من فتاوي الجوع الجنسي إلى فتاوي الشعوذة والتكفير والتخوين
كانت مؤسسات الإفتاء الديني في السابق ركيزة هامة من ركائز المجتمع المدني، ولكنها غدت اليوم جهازاً من أجهزة السلطة الحاكمة توظيفاً وتعييناً وتمويلاً، وهي مجندة لخدمة السلطة الحاكمة، وتجهد في إيجاد الحجج والذرائع والمبررات والمصوغات، للسياسات والممارسات التي تقوم بها وتنفذها، وأغلب الدوائر والمؤسسات الفقهية، إن لم يكن جميعها.
هي ما يصطلح على تسميتها بمؤسسات الفقه والإفتاء السلطوي ( حكام وفقهاء السلاطين )، مما أفقد المؤسسات الفقهية ودور الإفتاء استقلاليتها وعلميتها ونجاعتها، وأصبحت تستخدم كأدوات للصراع السياسي والاجتماعي، ولعل طرح الأمثلة، قد يساعدنا في تعليل وتدعيم وجهة النظر هذه، حيث أننا نشهد ظاهرة خصخصة الإنتماء الديني، كما هو الحال في سياسة الفوضى الخلاقة، التي تعمل أمريكيا على نشرها وتسويقها وتطبيقها وتعميمها على كامل المنطقة العربية والإسلامية، والتي تأتي ظاهرة الخصخصة الدينية، كأحد نتائجها وتجلياتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، الوصول إلى حالة لا تتوافق أو تتوحد فيها الشعوب العربية والإسلامية على الصوم الموحد والأعياد الموحدة والعطل والمناسبات الدينية الموحدة، وكذلك إيجاد فقهاء وفتاه ينظرون لوجهة النظر الأمريكية في القضية الدينية، كجواز تعديل القرآن مثلاً، والذي قامت بها الإدارة الأمريكية ـ حيث أعادت صياغة القرآن الكريم، ضمن كتاب سمته الفرقان، وبالعودة لاستخدام الفتاوي والإفتاء، كأحد أدوات الصراع السياسية، فلعل الجميع يذكر أنه عندما وقع الرئيس المصري الراحل أنور السادات إتفاقية " كامب ديفيد " مع إسرائيل، وأخرج مصر بثقلها العسكري والسياسي والبشري من دائرة الصراع مع إسرائيل، وجدنا هناك من يبرر هذه الاتفاقية من علماء وفقهاء السلاطين، ويشبهها بصلح الحديبة، ويستقدم الأدلة المدعمة لذلك من كتاب الله، بالاستناد للاية الكريمة " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ..... " رغم الفارق الكبير والجوهري بين الحدثين.
عندما غزا العراق الكويت، هناك من أفتى بجواز استقدام القوات الأجنبية، إلى الديار الإسلامية والاستعانة بها، لضرب العراق، وأيضاً هناك من أفتى وشرع الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، هذه فتاوي لأغراض سياسية، وهناك فتاوي لأغراض دينية، أي خدمة نهج أو رؤيا أو تيار ديني أو مذهبي، مثل قضايا التكفير بين السنة والشيعة، وقضايا التكفير والتخوين بين أنصار التزمت والانغلاق وأصحاب الفكر التنويري، حيث أن دور الإفتاء دأبت على تخوين وتكفير، كل من له اجتهادات وتصورات ومواقف دينية تتعارض مع رؤيتها وتصوراتها، وتحديداً القوى العلمانية أو من هم محسوبين على التيار الديني المتنور، مثل الشيخ بن باز في السعودية، وحسن الترابي في السودان، والاستاذ الجامعي المصري حامد أبو زيد، وفرج فوده، والشهيد حسين مروه في لبنان، وصادق جلال العظم في سوريا وغيرهم، وهناك الفتاوي التكفيرية والتخوينية، والتي تجري على أساس مذهبي وعقائدي وفكري وسياسي، مثل الفتاوي المتبادلة بين المراجع الدينية السنية والشيعية في العراق ولبنان وغيرها، وفتاوى المفتي شاكر الحيران بتكفير حركة حماس، والدعوة إلى قتلهم، وتبشير من يقوم بذلك بالجنة، وهذه فتاوى بالأساس تهدف إلى بث الفتنة والفرقة بين أبناء الشعب الواحد وغالباً، ما تكون هذه الفتاوي لها مقاصد ومرامي وأهداف خبيثة، تدمير وحدة المجتمع وهتك نسيجه الإجتماعي وبث الفرقة والخلاف بين أبنائه ودفعه للاحتراب والاقتتال الداخلي وغيرها، والإفتاء ليس قصراً على هذه الموضوعات، بل أن الكثير من هذه الافتاءات له علاقة بالمرأة والعلاقات الجنسية في المجتمع، مما يشير إلى عمق الأزمة التي تعيشها الشعوب الإسلامية والعربية في هذا الجانب، رغم أن الشعوب العربية في أغلبها متدينة، ومرجعها في هذا الجانب القرآن والسنة والاجتهاد، إلا أن ما يجري على الأرض – أرض الواقع – يشير إلى أنه لم تكن هناك حلول ناجعة لهذه المشكلة.
فتقارير المنظمات والهيئات الدولية أشارت مؤخراً، إلى أن في طليعة الدول المتاجرة في الذهب الأبيض، دولتان عربيتان هما المغرب والإمارات العربية، ورغم أن الدين أتاح للمسلم الزواج بأكثر من واحدة، لحل هذه المشاكل، ولمنع انتشار الرذيلة والبغاء في المجتمع، إلا أن ذلك لم يشكل حلول جدية، لمجتمعات تعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي، والفقر، وأزمات عميقة في الجوانب الإجتماعية، لها علاقة بالتخلف والموروث الإجتماعي، وكذلك الرؤيا والتصور والنظرة الدونية للمرأة ودورها ووظيفتها ومكانتها في المجتمع، ناهيك عن أن الطفرة النفطية والغزو الفكري والثقافي، ساهما إلى حد كبير في فتاوي النهم والجوع الجنسي، مثل فتاوي زواج المتعة والمسيار والكيف وغيرها، والمسألة لم تقف عند هذا الحد، بل توجت بفتاوى رئيس قسم الحديث في الأزهر السيد عزت عطية، فتوى إرضاع الكبير في أماكن العمل، وهذه فتوى صريحة وواضحة، ولا تحتمل التأويل، تشريع للدعارة والبغاء في المجتمع، وبشكل غير منظم، والمسألة ليست قصراً على الفتاه والفقهاء، بل أعمق وأبعد من ذلك، فالكثير من محطات العري العربية وغيرها، هي ملك لأمراء وسلاطين، وكذلك من يقضي معظم وقته في الوعظ والتثقيف بالحور العين وأعدادهن في الجنة.
بإختصار مجتمعات تعاني من جوع مزمن في هذا الجانب، وبالتالي فتاوي هدفها الإساءة للمسلمين وإظهارهم على أنهم وحوش بشرية، لا هم لهم إلا النساء والقتل، ويندرج في هذا الإطار فتاوى الشعوذة " والتهابيل والتساطيل " من طراز فتوى على جمعة، تبرك الصحابة ببول النبي، رغم المعرفة والإدراك بطهارة النبي، وبأن البول يعد من النجاسة والذي يعد إحدى مبطلات الصلاة، والغريب أن الكثير من هذه الفتاوي له مقاصد ومرامي سلبية وتخريبية، ولم نسمع على سبيل المثال لا الحصر، من يفتي بتكفير كل من يشارك من الحكام العرب والمسلمين في حصار الشعب الفلسطيني، ولم نسمع بفتاوي الجهاد بأنه فرض عين على كل مسلم من أجل تحرير بيت المقدس ومسرى الرسول صلعم، ولم نسمع بفتاوي تخوين كل من يبيع شبرا أو سنتمترا من أرض العرب والمسلمين للأعداء، ولم نسمع فتاوي بتكفير وتخوين، كل من يؤيد الإحتلال الأمريكي للعراق، ولكن كل يوم نسمع انشغال الفتاه بقضايا المرأة، هل يحق لها قيادة سيارة أم لا ؟ هل يحق لها المشاركة في الإنتخابات أم لا ؟ ويحق لزوجها تطليقها إذا ما انتخبت قائمة غير التي يريدها زوجها في الإنتخابات، وهل يحق لها ركوب حافلة مشتركة أم لا ؟ وغيرها من هذه الفتاوي التي تشغل الناس عن القضايا الكبرى المحدقة بالأمة العربية، والتي يجب على مؤسسات الإفتاء إذا ما أرادت أن تستعيد جزء من هيبتها أن تتنبه لها وأن تكون شغلها الشاغل، لا فتاوي ارضاع الكبير ولا التبرك ببول النبي وغيرها، وأن حل هذه المعضلة لن يكون بمجرد التنسيق بين المجامع ودور الإفتاء، ولا حتى بإستراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وإنما مرهون بعملية إصلاح فكري وتربوي وجذري، يطال البنية المؤسسية للإفتاء، وإستراتيجيات التأويل والقراءة، وبدون هذه العملية الإصلاحية الجذرية، تبقى فتاوي فقهائنا أدوات للصراع السياسي والاجتماعي الملتبس، إن هي خرجت عن أطراف الجرائد ومزاح العامة .