الجمعة ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم محمد يوب

ميكانيزمات الكتابة الروائية

تقديم لابد منه

إن المتتبع للكتابة الروائية في المغرب يلاحظ بأنها تسير في الطريق الصحيح بالرغم من العراقيل و الشوائب التي تعوق حركيتها وسيرها ، سواء على مستوى البنية الفنية أو على مستوى طريقة تناول المواضيع التي تشغل بال الروائيين المغاربة.

ومن بين الأصوات المغربية التي اهتمت بالرواية وتركت بصمة في المشهد الثقافي المغربي نجد الأديب و الروائي محمد مباركي الذي صدرت له مؤخرا روايته الموسومة ب"جدار" وهي رواية من الحجم المتوسط تمزج بين السيرة الذاتية و التخييل الذاتي،تحكي واقع الحال وتنشد تحطيم الجدار الذي يمثل المحال حيث حاول الروائي على لسان البطل تحطيمه ولو على مستوى الإبداع الأدبي.

فكلنا يحمل في ذاكرته هم الجدار سواء أكان ماديا أم معنويا، ولعل الجدار في الرواية يبقى في النهاية جدارات،غير أن أصعب جدار هو الذي يفصل بين الأقارب،جدار يتحكم فيه الحاكم المتسلط الذي يفرض على الناس نوعا معينا من الرأي حيث لا يتقبله العقل ولا تحتمله التشريعات الدينية و الدنيوية،إنه جدار من الوهم الذي يعشش من زمان في أدمغة المتسلطين، الذين يحملون أفكارا تخريبية، تهدف فصل الأحبة وبث روح الخصام و النزاع بينهم،لكن الناس يعرفون هذه اللعبة ويتجنبون الدخول في شد خيوطها إلى أن تنقطع بل يحافظون عليها كشعرة معاوية حيث لا يمكن للاختلاف في جزئيات الحياة أن تتسبب في قطع أواصر القربى بين الأحبة و الأقارب و الجيران،إنها صراعات مجانية لو اهتممنا بها لتسببت في زيادة الشرخ الغائر في النفوس.

في عمق الرواية

يروى بأن وليم فولكنر، الروائي الأمريكي، وجِه إليه أحد المهتمين بالأدب، إثر فوزه بجائزة نوبل للآداب: ماذا تود أن تفعل، لو خيرت، فيما تبقى لك من عمر؟ فكان جوابه: العمل حارسا في ماخور. قد تمر هذه الأمنية المستحيلة مرورا عابرا، فلا تلقى اهتماما من أولئك الذين لا يعرفون بأن المكان الذي تمنى فولكنر أن يمضي بقية عمره في حراسته، هو مخزن لا ينتهي للتجارب الإنسانية المتنوعة، التي تستثير كاتبا بمنزلة فولكنز.

ونحن هنا ونحن بصدد قراءة رواية جدار لو سألنا الأديب المغربي محمد مباركي نفس السؤال لرد علينا: أريد أن أعيش ما تبقى من عمري حارسا للأرض ولكن دون جدار.

إن رواية الجدار بديل للواقع وصورة مؤقتة له،فأحداثها وشخصياتها لا تميل إلى أبطالها الذين يتحركون في فضاء الرواية بل إلى أبطال يوجدون خارج فضائها ويمارسون أدوارهم وبطولاتهم في الحياة وفي اليومي المعيش.

وأحداثها تتميز بالتداخل بين عالم الحياة وعالم الأحداث الروائية،وهذا التداخل يترك الرواية في شكلها المفتوح حيث تدعو القارئ للمساهمة في صياغة الرواية و استكمال رؤيتها وشكلها.و الروائي عندما يكتب الرواية فإنه يؤرخ لأحداث عاشها في حياته ونقلها أدبا،فهو يؤرخ بمعنى ما،يمزج الواقعي بالخيالي،فهو بذلك يؤرخ ويسجل الحاضر انطلاقا من رصد الماضي وتتبع أحداثه الراسخة في ذهن الروائي.

اللغة و المضمر الثقافي

فاللغة الروائية هنا تلعب دور المرآة التي تعكس الواقع وتعيد صياغته في عالم روائي،فهو يتحدث عن الماضي ليثير انتباه القارئ لمآسي الحاضر لدفعه وحثه على الثورة عليه.ولهذا يمكننا القول بأن رواية "جدار" شهادة لزمانها الخاص الذي يتكون في رحم الزمن الموضوعي الذي يحلم به الروائي.

وهكذا نرى الأستاذ محمد مباركي يطوع اللغة الروائية ويجعلها قابلة للانحناء أمام الأحداث اليومية ويجعلها قادرة على التقاط تفاصيل الحوار اليومي و المعاناة المأساوية التي خلفها الجدار سواء بمفهومهه المادي أو المعنوي.

وهذا ما جعلها تميل إلى اللغة المباشرة المشحونة بالدلالات الفكرية العميقة،تختلط فيها الذاكرة بالارادة و الحلم بالتفاصيل لكي يجعل الرواية قادرة على القفز على المجهول الذي استطاع الروائي تفكيكه عبر فصول الرواية،فهو يفكك تفاصيل الحياة اليومية ليعيد تركيبها بل يدفع القارئ إلى المشاركة و المساهمة في إعادة تركيب هذا الهم المشترك الذي يلتقي فيه القارئ و الروائي.

فالقارئ يتساءل عن الجدار إنه البطل الخفي الذي يضبط إيقاع الرواية،وهو مركز الأحداث ومحورها،وهو رمز القمع و القطيعة و السلطة،فعندما نذكر الجدار تتداعى إلى أذهاننا مفاهيم وتأويلات متعددة،إنه يحرك في نفسية المتلقي رغبته في التحرر من هذه الفوارق وهذه الحواجز الوهمية التي يصطنعها المتبصون و المنتفعون من وراء هذه الأوضاع المكهربة،فعندما يقرؤها المغربي يفهم منها الجدار الوهمي الذي يفصل بين المغرب و الجزائر، وكذلك عندما يقرؤها الجزائري ،وعندما يقرؤها الفلسطيني خاصة و العربي عامة يفهم منها جدار الفصل العنصري، الذي يمزق أرض فلسطين ويجعلها تئن من مآسيه التي لا تنتهي، ويفهم منها كذلك الجدار الفولاذي الذي فصلت به مصر أرضها عن غزة السليبة،كما يفهم منها القارئ عامة جدار برلين الذي قسم دولة عظيمة، و هي دولة ألمانيا وذنبها أنها شاركت في الحرب ودافعت عن نفسها وكافحت الظلم وكان جزاؤها هو تقسيمها إلى دولتين من أجل تقزيمها وتسهيل الانقضاض عليها.

وما شخصية "العربي" في الرواية إلا إشارة إلى كل عربي يعيش حر الجدار،وما أكثر الجدارات التي تعترض طريق الانسان العربي، وأبرزها تلك الحواجز الجمركية التي تفرضها الحكومات على المواطنين العرب.و الجدارات الفكرية التي تحد من تفكيره بأن تضع له سقفا معينا وخطوطا حمراء لا ينبغي عليه تجاوزها،وأنواعا معينة من الكتابات التي تكرس الثقافة الرسمية، وتهمش ثقافة نشر الوعي التي تساهم في الرفع من المعرفة الراقية و الرفع من المستوى القرائي و المعرفي ببلداننا العربية،فهو شكل من أشكال السلطة حيث إنه يجعل بينه وبين المثقف جدارا مانعا،يعيق تحركاته وفضوله المعرفي و ويرفع أمامه لائحة طويلة عريضة من اللاءات.

هكذا تبدو الرواية مباشرة وتقليدية في لغتها لكنها في العمق الحقيقي تظهر أكثر رمزية وخاصة في بعدها الدلالي وما ترمي إليه الأحداث من تأويلات وتفسيرات.

من اللغة المعبرة إلى اللغة الواصفة

إن القارئ لرواية الجدار يلاحظ بأن الروائي استطاع اللعب باللغة باعتماده على الوصف و الحوار بين الشخصيات، مما أعطى للرواية حركية ودينامية، كما كان لعملية الوصف أهمية كبيرة تكمن في خدمة الأحداث وكأن اللحظة الوصفية هي التي البوابة التي تساعد الروائي على طرح أفكاره،و التعبير عن معاناته،حيث تصبح الكتابة شكلا للحياة، وكأن الروائي يبحث في هذه الرواية عن وجهه الضائع في الأحداث المتلاحقة التي يريد جمعها ولم شتاتها ليشكل بها موقفا.

فهو منذ البداية يكشف عن لعبته ويعبر عن موقفه وكأنه يسرد سيرته الذاتية أو تخييله الذاتي،يوظف الشخصيات توظيفا مباشرا وكأنها تعبر عن آرائه ومواقفه.إنه يحرك الشخصيات في فضاء الرواية كما يحرك الأراجوز الدمى بين أصابعه،يقسم عليها الأدوار كل حسب موقعه في الجملة السردية و المقطع الروائي،وهي في النهاية تعبر عن مواقفه وعن آرائه،حيث نراه متشبتا بتحطيم الجدار إلى آخر فصل في الرواية،وعند نحطيم الجدار يتحطم الوهم القابع في عقول الناس ويتحرروا من هذا الوهم المصطنع.

وهكذا نسترسل ونقول يمكننا اعتبار الرواية رواية موقف،اتخذها الروائي محمد مباركي للبحث عن الانسان وليس عن محيطه وإن كان المحيط هو البارز في الرواية،الشئ الذي يجعل القارئ مجبرا على اتخاذ الموقف وإبداء الرأي.

ونقول كذلك إن غلبة الوصف على السرد الروائي كان القصد منه إيهام القارئ بصدق الرواية ومطابقة الأحداث للواقع الاجتماعي، على اعتبار أن الرواية تعكس الواقع بشكل أدبي يلتقط المكان و الزمان حيث تصبح هذه الفضاءات متداخلة لا يمكن الفصل بينها.
وتركيز الروائي على المكان"الجدار" ورسم حدوده كان من أجل إعادة انتاجه وإثارة اهتمام القارئ لأنه كلما ضاق المكان اتسعت الرؤية وزادت دقة وعمقا وتحديا" بمعنى أن بإمكان الكاتب التأثير على القارئ لأنه يجعل من الجدار بؤرة الحديث وبؤرة السرد الروائي ،ومن خلاله تتسع الرؤية وتتفرع لتخوض في مجالات مختلفة.

خلاصة وتعليق

كما أن الرواية تمزج الروائي بالسير ذاتي حيث نرى أن الكاتب ينهل من تجربته الذاتية ومن مخزونه الجمعي و الجماعي، محورا إياه بصياغة فنية تختلف عن أنواع أخرى من أنواع الكتابة،وتنهض الرواية وتتحرك من الذات إلى الآخر سواء أكان هذا الآخر يتمظهر في شكل شخصيات من لحم ودم أو شخوصمن ورق تتحرك في فضاء الرواية من خلال تقنية أنسنة الجماد لبث روح الحركية و الدينامية في الرواية كما نرى في الدور الذي أناط به الكاتب الجدار، حيث يظهر كطرف أساسي محدد للعبة الحكي أو معادلا له في الصراع الحكائي.
وعلى العموم فإن الملاحظ هو أن رواية الجدار لمحمد مباركي تظل تحوم في جو الكتابة الكلاسيكية، التي تهيمن عليها الحكاية، و تبحث عن الحبكة الروائية، و الاحتفاظ بسيمترية السرد وتحكم السارد بخيوط الرواية، وهيمنة شخصية البطل على الشخصيات المشكلة للرواية،كما يغلب عليها الزمن الواحد و المكان الواحد"الجدار" الذي هو بؤرة الصراع في عملية الحكي.

كما أن الشخصيات في الرواية يتم تناولها وعرضها داخل المنجز الروائي بشكل مناسب لمجريات السرد الروائي، فعندما يوزع الأدوار عليها تندمج فنيا وجماليا مع بعضها البعض، وتتحرك بحرية في فضاء الرواية وتقوم بأدوارها كما أنها على أرض الواقع،ولانقصد بذلك حرفية الانعكاس و إنما نقصد به التمثل و الانعكاس المعتمد على آلية التخيل الذي يمزج الواقع بأدبية النص الأدبي، أي ما يجعل من الأدب أدبا ويميزه عن باقي أنواع الخطاب الأخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى