ميرفت علي: أنا مقاتلة من الطراز الأول على الورق
في مرحلة مبكرة، بدأ شعاع النور يتسلل من السماء إلى عالم طفولتها البريئة، إذ إلى جانب الموهبة، تعتبر الكتابة في العائلة حالة إبداعية متوارثة، فخالُها هو المؤسس لفن القصة القصيرة والنقد، ثم حصلت على الدعم المعنوي من المُدرسين والزملاء الذي عزَّزَ لديها الثقة بالنفس، والإصرار على السير نحو المبتغى. ومن مناسبة إلى أخرى كانت تلقي قصصها وقصائدها على المنابر المدرسية والوطنية، كَفراشة تنتقل من حديقة إلى أخرى، تعانق الزهور وتنثر عبيرها في دوائر روحها الظامئة للإبداع، وتزفُّها إلى محيطها المشجِّع، ومجتمعها الذي لا تنعدم فيه العيوب والمشاكل، بل إلى أبعد مكان ممكن بصيغة رسالة إنسانية تثقيفية.
في ظل هذه الأجواء المحفِّزة، اقتادها الحماس إلى سلك دروب الجمال والمسؤولية والالتزام المحفوفة بالمخاطر، دروب يُشيرُ فيها الناسُ إلى المرء بالبَنان، بالتالي ستفتحُ تلك الدروب لها أبواب أصعب وأكثر جدية. بالإرادة... وبحبِّ العلم والمعرفة وبصقل الموهبة الأدبية، تدرَّجت في سلَّم النجاح، لتصل إلى ما هي عليه الآن. فهي تسلك اليوم مسلك الأدب الساخر الناقد في كتاباتها. تكتب مختلف الأجناس الأدبية، وسفينتُها لا تستقرُّ في ميناء معيَّن، تظل متحركة في بحار الأدب، لأنَّ الفضول لديها يجعلها في حالة المغامرة والبحث الدائم لاكتشاف الجديد، ثم إشباع روحها التوَّاقة للمعرفة وللثقافة.
هويَّتها الكتابية: هي اقترانُ الأصالة بالمعاصرة، لذلك نراها تسحب قصص الماضي بكلِّ تجلياته إلى الحاضر المضطرب؛ للمقارنة وللتحليل وللاستشراف للآتي المجهول... تنتقد النستلوجيا المبالغ فيها، وخاصة التي يتمُّ استحضارها بإصرار، وترصد محاولة تطبيقها على الواقع. تعتقد أنها من أسباب بعض الكوارث العربية، التي منعت بعض مجتمعاتها من التطور والتحضُّر.
من جانب آخر، لا ترى أنَّ من مهامّ الكاتب ابتداع الحلول للمشاكل وللمعضلات التي يعاني منها المجتمع، بل يكفيه (الكاتب) فخرًا أن يكون جريئًا... شجاعًا، يمارس النقد ويُشيرُ إلى مواطن العلل والعيوب، فهو مقاتل يقف خلف متاريس المبادئ الأصيلة كما تصفهُ!
عن نفسها تقول: ميرفت علي، هي حالة من الالتباس الطفولي، فهي تقف وماتزال في المنطقة المحايدة ما بين الطفولة والنضج، على المستويين الوجداني والسيكولوجي. وماتزال بعد خمسة عقود تبحث عن برِّ الانتماء الآمن إلى مرحلة عمرية وحيدة اللون، سَمْتُها واضح ولَبوسها محدد، لكنها لم تهتدِ إليها بعد. ولعلَّ في هذه الازدواجيّة الطريفة، والضلالة الحرون، والصبيانية المُعنّدة، ما أوقدَ وما يزال فتيل الإبداع المتجدد، والشغب الأدبي على مدى ثلاثة عقود ونيف من أرق الكتابة ومكابدات البوح.
أهم مؤلفاتها:
1 ــ في القصة: السيرك، الجنازة، الخط الحديدي، المَيسوري. 2 ــ في الرواية: (مَريومة)، (انشطارات دودة القزّ). 3 ــ في المسرح: مسرحية (الخاذوق)، مسرحية (ليلة العرق سوس).4 ــ في أدب الأطفال: (حكايا ما بعد الألف ليلة) + الجاحظ (سيرة ذاتية). 5 ــ في البحث العلمي: (ستيفن هوكينغ، رهينُ الإعاقتيْن). وتحتَ الطباعة: (بروفات للحبّ) مجموعة قصصية. كما تمارس النقد الأدبي في الصحف والمجلات المحلية والعربية.
مدرّسة لغة عربية، ومدقّقة لغوية في دور نشر عربية. عضو اتحاد الكتاب العرب، وجمعية القصة والرواية. حائزة على جوائز أدبية عربية عديدة، وسورية كثيرة...
ضيفتُنا هي الأديبة (ميرفت علي) من محافظة طرطوس ـ سوريا.
نستضيفُها لمناقشةِ محاور ومواضيع متعددة وغنية، في هذا اللقاء الشامل الشيّق، ندعو السيدات والسادة القرَّاء الأعزاء، إلى متابعة تفاصيل الحوار أدناه.
نص الحوار ...
البدايات
البدايات صعبة دائمًا، لكنَّ أجملها هي ما تأتي بالصدفة، وخاصة في مرحلة الطفولة حيث البراءة. لنتابع كيف ومتى شرعَ قلم (ميرفت علي) في ترجمة أحاسيسها؟ وما هي المؤثرات التي قادتها إلى المكان الأكثر صعوبة ومسؤوليةً؟
تعترف بأنَّ الكتابة متوارثة في العائلة:
بدايةً، لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ الحالة الإبداعية متوارثة في العائلة، فقد بزغَ نجم الخال الأديب السوري (أنيس إبراهيم)، كمؤسس لفن القصة القصيرة والنقد في سبعينات القرن المنصرم؛ ما عزَّز روح المغامرة وتقصّي أدغال الغابة الإبداعية الأمازونيَّة المُخاتلة، التي ظاهرُها جنانُ اخضرار، وباطنُها محفوفٌ بالأخطار.
بعد العائلة، جاءَها الدعم من المدرسة والزملاء؛ فحلَّقت في أفاقِ الإبداع عالياً:
وكان لدعم المدرسة والمدرسين الأوائل، ولمؤازرة المشرفين الإداريين، ولتصفيق زملاء الدراسة في مراحلها المتتابعة وقع السحر على المسحور، الذي لا حولَ له ولا حيلة، ولا يمتلك من أمره إلا الانقياد إلى منابع النور، بغريزة الفراش المهوّم، وبدافع حب الظهور.
برزت بوادر الإبداع لديها في سنَّ العاشرة:
فمنذ الصف الرابع الابتدائي (سن العاشرة)، بدأ الإشراق في صياغة مواضيع الإنشاء، وفي ابتداع القصص الطريفة وإذاعتها على المنبر المدرسي. مشفوعة بتأييد وبنصائح مدرسي اللغة العربية، التي ألحَّت على التوجُّه إلى حقل الإعلام، الذي يشترط الطلاقة اللغوية...
وهذا النشاط المدرسي، كان بمثابة جسر العبور لقصائدها إلى جمهور أكبر وفضاء أرحب، وتقول:
من هنا وجدتْ قصائدي طريقها الممهَّد في المناسبات الوطنية والاجتماعية والتربوية، لتعبّر عن هواجس الجيل آنذاك، والتي لم تكن لتنفصل عن هواجس الوطن... بل وإنها لتضَع الذات الفردية في المقام الثاني أو الثالث بعد الذات الجمعيَّة (الوطن وقضاياه الساخنة، والأسرة بوصفها المرجعية الثانية في الانتماء).
وفي نفس الوقت، كانَ لقصصها القصيرة وقعٌ آسرٌ على زملائها، لما كانت تتضمَّنهُ من نقدٍ وسخرية، ومن إثارة للحيرة وللتساؤلات:
أما القصص القصيرة، فقد كنتُ أكتبها لأتحفَ بها زملائي ومدرّسيَّ في نهاية كل حصة درسية، فينجذبون إليها بأنظار شاخصة إلى الورقة والقلم بيدي، وبآذان صاغية كأنما لترانيم قدّاس كنَسي، إذ كنتُ أحوكُ الأقاصيص ذات النهايات المفتوحة والساخرة والتندّرية والناقدة من طور الطفولة المتوسطة. وهذا هو دأبي حتى الآن. أعني الاشتغال على الأدب الساخر.
...............
الأبحاث ...
كتاب (ستيفن هوكينغ، رهينُ الإعاقتيْن)
تُعرّف (ستيفن هوكينغ) باختصار على النحو التالي؟
(ستيفن هوكينغ)، هو عالم فيزياء نظرية، عُنيَ بدراسة علم الكون، ونظريات نشوئه وتطوره وآفاق المستقبل الكوني، وتشكّل ومصير الكواكب سيما كوكب الأرض. وله قراءات تحليلية عميقة في ظواهر ماتزال موضع جدل عند معشر البشر، وأبرزها: لغز الثقوب السوداء وماهيّتها، ويطول الحديث حول (ستيفن هوكينغ) وعبقريته الفذة...وهو رجل ابتُليَ بإعاقتين منذ عشرينات عمره: الشلل الحركي وفقدان النطق. وقد تواصلَ مع العالم بجهاز حاسوب ناطق معقّد التركيب، استطاع تكييفهُ لخدمة مؤلفاته، ولإلقاء المحاضرات في مؤتمرات دولية وإقليمية ومحلية بريطانية. ونالَ شهرة لم ينلها علماء كثر حصلوا على جوائز نوبل في العلوم الفيزيائية.
تُبدي أسفها على الترجمات القليلة والرديئة لمؤلفاته عربيًا:
ومع الأسف، لم يصل إلا القليل من مؤلفات (ستيفن هوكينغ) إلى المكتبة العربية، وبعضها غير موفق في الترجمة. أما الكتب الإشكالية المتقدمة له، وسلاسل قصص الأطفال العلمية، فلم يلتفت أحد إلى ترجمتها...
ترى... (ميرفت) أنَّ أهم نجاحات (ستيفن هوكينغ) تكمن:
"في إثبات نفسه كمحلل فيزيائي عميق الغور، بل فيلسوف علمي، فاقت أبحاثهُ كل التصورات من حيث فرادة الأفكار التي تقدّمها وجدّيتها وغرائبيّتها...وقد فتحت آفاقاً كبيرة أمام تحدي الإنسان للكون، ومحاولته فك شيفرته المرمّزة ...بل وغزوهِ والتحكم بنظامه في مستقبل قد يطول وقد لا يطول".
تختزل انتكاساتهِ وفشلهِ في وضعه الصحي والعاطفي:
"أمَّا الانتكاسات التي عانى منها (ستيفن هوكينغ) فهيَ صحية (استئصال الحنجرة، والشلل الجسدي، والاضطرابات العصبية، وفقدان النطق، وفقدان القدرة على التنفس ونوبات السعال والاختناق المرافقة له)، إضافة إلى الفشل في العلاقة الزوجية في أكثر من تجربة. هذا ما يخص الشق الأول من السؤال".
تقول (ميرفت) أنَّها أول مؤلف عربي يغوصُ في أبحاث هذا العالِم، وأنَّها وضَّحت وبسَّطت نظرياته كثيرًا، وفكَّكت تعقيداتِها وألغازها...
لنقرأ أكثر في سردها المسهب لإنجازاتها، في كتابها (ستيفن هوكينغ، رهين الإعاقتين) ...
بخصوص الإضافة التي قدَّمها كتاب (ستيفن هوكينغ، رهين الإعاقتين)، فأوجزُها في ثلاثِ نقاط، تنبَّأ بها السؤال ذاتهُ، وتضمّنها في تضاعيفهِ، من حيث لا تشعر أستاذ خالد:
ــ أزعمُ ــ والمُراقب يعلم ــ أنني من الناحية العلمية البحتة، قد بذلتُ مجهوداً كبيراً لتبويب ولفرز نظريات وإسهامات (هوكينغ) في خدمة الفيزياء الكونيَّة. فالكتب المترجمة إلى العربية حول هذا العالِم، اقتصرت على ترجمة أشهر مؤلفاته الأولى مثل: (موجز تاريخ الزمن، الثقوب السوداء والأكوان الناشئة، التصميم العظيم...). وهناك كتاب واحد فقط، تناولَ نقداً لكتاب (التصميم العظيم) لستيفن هوكينغ، وهو لمؤلف عربي، لكنه لا يناقش فيه الجانب العلمي في الكتاب، بل يقتصر على تفنيد فكرة نشوء الكون من العدم بدون إرادة إلهية، أي اقتصرَ النقد على الجانب الديني والروحي في فكر (هوكينغ) الملحد. ولم يتطرق أيُّ مؤلف أو باحث عربي إلى الغوص في أبحاث هذا العالم، ومحاولة تصنيف وفرز نظرياته التي تبدو متشابكة ومتداخلة إلى حد ما مع نظريات زملائه العلماء، وهنا مكمن الصعوبة: معرفة التخوم الفاصلة الحقيقية بين ثمار التفكير الفيزيائي العلمي لهذا الرجل، وبين ثمار تفكير الباحثين المعاصرين له.
ـ إضافة إلى توضيح نظرياته وتبسيطها. وهنا صعوبة أخرى لا تقل شأناً عن الفرز والتصنيف للأفكار المتعالقة المتشابكة...فليس من السهولة بمكان تبسيط نظريات وآراء وإنجازات عالم معقَّد في دراساتهِ، وفي فهمه وتوثيقهِ لتاريخ الفيزياء النظرية الكلاسيكية والحديثة وما بعد الحديثة (الرؤى المستقبلية).
ـ والتعقيد جاء ليس من المضمون الفلسفي العميق، والمستعصي أحياناً على الفهم...بل أيضاً من الصياغة اللغوية المُلغزة، التي صعّبت على القراء بلورة الفكرة، وزاد من صعوبة الأمر بعض الترجمات الرديئة لكتب (هوكينغ) سيّما إلى اللغة العربية.
تنوه أنَّ كتابها يزخر بالفوائد العلمية والبلاغية:
هذا ما قدَّمتهُ من إضافة من الناحية العلمية. ولأنَّ صياغتي للكتاب جاءت بأسلوب أدبي ــ بحكم كوني أديبة ــ قبل أن أكون باحثة في العلوم، فأستطيع القول بلا مغالاة: لقد استخدمتُ لغة عربية رصينة في تأليف الكتاب، فاجتمعت الفائدة العلمية مع الفائدة الجمالية البلاغيَّة. وشملت الدراسة إضاءة على الجانب الشخصي العائلي من حياة (ستيفن هوكينغ)، وأتى الكتاب حلقة متكاملة، وبانوراما جامعة مبسطة عن حياته بكل مناحيها.
تؤكد أنَّ كتابها عن (ستيفن هوكينغ) يعدُّ مرجعًا علميًا، وغير مسبوق في العالم العربي:
بكل تأكيد وثقة بالنفس أقولُ: إنَّه مرجع علمي يمكن للقارئ الأكاديمي وللقارئ العادي الاتكاء عليه في آن معاً، وهو عائلي يناسب جميع أفراد الأسرة من سن الرابعة عشرة وما فوق...وهو غير مسبوق في العالم العربي، من حيث الجمع بين المادة العلمية الشاملة والأسلوب الأدبي المتين، والجانب الشخصي من حياة هذا العالم المائز.
................
الشعر ...
ترفضُ بشدة فكرة تحديد الزمكان المناسب لكتابة القصيدة، لأنَّ شلالات الإبداع تتساقط بإيعاز من المزاج، الذي يحدّد كيفية تفريغ الاشتحان الشعري حسبما تعتقد:
الإبداع مسألة مزاج، وليس خاضعاً لخاصيّة الزمن والوقت. (فمتى) هنا لا قيمة لها، القيمة التي يعوّل عليها تكمنُ في اسم استفهام آخر هو: (كيف)؟ كيف يأتي الإلهام؟ كيف نتصيَّدهُ، كيف نُدخله إلى مخبر الصنعة الإنشائية، وكيف يخرج من عالم الورق إلى عالم العلن. فاليُسر والعسر هنا متضادَّان مرتبطان بالإشراق الفكري وبالإلهام في لحظة ذهنية ذهبية متَّقدة، لا يمكن القبض عليها بسهولة. وإن تمَّ ذلك، فعلينا حبسُها في قمقم (علاء الدين) كي لا تفرَّ هاربة.
لكنها، قد تحدّد الزمن في حالة الضرورة: وإن كان لابدَّ من تحديد زمنٍ مواتٍ لمخاض الإبداع، فهو بالنسبة لي أول ساعات الاستيقاظ: سواء أكان ذلك صباحاً أم ظهراً أم مساءً.
تجيدُ مختلف أنواع الشعر، وتُدهشها القصص والقصائد الومضيّة:
أزعمُ أني أجيد الشعر العمودي الكلاسيكي بامتياز، وقصيدة التفعيلة بدرجة جيد. أما قصيدة النثر، فأستمتعُ بالاستماع إلى نماذجها عند الشعراء المعاصرين، أكثر من ولوج مغامرة الكتابة في النص الشعري النثري أو ما بعد الحداثي...كما يشير إليه بعضهم. فحتى الآن، لا أرى نفسي مستعدة لخوض غمار قصيدة النثر، بينما تلقى قصيدة الومضة قبولاً واستحساناً عندي، وتروقني كثيراً كما القصة الومضة؛ ففيها من البلاغة والتكثيف اللفظي والمعنوي ما يستفزُّ دهشتي، وما يثير شهيَّتي على الكتابة، وعلى قراءة التجارب المترجمة حولها بشكل خاص.
تشبّه قصيدة النثر بحقل الألغام، وتُسهبُ في وصفها:
قصيدة النثر تحرِّرنا من عنصري الوزن و القافية (الموسيقا الخارجية)، لكنَّ التحدي الذي تفرضهُ يتطلب التعويض ــ بقدر ليس باليسير ــ عن غياب هذا العنصر الجمالي الخارجي (موسيقا و إيقاع)، بالاشتغال على المعنى الجديد أو العميق، أو باللجوء إلى الفلسفة و تطويع الشعر ليصبح ناقلاً جيداً لها، و لِبنات الأفكار التي تتسم بالبداهة و الجدّة و الإدهاش و الإثارة... أو بتأجيج سعير الخيال و التأمل في فنّية ودلالات الألفاظ و التراكيب، و التنبؤ فيما خلف الباب الموارب (الذي تصرُّ قصيدة النثر على إبقائه عالقاً ما بين فتح و إغلاق). وهذا ليس بالتحدي السهل. وهذا ما يتماشى مع روح العصر الحديث، عصر الثورات والانقلابات المستعرة في مجالات الحياة كلها، ومنها الفنون والآداب. وبالتالي فقصيدة النثر ــ برأيي ــ هي حقل ألغام يفجّر الإثارات ما بين وحدة معنوية وأخرى، خصوصاً في الهندسة اللغوية الباهرة، التي تشوّقنا لمعرفة ما ستؤول إليه نقاط العلَّام اللفظية من معانٍ، وهذا ــ لَعمري ــ أمرٌ يوقظ الإحساس بقيمة الجمال الكامن في (نهفات) الشعر المعاصر وبِدعاتهِ.
ساعدَها العامل الذاتي قبل أن يخدمها الاختصاص (كَونها مُدرسة اللغة العربية) في البلاغة والبناء الشعري والأدبي:
المبدع يتأثر غالباً بالعامل الذاتي، أعني المهارات الخاصة التي فُطرَ عليها أو اكتسبها، وبالتالي فقد كانت اللغة العربية والتخصص فيها، خادماً أميناً لي على مرّ السنين، صقلت نصِّي الأدبي، جنباً إلى جنب مع قراءة كتب التراث القديمة، وأهمها: القرآن الكريم وتفسيره، ونهج البلاغة، وكتب الجاحظ، والمعري، والمسعودي وتطول القائمة....
.....................
القصة ...
مصادر شعاع قصصها:
من ناحية المضمون، مناهل الإبداع عديدة: الواقع هو أُسُّها، والخيال هو أساسُها، والتجارب الذاتية هي رديفُها، وتجارب الآخرين هي رافدٌ هامٌّ وغني لا يمكن إسقاطهُ من الاعتبار. وقصصي غالباً ما تُوائم بين الحقيقة والخيال، الواقع والأسطورة، الماضي والحاضر، في تشابكات وتحابُكات لا فكاك لها. وهذا سلوك فنّي متعمَّد وعن سبق الإصرار يشكّل سمْتَ إبداعي، ومُحدِّدَهُ الرئيسي.
ترى أنَّ القصة القصيرة مهددة بالتراجع والانحلال، لأسباب عديدة:
في الوقت الحالي لا أملكُ إلا أن أوافقكَ الرأي، فقد تراجعَ شغف المبدعين بالقصة القصيرة لصالح الشعر أولاً والرواية ثانياً. والشاهد الأبرز على ذلك: قلة المؤتمرات والمهرجات التي تقام للقصة في العالم العربي. ففيما عدا المنبر المغربي (المملكة المغربية)، لا نجد من يتبنَّى مهرجاناً سنوياً عربياً للقصة. وتراجُع شعبيَّتها له أسباب عديدة، أبرزُها ملل الجمهور اليوم؛ بسبب الوقت الذي يستغرقه إلقاء القصة على المنابر. أما الشعر والمسرح فيحتفظان برصيد أكبر من التنوع في الأداء وفي أساليب جذب المتلقي. وفي عصر السرعة يتوقُ المتلقي إلى كل (ما خفَّ زمن عرضهِ، وبهظتْ قيمة إمتاعهِ وتشويقهِ وإثارته)، وخاصةً وأنَّ معظم ما يُلقى من الشعر اليوم (المنافس الأول للقصة)، غدا يترافق مع العزف على الناي أو العود أو البيانو.
...................
الرواية ...
تحدّثُنا باختصار عن أهم الأحداث، التناحرات، التصادمات الخبيئة في ثنايا روايتها "انشطارات دودة القزّ" في الأسطر التالية:
صدرت الرواية عن دار الوليد في القاهرة، في نهاية عام 2019
إنَّها صراع القيم مع اللاقيم، هو صراع أزلي أبدي، قائمٌ ونَشِط مادام الإنسان حياً يُرزق على وجه هذه الأرض. فالمحاكمة العقلية وسجال الانتماء مع اللا انتماء هي سمات اختصَّ بها البشر دون سائر الكائنات، على اعتبار أنَّ العقل هو من خصائص الإنسان، ولذا نقول: الإنسان (كائن عاقل)، ولا نقول (كائن ناطق).
وبعيداً عن الفلسفة والإيغال فيها، فرواية انشطارات دودة القز استمدَّت أحداثها من البيئة الاجتماعية السورية المعاصرة، وبرزت فيها خصوصية المجتمع المحلي السوري، وحيثيات الحياة اليومية لشرائح مختلفة عقائدياً ودينياً. وأبرزت مساوئ هذا الاختلاف الذي خرجَ إلى العلن في الحقبة السورية السياسية المعاصرة. وإن كانت (كيفَ) تشير إلى الحال، فحال أبطال الرواية هي الحال المصغَّرة للبطل الحاضن وهو: الوطن، بوصفهِ مجموعة انتماءات وكيانات بشرية وسياسية ودينية منصهرة في البوتقة الجغرافية الجميلة والمتنوعة، ما بين سهل وبحر وصحراء وجبل. فعنْ طريق الغوص في ثنيَّاتِ الواقع وطيَّاتهِ، والقراءة اليومية في السفر السوري بتجلّياته السياسية والاجتماعية والإثنيَّة، تمَّت صياغة رواية ناقدة للانحلال وللفساد بملامحه كافة، ومن بينها الملمح العاطفي.
هل وصلت رسالة شخصيَّات الرواية إلى القراء؟
نعم، لقد وصلت رسالة أبطال الرواية بعمق وبوضوح، وهذا ما أكسبَ الرواية جمهورَ قرَّاء كبير، وانعكسَ في نسبة المبيعات الكبيرة لها في معارض الكتب العربية.
هل نجت أخيرًا شخصياتكِ من فوضى بعض المجتمعات العربية بسبب بعض العادات، والعقليات الجامدة؟
نجتْ بعض الشخصيات، وربما تظاهرت بالنجاة، وتعايشت مع تأزُّماتها النفسية والعاطفية ...ويبقى ثمَّة كلام خلف الكواليس.
تشبِّه حالتها الإبداعية بسفينة تجوب بحار الأدب والمعرفة، كَمغامر يدفعه الفضول لاكتشاف وتجريب ما هو جديد:
أنا أشبهُ بحَّاراً لا يرسو بسفينته على برّ، حتى يغادرهُ إلى برٍّ آخر، أقلّ أماناً وأكثر تشويقاً وإيغالاً في الإثارة وإشباعاً للفضول. وبناءً عليه، لا يمكن أن تكون الرواية هي خياري الأخير. وليسَ ثمَّةَ مرفأ واحد للمبدع المتنوع، لأنَّ المبدع مغامر على الصعيد الفكري والفنّي وصاحب نزعة تخيُّلية. ومع فوضى الخيال وشطحات الخلق والابتكار وخيارات القلم الذي يشرّق حيناً ويغرّب حيناً آخر ...لن تجد معنى لكلمة استقرار، والفكرة العامة في عالم التأليف، تفرضُ اختيار الزيّ الأدبي المناسب لها.
............
المسرح ...
أهم مسرحياتها التي طُبعت وعُرضت في صالات المسارح:
طُبعت لي ثلاثُ مسرحيات في كتاب، وعُرضت على خشبة المسرح الطفلي أكثر من سبع مسرحيات غنائية، لاقت إقبالاً كبيراً في حينها. ونشرتُ عملاً مسرحياً في مجلة خليجية هامة.
ما زالت مهتمَّة بالمسرح، ومتهيّئة دائمًا للكتابة فيهِ، ولكن ...
نعم مهتمة بالمسرح، وبقوة... يسحرُني (أبو الفنون) الذي لا يشيخُ ولا يهرم ...النص المسرحي الذي يملؤني شغفاً وحماساً. لكنَّ الواقع المسرحي حالياً ــ وحتى قبل الأزمة ــ لا يشجّع على المبادرة لأسباب يطول الحديث عنها وتحليلها، ولكني على استعداد للكتابة في أيّة لحظة.
...............
أدب الطفل ...
تنبذ سياسة عصا الوصاية بحق الطفل، وتقول:
ما زلتُ أكتبُ كثيراً للطفل وأنشرُ قليلاً في دوريات عربية. الطفولة في مجتمعاتنا العربية شعار مُفرغ من جوهره وروحه. نحنُ مجرمون في حقِّ أطفالنا، وما زلنا نمارس عليهم الوصاية حتى في الفنون الأدبية الموجهة للطفل، مازلنا نلوِّح لهم بعصا الوصاية وبالتعليمات الصارمة، ونتظاهر بخفّة الظل! لكن سرعان ما تكشفُ حقيقة صرامتنا بعضُ المفردات الناشزة عن عالم الطفل، وبعضُ الأفكار البعيدة عن روحهِ الطليقة من القيود. وأعتقدُ أنَّ (سليمان العيسى) هو المبدع الوحيد عربياً، الذي خاطبَ الطفل العربي باحترام بالغ، ولم يُدانيه أحد في هذا الاستحقاق المشرِّف.
سُئلتْ الأستاذة (ميرفت علي) ما إذا كانت الكتابة للطفل هي بمثابة تعويض عن الطفولة التي كبرتْ قبل الأوان؟ أم أنَّها تعكسُ روحَ طفلةٍ تختبئ داخلها؟ أم هناك دوافع أخرى؟
فجاء ردُّها بصيغةِ اعترافٍ شخصيٍّ صريح:
... إنَّه كل هؤلاء مجتمعين، وغيرها من البواعث والمحفّزات الذاتية في المقام الأول. وبالنسبة لي شخصياً، فقد صدَّرتُ هذا الحوار باعتراف شخصي هام وصريح: أنا شخصٌ لم يغادر عالم الطفولة ولن ...وكم يبدو لي ذلك جميلاً! ويضفي على حياتي الشخصية والأدبيَّة نكهة التوابل النفيسة، والبهارات النادرة.
...........
النقد ...
تختار الناقدة (ميرفت علي) الكتاب بغرض الإضاءة النقدية، عندما تتوفر فيه الشروط التالية:
النقد هو: مالكَ (ميزاتكَ ومزاياكَ الجميلة)، وما عليك (انحرافاتكَ عن القصد، وأخطاؤك المغفورة أو غير المغفورة). والكتاب الجيد تثقلُ موازينهُ في محاكمات النقد، وينجو من ثقوب الغرابيل، ويرغمكَ على تبنّيه بالإضاءة الإعلامية شئتَ ذلك أم أبيت. ولكنَّ الكتب المحفّزة على النقد اليوم تبدو محدودة؛ لأنَّ مطابع دور النشر تتنافس في كمّ الإصدارات المُنتجة على حساب الجودة، لأغراض ربحيَّة بحتة.
النقد لا يواكب سرعة وغزارة الإنتاج الأدبي، لأنَّ:
"وسطَ هذا الكم الهائل والمُتنامي من الإصدارات، التي يغلب رديئُها على جيِّدها، لا يمكن للنقد أن يُجاري حركة الإصدار مسعورة الأنفاس. إضافة إلى قلة عدد المشتغلين بالنقد في الساحة الثقافية العربية. فليسَ هذا الزمن بزمن النقد، ولا أحد يتقبَّل النقد، إنَّما هناك إضاءات إعلامية (تبعث على الخجل)، تخصُّ بالعناية الإصدارات الصديقة، وبكثير من المسايرة والمدح لأسباب شخصية ومنفعية. وقد تراجعت حركة النقد الأدبي الجاد والرصين برأيي، مع نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي.
..............
تقودُ معارك كتابية في مختلف الميادين الأدبية والبحثية، ولا تختلط عليها الأمور!، عن (ميرفت) الأديبة والباحثة تقول:
أنا مقاتلة من الطراز الأول على الورق، وعنيدة في ساحِ القلم، وأتوقُ إلى التنويع في إيقاعاتي وملمحي الأدبي المتجدد على الدوام...ولا أعرف الكلل ولا التعب. وبوصلتي الفنيَّة قوية، تلتقط الإشارات وتحدِّد الذبذبات والاتجاهات وسط عباب البحر الهائج وأنوائهِ. أبداً لا تُتعبني الكتابة، ولا التفكير، ولا التطوير في الأدوات الإبداعيَّة والأجناس والفِكَر والرؤى.
لماذا تسحبين قصص الزمن العربي الغابر إلى حدود الواقع الملتهبة، ثم تُسقطينها متوازية في متن كتاباتكِ؟ أهوَ بسبب الماضي القريب كالواقع المخيّب، ومستقبل يتراءى كئيباً ربما؟ أم هو مجرد استحضار للتاريخ بمساوئه ومحاسنهِ لاستخلاص الفائدة والعِبر؟ وهل الجغرافيا بريئة؟
الجغرافيا هي المكان، والمكان لا يخفى دوره في إثارة الدسائس، وهو توءم الزمان في قلب المعايير والمصائر على المستوى العام والخاص. هذه التوءمة بين الزمان والمكان (البيئة الحاضنة للأشخاص بمكوِّناتها الخاصة)، هي اللاعب الأكبر في تشكيل التاريخ وفي توجيه حركته. وأمَّا عن قِران الماضي بالحاضر لاقتفاء ملامح المستقبل المنظور، فهي لازمة تتكرَّر في كتاباتي، وتشكل هويَّتي (اقتران الأصالة بالمعاصرة)؛ لأنَّ الحاضر هو الابن البار بالماضي، بالنسبة إلى البيئة العربية بعناصرها السياسية والاجتماعية والروحيَّة، والتي لم تعرف بعد معنى الفطام عن الطفولة، وتظل تنكص على عقبيها مستعيدة ذكريات وملاءات الماضي، ومرتَهنة إليه، إلى حدٍّ أعاقَ وما يزال تحضّرها وتطوُّرها. وهذا ما يدفعني إلى التمسك بهذا القِران، فأنا بنت البيئة العربية وماضَوِيتّها المبالغ بها. هذا الإفراط الذي نلمسُ آثارهُ اليوم ــ على سبيل المثال ــ في إحياء الفكر السلفي الديني، ما أسفرَ عن جرائم بحق الإنسان العربي في غيرِ مكان (ثورة الربيع العربي)، وخلَّفَ ضحاياه من المدنيين المأسوف عليهم في المقام الأول؛ لأنهم لم يكونوا طرفاً في أيّة لعبة، ولا حرَّاس مرمى، بل ثبتَ أنهم مجرد بيادق على رقعة شطرنج، تتلاعب بها الأنظمة السياسية والدينية.
مقتنعة تمامًا بأنَّ الكاتب غير مُطالب بإيجاد الحلول، أو بإحداث التغيير المجتمعي، وتصفهُ بالمقاتل الذي يدافع من خلف متاريس المبادئ الأصيلة:
ليس مطلوباً من الكاتب أن يبتدع الحلول للناس، فهو يفتقد إلى الموقع المهني والسياسي الذي يخوّلهُ اتخاذ القرار، وبالتالي لا يمكنهُ أن يُحدث التغيير المنشود في أمَّته وبلده من خلال (شحطة قلم) أو توقيع يُنهي بهما أزمة ما؟! المبدع ليست لديه صلاحيات التغيير إلا على الورق، يكفيه فخراً ما يتكبَّده من جرأة النقد والإشارة إلى مواطن الخلل التي قد يدفع ثمنها حريتهُ، وهو رهين المساءلة الأمنية والتشدد في الملاحقة والقمع السياسي وكبت الحريات. والتاريخ بمراحله المختلفة يقدّم أمثلة لأكباش فداء، قضتْ عليهم ألسنتهم وما تشدَّقت به أفواههم من المطالبة بقيم العدالة وبتحقيقها شعاراً وممارسة...ولا ينبغي علينا اتّهام المبدع (في هذه الحالة) بالاكتفاء بالتنظير للمشكلة، وبالجبن في مواجهة الواقع، لأنه باختصار مقاتل يقف خلف متاريس المبادئ الأصيلة التي ينافح عنها، وهو في عالم اليوم الموبوء بالفساد. أضعف المتاريس ...المطلوب من المبدع بوضوح: أن يقاتل بالقلم في خندق الكلمة الحرة؛ دفاعاً عن أصالة الحياة بكل تمَظهُراتها... أدبية كانت أم سياسية.
عن مستوى الأدب السوري مقارنة بالأدب العربي العام، توضِّح قائلة:
أشكركَ على هذا السؤال، لقد أتاحت لي تجربتي في التدقيق اللغوي لصالح دور نشر عربية عديدة، أن أكوّن فكرة عميقة عن تطور الأدب العربي المعاصر...وأعلنُها بوضوح وبفخر من هذا المنبر: التجربة الأدبية السورية ماضياً وحاضراً هي الأقوى، والمبدعون السوريون هم أصحاب الريادة والامتياز المشرّف في هذا المجال؛ فلديهم تمسُّك كبير وحرص بالغ على اللغة العربية، ولم يفرِّطوا فيها. المبدع السوري لا يدفع بكتابهِ إلى دار النشر ما لم يقم بتنقيحهِ بنفسه أو على مسؤوليته، وما زلنا نلوم أنفسنا ــ ككتَّاب ــ إذا أخطأ أحدُنا خطأ لغوياً واحداً فقط أثناء تلاوة نص أدبي على منبر، متناسينَ القيمة الجمالية للنص، وأنَّ المبدع ــ غالباً ــ ليس من أهل الاختصاص. وليس هناك من احتفى بصنوف الأدب كما احتفى بها النقاد والكتاب السوريون، وأوضحوا خصائصها واشتراطاتها ومناهجها ...وأنا فخورة بانتمائي إلى بلد عريق حضارياً وإبداعيَّاً، اسمهُ محفور على كعبة الفن والعراقة والتراث العالمي: /سوريا/
متأثرة بِهؤلاء الأدباء:
ما من شك، وهم كثر، أولهم الأديب الخال: (أنيس إبراهيم) رحمهُ الله، والأدباء الساخرون من أمثال (زكريا تامر)، وتطول القائمة عربياً ودولياً. وأذكر من أمثلة الكتاب المعاصرين: الروائي الباكستاني: (خالد الحسيني) ...و (ماركيز) و (يوكيو ميشيما).
راضية عن مسيرتها وإنجازاتها، والجوائز والأوسمة الأدبية منَحَتْها:
... منحتني الثقة بالنفس، والثبات في ميدان التنافس عربياً ومحلياً، وأنا راضية عن مسيرتي وإنجازاتي حتى هذه اللحظة، والتي لم يُضاء عليها في الإعلام المرئي بالشكل المطلوب، لكنَّ الجوائز منحتْني هذا الحق، وأكثر منه.