مَـريـَـمْ
شعـر في أوج لعـبه مع ابـنتهِ مريم، التي ستحـتفل بعـد أيام بعـيد ميلادها الخامس، أن الدنيا لاتـتسع له من فـرط السعادة وحب الحياة. وفي عـز لهوها وصياحها وهرجها وتقـلبها العـنيف بين ذراعـيه محاولِة الإفلات من قبضتهما، وبينما كان ضحكها يرش أرجاء البيت عـطرا وأريجا، كان هو لايكـف عن تأمل وجهها وقد تورّد واحمرّ في ذروة نـشاطِها وحـركـتها.
كان يشعر أن لعـبَهُ مع طـفـلته هو ضرب من الصلاة التي تسمو به على جناحي الحـبور والرضا إلى علياء البهجة الكاملة. إنها صلاةٌ لخالـق السموات والأرض... خالق البشرية... كيف يجعـل من الإنسان أكثر من إنسان واحـد... جنينا فوليدا فرضيعا فحابـيا فـطـفلا فـصـبـيا فـفـتى فـشابا فـرجلا فـكهلا فـشيخا فعـجوزا. سـبحانك اللهم، أسجُـدُ للـطفولة التي خـلقـتها... لأنها أروع ما عـمّرتَ به الأرض... كيف يترعـرع الإنسان كما الزهر ويتفـتح... يتلعثم، يحبو، يمشي، كيف يتلمس الكـون من حوله، كيف يدركه رويدا رويدا. سبحانك اللهم. أية رقة أودعـتَ في الطـفولة.. أية عـذوبة أية حـلاوة أية سـذاجة.. أي جمال.. أية متعة للعـين.. أية استـراحة للقلب.. أية سعادة للوالدين. سبحانك اللهم على مخلوقـك الطفل.. كيف يتحول بشرا سويا ناضجا فكأن ذلك الطفل ما كان... كأنه مات... كأنه رحل إلى عالم آخر. أبناؤنا اللهم يكبرون ويشبون أم كلما كبروا يموتون متفتقـين عن أبناء آخرين... لحظة فلحظة يتخـلَـقـون، يوما فيوما ينمون … حـولا فحولا ينشأون... ويتبدلون، ونحن لا نعي ذلك إلا على ومضات متقـطعة ومتباعـدة، لا نقوى على أن نصـدِّق ما تـشاهـده أعـيننا، فكأنما يحدث لأول مرة في التاريخ. نريدهم كبارا وفي ذات الوقت نريدهـم أطفالا يانعـين نـضرين.
وفي خضم أفكاره هذه ضم إبـنـته إلى صـدره بحنان هـدّار، فيه كل الحب الذي يقـدر عـليه إنسان... كل الحنان الذي بذرتـَهُ اللهم في الأرض يُثمر لحـظة عـناق الأم أو الأب لطفـلهما... نريدهم يارب هكذا صغارا ضعفاء يلجأون دوما إلى صدورنا، ونريدهم شبابا قد اشتد عـودهم، يملأوننا فخرا ونشوه... وبينما هم يكبرون نكبر نحن أيضا ونشيخ ولا نعي ذلك إلا على ومضات... ونودّ لو نـتعـلق بأذيال الزمان... نستوقـفـُهْ.. نستحلفه بالله أن يسكن لحظة.
وراحت الصغـيرة تحاول الإفلات من بين ذراعيه من جديد، باذلة قصارى جهدها للتملص منهما. وكانت كلما فكَـت نفسها وأفـلتـت، بـتـسهيل من أبـيها بالطبع، قـفـزت جـذلانـة فـرحة تـُردِّد لهُ بصوت يهـز جـدران البيت أنها قوية جـدا وأنه ليس بوسعه أن يـمنعـها من الإفلات من قبضته. ثـم بعد ذلك تعـود لتحـبس نفسها بين ساعديْه مرة أخرى في تحـدّ جديـد تتـطـلع فيه إلى إثبات شطارتها وقـوّتها لأبـيها عـلـّها بذلك تحـتفـظ باهتمامه بها إلى أطول وقت ممكن صارفة إياه عـن أخـتها الكبيرة وشـقـيقـها الرضيع.
وعاد يتأمل الوجه المتورد وجماله الساحر، يتمتع بتأمله أشد متعة. وتذكـّـر طـفولته هو ... لحـظات متفرقة من تلك الطفولة البعيدة... تلك المرحلة من عـمر الإنسان هي الوردة الفـواحة الفـريدة فـيه، والتي يظـل شذاها عابقا يلف الوجدان حتى ساعة الممات. أما طـفـولة أبـنائنا فهي البستان المعـطار الوحيد الذي يتاح لـنا دخوله بعـد طفولتنا، والفارق بينهما شاسع، وهو لصالحنا، فالإنسان منا لايعـي طـفـولته إلا وقد فات الأوان وذهـبت أدراج الرياح... أما طفولة أبنائنا فـنعـيها إن شـئـنا كل الوعي، ونتمتع بها يوما بعد يوم... بإمكاننا أن نتأملها حتى الغرور ونـتحسسها حـتى الإدراك ونلـمسها حـتى الخِـدر ونـلـثـمها حتى الذوبان ونصغي لها حـتى الطرب... فهي طفولتنا الثانية التي يعجـز أطفالنا عن تذوق شهدها وأدراك أبعادها. وتـنبه من جديد على ابنته تصرخ به في خـضم لعـبها:
– هيا مرة أخرى يا بابا. أمسكني الآن جيدا، لاتدعـني أفلت. سترى كم أنا قوية يا بابا.
عشرون أو ثلاثون مرة أمسكها وتركها تفلت من يديه، وهي لاتكل ولا تسأم. فقال لها وهو يطبع على خدها قبلة جديدة:
– الآن سترين. لن تـتمكـني من الإفلات هذه المرة، سأشـدّ عـليكِ بكل قـوتي.
وشـدّ عـليها قـليلا فـإذ بها تـصرخ متأفـفة:
– لا تمسكـني بهذه القـوة يا بابا. إنه مُجـَـرّد لعِـب.
سـبحان الله. هي تعـلم أنه لعِـبْ وتريد في نفس الوقـت أن تـُـقـنع أباها بأنها قوية... يا لمنطـقـكـن العجـيـب أيتها الـنـساء... بل أيـتها الـطـفـلات الـرائعـات.
وفي ذروة نشوته الأبوية إذ بابنـته تـقـول وهي تـصارع ساعـديـْه:
– بابا... بابا، توقـف للحظة.
– أتوقف؟ لماذا؟ أسَـتـخـدعـينـني يا شاطـرة لتـفـلـتي مني بالحيلة؟ هذا ليس عـدلا يا حـبـيـبـتي. وتوقفـت عـن العراك وهي تلهث والابتسامة الواسعة قـد حـوّلـت وجـهها شـمـسا مـشرقه، ثم قـالت ضاحـكة:
– لا والله يا بابا. فقط أريد أن أسـألك شـيـئا.
وتوقـف عـن الضغط عليها بين ساعـديْه وعـيناه تـتغـذيان سـعادة من عـينيـها، فسألـته:
- هل تعـرف ما هو يوم الأربعاء؟.
– يوم الأربعاء؟.
وترددت ضحكتها كزقزقة العصافير وهي تـقـول إزاء إسـتغـراب أبـيها من السؤال:
– الأربعاء يا بابا. لقد سألـتُ ماما وقالت لي أنه سيكون يوم الأربعاء.
وتـصـنـّع أنهُ لم يـُدرك مغـزى حـديـثها، فقال لها:
– آه. إنه عـيد مـيلادي ياحـبـيـبـتي؟.
وضجت ضاحكة من جديد وهي تردد:
– عيد ميلادك؟ كم عـيد ميلاد لك يا بابا؟ لقـد احـتـفـلنا بعـيد ميلادك وانـتهى الأمر.
– آه... صحيح... معـك حـق. إذن فالأربعاء سيكون عـيد ميلاد أخـتـك لـمياء. أتـرين كيف أعرف؟
وقـرقـَـرَت في ضـحِـكها وهي تردد:
– كلا. كلا. إنك لاتعـرف ما هو يوم الأربعاء.
– إذن فـلماذا لا تقولين لي وتـريحـينني. إنني رجلٌ عجوز فقـدتُ الذاكـرة.
وأغربت الطفلة بضحكها الرنان، الذي كان له وقع أعذب الموسيقى على سمع أبيها، وقالت وهي تغالب
الضحك :
– عـجوز يا بابا؟ انك بعد مازلت شابا فلا تقل مثل هذا الكلام. إن يوم الأربعاء هو عـيد ميلادي.
وتـصـنـّع المفـاجَـأة. وضـرَبَ بـيـدِه عـلى جـبهـته وهـو يقـول:
– آه. بالفعل. إنه عـيد ميلادك ياحـبـيـبـتي. وسنعـمل لك هنا حـفـلة جميلة كما اتفـقـنا.
– لقـد كـبرتُ سـنة أخـرى يا أبي وأصـبحـت أكـثر قـوة، وسأثبت لك ذلك الآن. هيا أمـسك بي من جـديد.
وسارعت بالعودة الى ما بين ذراعيه وهي تدعوه ليمنعها من التخلص منهما، أما هو فقد راح يفكر بعيد ميلادها الآزف، فكأنما عاود الإنتباه الى ساعة الحياة وعقربيها المتسابقين...غدا تكبرين يا ابنتي، كما كبرت أختك. ولمعت في ذاكرته الدموع التي شاهدها في عينيّ والده أكثر من مرة وهو يتأمله ويتأمل إخوته وقد أصبحوا رجالا ونساءا لهم أولادهم... آه ياصغـيرتي لو تعـرفـين كـم تألمتُ عـندما سمعـتُ والدي يقول لنا قبل أيام وعـيناه محمرتان تغالبان الدمع المترقرق فيهما: - " أيا ليتـني أعود للحظة واحدة إلى تلك السنوات السعيدة، عندما كنتم صغارا تركضون وتلعبون ويضـج بكم البيت حتى يكادُ يـمـيد. تلك الأيام التي كـنتم تلعـبون فيها بين رجليّ كالقطط وتجلسون على حجـري فأحـضنـكم وأشم عبير طـفولـتكم... ما أسعدها من أيام هي أجمل ما في الحياة ". لكم آلمه سماع هذا الكلام من أبيه لعـدة مرات خلال السنوات الأخيرة... كان فـيها يتألم لألمه... وينظر إلى عـينيه فيرى فيهما إطلالة حنين والتياع... ومعالم شيخوخة. كان يتمنى لو أنه يعود طفلا ولو للحظة كي يحـقـق لأبيه تلك الأمنية الغالية والمستحيله.
وغاب الرجل عن دنياه للحظات تخيل خلالها أن العمر قفز به لأكثر من ربع قرن نحو المستقبل، فأصابه الذعـر. وعاودته عينا والده والدمع فيهما يترقرق، وتخيل أبناءه الثلاثة وقد كبروا وابتعدوا عنه وعن أمهم وانشغلوا بأبنائهم وأزواجهم، فهذه سنة الحياة وعجلتها التي لاتملك سوى الدوران الحثيث الذي لايبقى على شيء وينتهي بكل شيء الى الفناء. ورآى نفسه أشيب الرأس قد ملأت وجهه التجاعـيد وخبا البريق من عينيه ووهـنت عظامه ودب الألم في مفاصله، وتخيل زوجته وهي في حال مشابه لحاله، وكلاهما في البيت وحيديـْن بلا مستقبل ولامشاريع ولا أقرباء ولا أصدقاء، فمعظمهم قد تساقط على طريق الزمان، الواحد تلو الآخر.
وتصور طفلته الحلوة وقد أضحت سيدة وانشغلت عنه وعن أمها بألف صغيرة وكبيرة يتكون منها مشوار الحياة القصير، ورآها وهي لا تذكر من لعبها معه في طفولتها سوى مشاهد عابرة كادت السنوات المتراكمة أن تمحو معالمها من الذاكرة. وتصورها وهي بعيدة عنه في حياتها المستقلة لا تحتاجه بشيء، وهي التي أمضت سني طفولتها ملتصقة بأبويها ومعتمدة عليهما في كل شؤون حياتها العذبة، بل ولسنوات أخرى كثيرة بعد الطفولة.
ورآى الكون من حوله يبابا والأفق خاويا، وعجوزيـْن في البيت قابعـيـْن لا قيمة لهما في قلوب أولادهما سوى تلك التي يفرضها عليهم الحد الأدنى من الرحمة أو الحنان أو الخجل... والأسماء سيان مادامت النتيجة واحدة. وتخيل نفسه وزوجته جالسين لوحدهما في منزل لا يسمع فيه سوى سعالهما، ينتظران بفارغ الصبر أن يـُطرق بابهما ولو مرة في الأسبوع أو أن يرن جرس الهاتف ولو مرة في اليوم. ورآى نفسه لايجـتمع بأبنائه إلا في مناسبات متفرقة، وهو ينظر إليهم بشوق وحنان ويرى فيهم صغاره الذين كم أكلوا من راحة يده كما العصافير، بينما هم ينظرون إليه فلا تهزهم ذكرى ولا ينتفض لهم قلب، فمسؤولياتهم لا تدع لهم فرصة لمثل هذه الأمور العاطفية تجاه شيخين ليس فيهما سوى ماض وذكريات. شـيخان مرشحان للموت في أية لحظة، حتى أن منيتهما تصبح، اذا ما حانت ووقعت، مجرد مناسبة حزينة للأبناء، متوقعة ومنتظره، سرعان ما يطويها النسيان بعد أسابيع من الحـزن الروتيني يجرفهم بعـدها تيار حـياتهم اليومية إلى النسيان التام، اللهم إلا ذكرى عابرة عن والديهم تعـتري أذهانهم وترتعش لها قلوبهم من وقت لوقت بينما هم يتأملون نمو الأبناء بشغـف وخوف من المستقبل..
وهاله المنظر القاتم الذي تجسد في مخيلته وارتعدت فرائصه وهو يتصور نفسه يتلوع على لحظة سعيدة يقضيها بسلام وحبور مع أطفاله، فاخـضوضلـت عيناه بالدمع.
– بابا. بابا. ماذا بك؟ لماذا لا تشد عليّ؟ لماذا لا تلعـب؟ لماذا أدمعَـت عـيناك؟.
وشدّه صوت طـفـلته من عالم المستقبل ليعيده إلى اللحظة الحاضرة فتأمل عـينيـْها كأنه يستيقظ من كابوس مروع وعانقها بقوة كأنه يمنعها من أن تفر من بين يديه. وراحت الصغيرة تحاول الإفلات منه متذمرة حتى اضطر أن يتركها تفلت كما الحمامة التي تنطلق من عشها. ولكنه كان يشعر بسعادة عارمة. كما لو أنه تمكن من تحقيق حلم أبيه، ولكن لنفسه، فها هو قد عاد القهقرى بالزمان من الشيخوخة إلى الشباب... وها هو يعود إلى احتضان صغيرته، وينعم بقرب أطفاله، فابنته الكبيرة ذات التسع سنوات تشاهد التلفاز في الصالة بينما ابنه الرضيع يحتكر كل رعاية أمه في الغرفة المجاورة. وعجب للإنسان كيف لا يقـدِّر كل لحظة من عـمره يقضيها مع صغاره حق قدرها... وكل لحظة يعيشها مع كباره الماضين نحو الأفق البعيد. حتى إذا مر الزمان، ضرب الكف بالكف، وتلفت حوله فلم يجد من جنة الأمس سوى صحارى الذكريات.
وحمل صغيرته بين ذراعيه وهي في غاية السرور ومضى بها حيث كانت تجلس ابنته الكبيرة فضمها إليه وهي تحاول التخلص من عناقه كي يتسنى لها متابعة فيلم الرسوم المتحركة على شاشة التلفاز.
ثم انتقل الى جوار طفله الأصغر فحمله بين يديه، رغم احتجاج زوجته، وضمه إليه برفق وهو يتأمله مليا وابنته مريم تشده من ثيابه وتدعوه لمواصلة اللعب، ثم أطلق ضحكة سعادة وهو يردد بصوت عال، وزوجته لا تفهم تصرفه و لا تحدس ما يدور بخلده:
• يا بني. كم أنا سعيد بأن يكون يومنا هو اليوم.
انتهى