصعب الحديث الآن عن إمكانية تحققها رغم وجود أحزاب في جميع أنحاء العالم تسمي نفسها بالأحزاب الشيوعية لأن الشيوعية كما نظرت لها الماركسية هي مرحلة انتهاء الحاجة إلى السلطة، وهي في حال تحققها يمكن أن تصير هي نهاية التاريخ باعتباره تاريخا للصراع الطبقي، وباعتبار الحاجة إلى الصراع الطبقي تصير غير واردة في المرحلة الشيوعية رغم التطور الهائل، وفي جميع المجالات، الذي تصل إليه البشرية.
و هذه القراءة لا يمكن أن نستنتج منها إلا أن الماركسية تاريخية، وأن الاشتراكية العلمية كمنهج وكهدف هي التي تتخذ في جانب منها طابع الاطلاقية.
فما هي الشروط التي حكمت ظهور الماركسية؟
لقد كان من غير الممكن أن تظهر الماركسية مع ظهور المجتمع الذي تسود فيه العبودية. كما انه من غير الممكن أن تظهر في إطار المرحلة التي ساد فيها الإقطاع لأن النظرية الماركسية ليست نظرية العبيد، ولا هي نظرية الاقنان. إن الماركسية هي نظرية الطبقة العاملة، ووجود الطبقة العاملة شرط وجود الماركسية والطبقة العاملة جاءت مرتبطة بالنظام الرأسمالي الذي جاء مرتبطا بالشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.
فعلى المستوى الاقتصادي جاءت الماركسية بعد انهيار الاقتصاد الإقطاعي، وقيام الاقتصاد الرأسمالي الذي أدى إلى وجود طبقة عاملة مشغلة لوسائل الإنتاج ومنتجة لفائض القيمة التي تؤدي إلى حدوث تراكم رأسمالي هائل لدى الطبقة البورجوازية في مقابل ممارسة استغلالية همجية على الطبقة العاملة وبذلك يتجسد الشرط الاقتصادي لظهور الماركسية في:
1) حصول تراكم رأسمالي لدى الطبقة البورجوازية بعد انهيار الاقتصاد الإقطاعي.
2) تكريس الاستغلال الهمجي على الطبقة العاملة وعلى سائر الكادحين مع حرمانهم من الأجور المتناسبة مع متطلبات الحياة.
و على المستوى الاجتماعي نجد أن الماركسية ارتبطت بتطور البرامج التعليمية التي ساعدت على ازدهار العلوم الطبيعية والفيزيائية وعلى ازدهار الفلسفة والآداب. مما أدى إلى ارتفاع مستوى التكوين لدى العمال الذي انعكس على مستوى الإنتاج المادي الذي ضاعف أرباح البورجوازية. وفي المقابل فإن الاهتمام بالخدمات الاجتماعية التي يستفيد منها العمال كالصحة والسكن وغيرها بقى متدنيا مما جعل حياة العمال تعرف الجحيم، الأمر الذي استدعى اهتمام مؤسسي الماركسية بالوضعية المتردية للعمال على المستوى الاجتماعي.
و على المستوى الثقافي فمنظرا الماركسية لاحظا عدم الاهتمام بتثقيف العمال بما يتناسب مع طبيعتهم الطبقية ومع مباشرتهم لتشغيل وسائل الإنتاج بما يحقق وحدتهم ويجعلهم يمتلكون وعيهم الطبقي في الوقت الذي يرتفع الاهتمام بالثقافة البورجوازية التي تصير ثقافة المجتمع ككل، ويصير التأثر بها من قبل العمال وسائر الكادحين وسيلة لارتفاع وتيرة الاستهلاك. لهذا كان لابد لمؤسسي الماركسية والماركسيين من الاهتمام بتثقيف الطبقة العاملة وصولا إلى جعلها تتمثل قيمها الثقافية التي تميزها كطبقة تسعى إلى بناء حزبها الثوري الذي يقود نضالها من اجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في ظل النظام الاشتراكي.
و على المستوى المدني كان على مؤسسي الماركسية وسائر الماركسيين الاهتمام بالتمييز بين الطبقة البورجوازية ومن يدور في فلكها، وبين الطبقة العاملة التي تعيش في المجتمع على أنها من الدرجة البشرية المتدنية الفاقدة لانسانيتها، والمحرومة من حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، أي أن فكرة المساواة التي صاحبت قيام البورجوازية في ثورتها ضد الإقطاع سرعان ما تحولت إلى دونية تعاني منها الطبقة العاملة بصفة عامة، وتعاني منها المرأة العاملة بصفة خاصة. وهو ما ترتب عنه تعميق مآسي الاستغلال التي تترتب عن احتقار البورجوازية للطبقة العاملة ولسائر الكادحين.
و على المستوى السياسي فقد عايش منظرا الماركسية حرمان العمال من تنظيم أنفسهم أو من الانتماء إلى تنظيم معين تكون مهمته قيادة الطبقة العاملة في نضالاتها من اجل تحسين أوضاعها المادية والمعنوية، أو من اجل القضاء على الاستغلال بتحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية جماعية.
و هذه الأشكال من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي هي التي ساهمت في جعل منظري الماركسية ماركس وانجلز يهتمان بالمجتمع البورجوازي بصفة عامة، وبوضعية الطبقة العاملة بصفة خاصة، ويختاران الانحياز إلى الطبقة العاملة، ويسعيان إلى تنظيمها، وقيادة نضالاتها، ولكن قبل ذلك بصياغة النظرية الاشتراكية العلمية التي تساهم في جعل الطبقة العاملة وحلفائها يمتلكون وعيهم الطبقي. ويتوصلان إلى وضع القوانين العلمية التي تساعد على ذلك، وترفع مستوى أداء الطبقة العاملة النضالي.
و إذا كانت الماركسية هي نتيجة لانتقال البشرية من التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الإقطاعية إلى التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية وفي ظل الشروط التي وقفنا عليها، فهل تصير الماركسية مرتبطة بهذه المرحلة فقط أم أنها تكون صالحة لكل زمان ولكل مكان فيما بعد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تكون الماركسية صالحة للمستقبل؟
إن القول بصلاحية الماركسية للمستقبل ينفي عنها طابع التاريخية والنسبية، ويكسبها طابع الاطلاقية. وقد أشرنا في الفقرات السابقة إلى أن الماركسية كمنهج وكهدف تجمع بين النسبية/التاريخية وبين الاطلاقية. فالماركسية كمنهج هي مجموعة قوانين متبعة في دراسة تاريخ البشرية، وفي تحليل الواقع. وهذه القوانين تتفاعل باستمرار مع ما تتوصل إليه البشرية في مجالات العلوم والتقنيات والفلسفة والآداب، ومع ما يحصل في مناهج العلوم بالخصوص من تطور يستلزم تطوير المنهج الماركسي حتى يستطيع استيعاب ما يحدث من تحولات في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي، وحتى تصير قادرة على الفعل في ذلك الواقع. وتجعل أحلام البشرية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية قابلة للتحقق. والمنهج الماركسي بذلك يجمع بين النسبية والتاريخية بحسب ما كان، وبين الاطلاقية بحسب ما يكونه. وبالتالي فالماركسية بحسب التطور المستمر للمنهج الماركسي صالحة لكل زمان ومكان. وكذلك الشأن بالنسبة للماركسية كهدف الأمر الذي يمكن تصنيفه إلى مستويين، مستوى الهدف المرحلي الذي تناضل الحركة الماركسية على أساس تحقيقه في مرحلة معينة، ليصبح بذلك متجاوزا في مرحلة أخرى، وصالحا لمكان معين وغير صالح لمكان آخر. لأن البرنامج المرحلي يرتبط بالشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية التي يعيشها الناس في مكان معين، وفي مرحلة معينة. وهذه الشروط هي التي تقرر نسبية وتاريخية الهدف المرحلي الماركسي. ولكن عندما يتعلق الأمر بالماركسية كهدف استراتيجي كحلم كوني تحمله البشرية المعذبة وتسعى إلى تحقيقه في المستقبل المنظور. وبالتالي فالماركسية في هذه الحالة تفقد أن تكون نسبية وأن تكون تاريخية، لأن كل إنسان عندما يتجرد من المصلحة الفردية الانتهازية، والمصلحة الطبقية. فإنه لابد أن يحلم بكونية الحرية والديمقراطية والاشتراكية كمكونات متلازمة لتحقيق ذلك الحلم البشري.
و انطلاقا من صلاحية المنهج الماركسي لكل زمان ومكان، ومن كون الهدف الاستراتيجي قائما وحاضرا في وجدان المقهورين الحالمين بالغد الأفضل. فإننا نستطيع أن نقول بأن الماركسية صالحة للمستقبل لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا في مثل هذه الحالة هو:
ألا تنفي صلاحية الماركسية للمستقبل في كل مكان، وعلى المستوى الكوني نسبيتها وتاريخيتها؟
و كما قلنا في الفقرات السابقة، فإن نسبية وتاريخية الماركسية قائمة في المنهج الماركسي وفي الأهداف المرحلية التي قد تؤدي إلى إنجاز تجارب ماركسية معينة، كما قلنا كذلك. فالاطلاقية قائمة في المنهج وفي الهدف. ولذلك فصلاحية الماركسية للمستقبل لا تعني إلا صلاحية إعمال المنهج الماركسي في تطوره المستمر في التحليل الملموس للواقع المستقبلي الملموس سعيا إلى إنجاز البرامج المرحلية الماركسية التي وضعت لتتناسب مع الواقع المستقبلي في أفق تحقيق الهدف المرحلي الذي يتحول بدوره إلى وسيلة لتحقيق المرحلة الأعلى التي هي مرحلة زوال الدولة أو المرحلة الشيوعية. فالتاريخية والنسبية قائمة، والاطلاقية ستبقى قائمة في جوهر النسبية والتاريخية.
و هذا التصور الماركسي، ونظرا لإصرار منظري الرأسمالية على اعتبار المرحلة الرأسمالية هي نهاية التاريخ، يدفعنا نحن أيضا إلى طرح نفس السؤال، ولكن بصيغة أخرى.
ألا يمكن أن نعتبر أن تحقيق المرحلة الشيوعية كأقصى ما تسعى إليه الماركسية هو نهاية التاريخ؟
فالماركسية بمنهجها الجدلي لا تسبق التاريخ بقدر ما تدرس الواقع، وتتوقع ما يؤول إليه بناء على معطيات الواقع نفسه. ولذلك فهي لا تدرس المرحلة الشيوعية إلا بعد تحققها، وهي تدرس الاشتراكية المتحققة في تطورها لتعرف ما هي الخطوات التي يجب اتباعها لتجاوز الحاجة إلى الدولة باعتبار ذلك التجاوز بداية ومدخلا لتحقق المرحلة الشيوعية. والماركسية في دراستها تلك تستفيد من التطور الذي تعرفه العلوم الدقيقة والتقنيات المتطورة والفلسفة والآداب، ومن التجارب التقدمية والديمقراطية والاشتراكية من اجل تطوير المنهج الماركسي وتطوره ليكون اكثر نجاعة، واكثر إفادة في التحليل الملموس للواقع الاشتراكي الملموس من اجل تطوير ذلك الواقع في اتجاه خدمة تحقق المرحلة الأعلى وفي أفق ذلك فالماركسية مستمرة كمنهج وكهدف.
و في حالة الاعتقاد أن الماركسية تتوقف عند مرحلة معينة ألا يتناقض ذلك مع طبيعة الماركسية نفسها؟
إننا نرى أن الماركسية باعتبارها منهجا وهدفا لا يمكن أن تتوقف عند حدود معينة، لأن ذلك معناه توقف التاريخ، وتوقف التاريخ غير وارد، والمنطق المادي الجدلي-التاريخي يرفض وينبذ توقف التاريخ. والوصول إلى المرحلة الشيوعية ليس إلا بداية لتاريخ آخر من التطور ستقف الماركسية على حقيقته بعد تحقق المرحلة الشيوعية التي ستنتفي منها جميع الأمراض الاستغلالية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية بانتفاء الحاجة إلى الدولة.
فما هي العوامل التي تجعل الماركسية تاريخية وصالحة في نفس الوقت لجميع الأزمنة وفي جميع الأمكنة؟
إن الماركسية كغيرها من الظواهر جاءت مرتبطة بظهور المجتمع الرأسمالي، الذي يمكن اعتباره شرطا أساسيا ومركزيا وضروريا لظهور الماركسية. وهي من هذه الناحية لا يمكن أن تكون إلا تاريخية وتاريخيتها تلك لا تنفي كونها صالحة لكل زمان ومكان ويمكن أن نسوق في هذا الإطار مجموعة من الشروط التي تدعم ما ذهبنا إليه، ومنها:
1) كون الماركسية هي نظرية الطبقة العاملة التي تساعدها على امتلاك الوعي الطبقي الذي يجعلها تنتظم في الإطارات الجماهيرية من اجل المطالبة بتحسين أوضاعها المادية والمعنوية، كما تنتظم في حزب الطبقة العاملة من اجل النضال في أفق تحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية جماعية حتى يتم وضع حد للاستغلال الممارس على الطبقة العاملة.
2) ظهور الطبقة العاملة مباشرة بظهور النظام الرأسمالي على أنقاض النظام الإقطاعي، لتنتقل البشرية المقهورة من عبودية العمل في الأرض إلى عبودية العمل في المصانع، وفي شروط تتناقض مع إنسانية الإنسان بسبب همجية الاستغلال الذي كان يمارس على الطبقة العاملة مع بداية المجتمع الرأسمالي خدمة للرأسمال، وللبورجوازية التي كانت تفرض على العمال اكثر من ستة عشر ساعة يومية. ولا يوجد شيء اسمه الإنسانية. فإذا مات عامل أو عجز عن العمل فإنه يعوض بعامل جديد، ودون وجود شيء اسمه حقوق العمال، أو حقوق الإنسان رغم أن البورجوازية كانت ترفع شعارات في هذا الاتجاه قبل انتصار الثورة البورجوازية.
3) كون الطبقة العاملة في حاجة إلى نظرية تعبر عن مصالحها الطبقية، وتجعلها تمتلك وعيها الطبقي الذي تتوحد أمامه لتصير قوة للضغط من اجل انتزاع مكاسب اقتصادية واجتماعية وثقافية ومدنية وسياسية، وحماية تلك المصالح، والنضال من اجل القضاء على كل أساليب الاستغلال المادي والمعنوي.
4) تطور العلوم الطبيعية والفيزيائية والكيميائية والرياضية، وتطور الفلسفة المادية بالخصوص والمثالية بصفة عامة مما ساعد على اكتشاف قوانين الدياليكتيك المادي كتطوير للدياليكتيك الهيكلي الذي تم توظيفه في قراءة التاريخ البشري لاكتشاف قوانين المادية التاريخية وصولا إلى امتلاك نظرية الصراع الطبقي التي ساعدت على اكتشاف أن التاريخ البشري هو تاريخ الصراع الطبقي ليس إلا، وما سواه ما هو إلا تاريخ مزيف.
5) كون الطبقة العاملة في النظام الرأسمالي هي طليعة المجتمع، لأنها هي التي تنتج الخيرات التي يحتاج إليها جميع الناس، لعلاقتهم المباشرة مع وسائل الإنتاج ولأنهم في إمكانهم توقيف الإنتاج وخنق البورجوازية في حالة امتلاكهم للوعي الطبقي وفي مرحلة معينة اقتضت ذلك الخنق.
6) كون النظام الرأسمالي في بدايته كان ليبراليا مما وفر إمكانية قيام تنظيمات نقابية في صفوف الطبقة العاملة، بالإضافة إلى إمكانية قيام حزب الطبقة الذي يحق له أن يسمى بالحزب الثوري الذي يعتمد نظرية الطبقة العاملة إيديولوجية له، وأن هذه الإيديولوجية هي التي تعتمد أوعى عناصر الطبقة العاملة المنظمة في الحزب في التحليل الملموس للواقع الملموس.
7) ظهور مثقفين ثوريين من خارج الطبقة العاملة من أمثال ماركس وانجلز، الذين تصدوا لبناء نظرية الطبقة العاملة، ولدراسة الواقع دراسة علمية دقيقة لمعرفة ما يجب عمله من اجل وضع حد للاستغلال الذي تتعرض له الطبقة العاملة.
و هذه الشروط وغيرها هي التي تحكمت بشكل كبير في ظهور الماركسية، وفي تاريخيتها وفي صلاحيتها في نفس الوقت لكل زمان ولكل مكان مستفيدة في ذلك من تطور العلوم الدقيقة والعلوم الرياضية والتقنية التي تجعل القوانين الماركسية تتطور بدورها باستمرار.
و صلاحية الماركسية لكل زمان ومكان تدفعنا إلى طرح السؤال: ألا يمكن اعتبار تلك الصلاحية داعيا لاطلاقية الماركسية.
و كما أشرنا إلى ذلك سابقا، فالقوانين الماركسية المادية الجدلية والمادية التاريخية تجمع في بنياتها النسبية والتاريخية والاطلاقية في نفس الوقت. وما ذهبنا إليه يجعلنا نتجاوز هذه الوضعية المتعلقة بالاطلاقية. والماركسية عندما لا تكون كذلك تفقد قدرتها على التجدد والتطور واستيعاب الواقع في جوانبه المختلفة والعمل على تغييره، وبنفس المنهج انطلاقا من الشروط التاريخية والموضوعية التي يعرفها الواقع موضع التغيير.
و بعد وقوفنا على نسبية الدين وتاريخيته ونسبة الماركسية وتاريخيتها نجد أن كلا من الدين والماركسية ارتبط بمرحلة تاريخية معينة وتفاعل مع شروطها التاريخية أثناء التبلور قبل اخذ الصيغة النهائية التي صار عليها الإسلام، وصارت عليها الماركسية. وهذه النسبية والتاريخية هي التي تجعلنا نعتبر أن الدين ارتبط بعجز الإنسان عن معرفة الواقع معرفة علمية فبحث عن الأسباب خارج حركة الواقع ليجد تفسيرا لما يجري. ذلك التفسير الذي تتحكم فيه طبيعة الدين من جهة ومستوى الإنسان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي من جهة أخرى، وطبيعة العصر الذي ظهر فيه ذلك الدين، وهل تسمح بقدرة الدين على التطور أم لا؟ فالبحث عن معرفة الواقع خارج الواقع من الغيبي واللامرئي يعتبر دليلا على تخلف الإنسان المعرفي وعلى نسبية الدين وتاريخيته. الأمر الذي يقتضي وجود أديان مختلفة في نفس المرحلة التاريخية، وقد تكون تلك الأديان متعايشة، أو متصارعة في نفس الزمان وفي نفس المكان. كما أن تلك الأديان قد تكون متعاقبة كل دين منها وجد في عصر معين، وتناسب مع من عاش في ذلك العصر. وتحول مع مرور الأيام إلى دين غير صالح للاستمرار لعجزه عن الإجابة على تساؤلات الإنسان المصيرية بسبب ادلجته من قبل طبقة اجتماعية معينة لخدمة مصالحها الطبقية، ولحماية تلك المصالح في نفس الوقت، إلى أن جاء الدين الإسلامي الذي يعتبر اكثر قدرة واكثر استجابة لرغبة الإنسان، واكثر قابلية للجمع بين النسبية والاطلاقية، واكثر تناسبا مع مرحلة بدأ الإنسان فيها يعرف كيف يفسر الواقع اعتمادا على التراكم المعرفي الذي اصبح متوفرا عند البشرية بسبب ظهور فلسفات معينة، وتداول آداب معينة وارتفاع مستوى الإنسان إلى درجة التفاعل مع الواقع وبين الشعوب اعتمادا على ما يقتضيه المنطق العقلي الذي يكون سائدا في مرحلة تاريخية معينة "جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" " وفي أنفسكم أفلا تبصرون" "أفلا يتدبرون القرءان"، ومعلوم أن التعارف والبصر الذي يعني النظر العقلي، والتدبر هي ممارسات ذهنية يقوم بها الإنسان لاكتساب معرفة جديدة، ولتطوير ما عنده من معارف حول الواقع، وحول الدين في نفس الوقت وفي العلاقة بين الدين والواقع، حتى يستطيع الإنسان معرفة الأسباب والنتائج من جهة. وجعل الدين مساعدا على معرفة تلك الأسباب والنتائج في حالة عجز الإنسان عن معرفتها بنفسه. وهذه الخاصية التي تميز الدين الإسلامي هي التي تجعله لا يتناقض مع العلم، ومع العمل العقلي وهي التي جعلته صالحا لكل زمان ومكان. ونفس المنحى نقوله عن الماركسية التي تحمل في بنياتها النسبية والتاريخية في نفس الوقت. إلا إنها تختلف عن الدين في كونها لم تظهر إلا بعد حدوث تطور هائل في حياة البشرية، وتجاوزها للتشكيلات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وانتقالها إلى التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية التي جاءت مرتبطة بالتطور المعرفي والعلمي الذي ساعد على انتقال البشرية إلى الإنتاج الرأسمالي. ولذلك فارتباط ظهور الماركسية بالنظام الرأسمالي يقرر نسبيتها وتاريخيتها، واعتبارها صالحة لكل زمان ومكان لا ينفي نسبيتها وتاريخيتها. وطبيعة منهجها وهدفها تقتضي السعي المستمر إلى التطور في جميع المجالات، وتطوير المنهج الماركسي في نفس الوقت. مما يجعل نسبية الماركسية تتجدد باستمرار نظرا لتجدد المنهج، وتجدد الأهداف المرحلية وتجدد الهدف الرئيس في نفس الوقت.
و التقاء الدين والماركسية في النسبية والتاريخية يفرض إزالة العداء المفترض بينهما لأن الدين ساعة ظهوره لم يكن هناك شيء اسمه الماركسية، كما أن ظهور الماركسية صادف صيرورة الدين، أي دين جزءا من الواقع المادي لا يمكن إلغاؤه بأي حال من الأحوال. وهذه النسبية والتاريخية هي التي تحدد إلى أي حد قام كل دين بدوره في مرحلة تاريخية معينة، وقامت الماركسية ولازالت تقوم بدورها في هذه المرحلة التاريخية، وكون الدين لازال مؤثرا في الواقع فإن ذلك لا يتعارض مع الدور الذي لعبته الماركسية كما لا يتعارض مع ما يمكن أن تقوم به مستقبلا، إذا تعاملت الماركسية مع الدين كقوة مادية قائمة في الواقع.
و العداء المفترض القائم بين الدين والماركسية هو من افتعال مؤدلجي الدين الإسلامي الذين يعطون لتأويلاتهم طابع النص الديني، ويصبغون عليه القداسة. لأن مؤدلجي الدين الإسلامي يعتبرون الماركسية تشكل خطورة على مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية القائمة في ادلجتهم للدين الإسلامي. والماركسية بدورها عندما تصطدم بالتوظيف الإيديولوجي للدين، فإنها تجد نفسها مضطرة لتفكيك تلك الادلجة، وليس الدين الذي تعتنقه الجماهير، لأنه ليس من مصلحتها الاصطدام بالجماهير الشعبية الكادحة في نفس الوقت. والماركسية في تفكيكها لأدلجة الدين عليها أن تميز بين الدين كمعتقد يستقر في وجدان الجماهير ليشكل بذلك قوة مادية، وبين ادلجة الدين الإسلامي، التي تمارسها توجهات سياسية معينة تدخل في صراع مع الماركسية لتناقض منهجها وأهدافها مع منهج الادلجة، ومع أهداف تلك التوجهات السياسية.
و كيفما كان الأمر فإن نسبية الدين وتاريخيته، ونسبية الماركسية وتاريخيتها مع الاختلاف النوعي القائم بينهما سيكون من الوسائل التي تساعد على إزالة العداء المفترض بين الدين والماركسية.
و من جانب آخر، فإطلاقية الدين التي تقتضي انه صالح لكل زمان ومكان، وكما يؤكد على ذلك كل مؤدلجي الدين مهما كان مستوى ادلجتهم للدين، وإطلاقية الماركسية المستفادة من طبيعة المنهج الماركسي قد تقود إلى التصادم بين المنهجيتين المنهج الديني المطلق الذي ينفي كل ما يتعارض مع تلك الاطلاقية، والمنهج الماركسي المطلق الذي ينفي بدوره المنهج الديني المطلق. وكلتا المنهجيتين إذا جردناهما من نسبيتهما وتاريخيتها فإنهما تقودان البشرية إلى الدخول في متاهات من الصراع الدموي الذي لا حدود له. ولذلك كانت العلاقة بين إطلاقية الدين وإطلاقية الماركسية علاقة سلبية. لأن الصراع ما بين الدين والماركسية هو صراع غير طبيعي. لأن الصراع الطبيعي لا يكون إلا بين طبقة تمارس الاستغلال، وطبقة يمارس عليها الاستغلال. ولأن الطبقة الممارسة للاستغلال لا تملك إيديولوجية في مستوى قوة الإيديولوجية الماركسية، فإنها تؤدلج الدين لتضليل الكادحين ومواجهة الماركسيين، وفي مثل هذه الحالة فإن الصراع الطبقي يتخذ طابع الصراع الديني الماركسي وذلك هو التضليل القائم في الواقع لتبقى العلاقة بين الدين والماركسية في مثل هذه الحالة سلبية.
فما هو موقف مؤدلجي الدين الإسلامي من نسبية الدين وتاريخيته؟ وما موقفهم من اطلاقيته؟
إن مؤدلجي الدين الإسلامي الذين ينكبون على تأويل الدين الإسلامي باستمرار بما يتناسب مع انتماءاتهم الطبقية المختلفة لخدمة المصالح الطبقية المتغيرة باستمرار مما يكرس نسبية الدين وتاريخيته من خلال نسبية وتاريخية تأويل النص الديني يصرون على إطلاقية الدين بصفة عامة، وإطلاقية الدين الإسلامي بصفة خاصة، حتى يضمنوا لأنفسهم إطلاقية تأويلهم للدين الإسلامي باعتبار تلك الاطلاقية طريقة للتقديس. لأن الدين في عمقه هو تقرير المقدس في الاعتقاد وفي الممارسة اليومية. وإذا كان المقدس يتغير من دين لآخر، فإنه يصير في فكر وفي ممارسة مؤدلجي الدين الإسلامي مطلقا لضمان قداسة ممارستهم لأدلجة الدين الإسلامي ومن خلالها قداسة مؤدلجي الدين الإسلامي أنفسهم. فالاطلاقية هي الواردة عندهم لأنها هي مصدر قداستهم. والنسبية والتاريخية غير واردة عندهم، بل إن من يقول بها يصير كافرا وملحدا في نظرهم، لأنه بتقرير النسبية والتاريخية الدينية يفقد مؤدلجوا الدين الإسلامي قداستهم التي لا تعني إلا تهديد مصالحهم الطبقية التي تقف وراء الادلجة ووراء القداسة، وموقف مؤدلجي الدين الإسلامي ذلك لا يهدف إلى الحفاظ على قداسة الدين الإسلامي بقدر ما يهدف إلى تضليل الجماهير الشعبية الكادحة وطليعتها الطبقة العاملة حتى يتكرس استغلالها الهمجي من قبل الطبقات الحاكمة وسائر الطبقات القائمة على أساس ادلجة الدين الإسلامي، ومن الأحزاب القائمة على أساس ادلجة الدين، ومن الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي بما فيها اليمين المتطرف.
و الموقف العلمي والصحيح هو ما وقفنا عليه في الفقرات السابقة والذي ذهبنا فيه إلى الدين الذي يجمع في بنيته النسبية والتاريخية والاطلاقية، وأن الماركسية كذلك تجمع في بنيتها النسبية والاطلاقية. والقول بذلك هو الذي يعطي للدين بصفة عامة وللدين الإسلامي بصفة خاصة طابع الاستمرارية والتأثير في الواقع من خلال تحوله إلى قوة مادية في الواقع الاجتماعي. كما يعطي للماركسية طابع الاستمرارية والعمل على تغيير الواقع انطلاقا من الشروط الموضوعية التي تميز كل واقع على حدة.
و بذلك نكون قد قاربنا الإجابة على الأسئلة المتعلقة بنسبية الدين واطلاقيته، وبنسبية وتعددية الأديان عبر عبادة الشمس والقمر، والرعد والأشجار والنجوم والحيوانات والأشخاص، والأماكن والأوثان. وبنسبية الديانة السماوية واطلاقيتها، سواء تعلق الأمر باليهودية أو بالمسيحية أو بالإسلام. وبنسبية المذاهب الدينية والأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي، وعن دور الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية في تعدد الديانات، وتعدد المذاهب الدينية، وفي تعدد مؤدلجي الدين الإسلامي، وفي انفراز الأحزاب الدينية، وعن تاريخية الماركسية واطلاقيتها، وعن إمكانية اعتبار أهدافها هو نهاية التاريخ، وعن الشروط التي حكمت ظهورها، وكيف تكون صالحة للمستقبل، وكيف أن ذلك لا ينفي تاريخيتها، وما هي العوامل التي تجعلها كذلك حتى تتأكد نسبيتها واطلاقيتها. وعن العلاقة بين نسبية الدين ونسبية الماركسية التي تصير سلبية وعن موقف مؤدلجي الدين الإسلامي من نسبية الدين وتاريخيته، وعن الموقف العلمي من تاريخية الدين واطلاقيته وتاريخية الماركسية واطلاقيتها سعيا إلى إزالة التناقض المفتعل الذي صار قائما بين الدين والماركسية.