من أجل مفاهيم حياتية جديدة:
هنالك الكثير من الممارسات الحياتية الغربية التي سادت في مجتمعاتنا بصورة غير قابلة للمراجعة والنقد حتى من قبل المختلفين جوهريا مع العقل الغربي. ترى الكثيرون يختلفون مع الغرب سياسيا ودينيا لكنهم يتبنون سلوكياته ورؤاه الحياتية في العلم والادب والفن. علما انه هنالك في الغرب نفسه منذ اعوام الستينات بدأت تنتشر الكثير من المفاهيم والسلوكيات الرافضة تماما لما هو سائد في الغرب، وتستمد جذورها من المعتقدات الشعبية والآسيوية مثل الهندوسية والبوذية والاسلام وغيرها. وتجتمع هذه المفاهيم والسلوكيات تحت مسميات عمومية متنوعة من اشهرها: (التيار البديل او العصر الجديد NEW AGE). والآن في كل مدينة غربية تجد المكتبات الكاملة التي تحتوي على آلاف الكتب في كل المجالات الروحية والفنية والسياسية والعلمية والطبية كلها مختلفة عن الفهم الغربي السائد. وللأسف الشديد لا زالت الثقافة العربية ومعها المترجمون العرب يجترون الثقافة الغربية الرسمية السائدة بأسمائها المكررة ويعيدون ترجمة الافكار والرؤى التي بدأ الغرب نفسه بتجاوزها.
الطب الغربي والطب البديل
ان هذا التيار البديل يمتلك رؤية شمولية وكلية تجمع بين ((الموقف السياسي والفلسفي والسلوك الحياتي))، حيث ان الغالبية الساحقة من انصار حركات السلام والخضر والدفاع عن الطبيعة ورفض الهيمنة الامبريالية الحديثة، هم من التيار البديل. افضل واوضح نموذج (فكري وسلوكي) يمكن تقديمه لهذا التيار هو الموقف من (الطب الرسمي) ومفهوم صحة الانسان وسعادته. ان مشكلة الطب الغربي ومعه جميع العلوم والأفكار الغربية، انها تفصل بين البدن والنفس، مثلما تفصل بين المادة والروح. فيلاحظ ان للبدن اطبائه المختصين وللنفس اطبائها المختصين. ترى اطباء البدن يعتبرون الإنسان مثل آلة صماء يكفي تعديل بعض "مساميره واسلاكه" حتى يستعيد طبيعته الأولى. اما التيارات الطبية البديلة فانها إستفادت من الطب الانساني القديم الذي لم يكن يفصل بين البدن والنفس، لهذا كان الحكيم هو الطبيب. ان الطب البديل يعتبر الإنسان ليس بدنا ماديا فقط، بل قبل كل شيء هو كائن روحي نفسي. لا توجد مشكلة بدنية مهما كانت صغيرة او كبيرة ليس لها سببا نفسيا باطنيا.. مثلما لا توجد مشكلة نفسية معلنة ليس لها سببا بدنيا وعصبيا خفيا.
ان الطب الغربي اشبه بالنظام البوليسي القمعي، يعتقد ان افضل الحلول هي العمليات الجراحية والأدوية الكيمياوية والمضادات الحيوية الفعالة والمركزة. ان دور هذه الأدوية يشبه تماما دور رجال البوليس الذين يقمعون المرض ويؤجلونه لكنهم ابدا لن يحلوا مشكلته من الجذور، لأن هذه الجذور تكمن في النفس ايضا وليس في البدن وحده. والطب الغربي يعتبر الأمراض النفسية امرا خاصا بالنفس وليس لها اية علاقة بالبدن. هذا لا يعني ابدا ان الطب البديل يدعو لرفض هذه العلاجات والادوية الحديثة بل يدعو الى جعلها جزءا من علاج إجتماعي نفسي شامل وصريح.
ان أي مرض، وخصوصا الامراض الخطيرة ماهي الا إعلان تمرد وثورة البدن على العقل الحاكم. ان بدن الانسان اشبه بالشعب وعقله هو السلطة، او هو اشبه بالعامل والعقل هو صاحب العمل. وعندما ينغمر العقل في واجبات الحياة ويغور في متاعبها اليومية وتفاصيلها الاجتماعية النفسية فأنه يسبب الآلام والجروح الخفية للبدن. وهذا البدن مثل العامل المسكين يتحمل ويراكم مشاعر الحزن والغضب والخيبة والحسرة والكبت والجوع والوجع. لكن هذه المعانات المستمرة تخلق طاقة سلبية، أي طاقة المرض والموت، على حساب الطاقة الايجابية الموجودة اساسا في بدن الانسان، وهي طاقة الحياة والصحة. وكما يحدث مع الشعب عندما يعبر عن معاناته من خلال تضاهرات وتجمعات وتنظيمات سرية وعلنية وتمردات صغيرة هنا وهناك، فان البدن ايضا يحاول ان يفرج عن هذه الطاقة السلبية المتنامية من خلال الامراض الخفيفة والحوادث العابرة والعثرات والوعكات والشجارات والاحراجات وغيرها. ولكن إذا استمر العقل بطغيانه واهماله للبدن تاركا المعانات تتفاقم والطاقة السلبية تتراكم، وكما يحدث مع الشعب في مثل هذه الحالة من عصيان وتمرد وخيانات للسلطة، فأن البدن كذلك يعلن تمرده من خلال المرض الكبير او الحادثة الخطيرة. بهذه الوسيلة يعمل البدن على تفريغ تلك الطاقة السلبية المتراكمة التي تكون مثل النار التي تحرق في دواخل الانسان وتقوده الى التهلكة. ان المرض والمشاكل الخطيرة لا يمكن ابدا ان تصيب الانسان الذي يعيش في حالة انسجام وتفاهم مع ذاته، كما ان الثورات والتمردات لا يمكن ان تحدث في المجتمعات التي تعيش بانسجام وتفاهم مع سلطاتها.
إذن المرض الخطير يمكن ان يؤدي الى الشفاء والتجديد او الى الإعاقة والموت، حسب موقف الانسان منه. يمكن إعتباره اشبه بالثورة الاصلاحية السلمية، هو إعلان عن نهاية معانات متراكمة وبداية حياة جديدة صحية وواعدة، ولكن ايضا يمكن إعتباره أشبه بالثورة العنفية التدميرية، هو إعلان عن نهاية المعانات من خلال نهاية الحياة نفسها، أي الموت. إختيار احدى النتيجتين يعتمد اساسا على قرار الانسان نفسه. من المعروف ان هنالك موقفين مختلفين للسلطة التي تعاني من تمرد مجتمعها، هنالك سلطة تعتبر الثورة نوعا من التآمر الخياني والتمرد الغوغائي الذي يتوجب قمعه بكل قوة، مع الاستمرار بنفس السياسة السابقة، مما يعني تفاقم الحالة وتراكم الكبت، وهذل يعني تفاقم الازمة التي قد تؤدي الى سقوط الحكومة او تأجيل سقوطها الى ثورة اخرى قادمة. لكن ايضا هنالك سلطة تتفهم الامر وتتدارك الحالة فتقدم التنازلات للمجتمع وتقوم بتغيير سياستها والشروع بعملية اصلاح شاملة للوضعية، أي اجراء عملية تصالح مع الشعب.. مع الذات..
كذلك البشر لهم احد الموقفين المختلفين: هنالك من يعتبر المرض او الحادثة، مصيبة ميئوس من حلها ولا يتفهم ضرورة تغيير الحياة الحالية وسلوكها اليومي الذي ادى الى تراكم الطاقة السلبية، فيضل على وضعيته السابقة وبالتالي يستحيل الشفاء، او يحدث شفاءا وقتيا ثم يعود المرض او يتكرر الحادث بصورة اخطر حتى النهاية المأساوية.
وهنالك من البشر من يتعض من مشكلته فيستمع الى نداءات بدنه ويتفكر مع نفسه ويراجع ماضيه وحاضره وينسحب من حياته التي كانت تسبب له تلك المعانات، ويتبنى حياة جديدة فيها سلوكيات وعادات وعلاقات إيجابية تمنحه طاقة الصحة والامل وتخلصه من معاناته وتبعد عنه الامراض والحوادث الخطيرة. طبعا ان هذا التغيير الايجابي لا يقتضي بالضروة المال الوفير كما يتصور البعض، بل ربما العكس، فهنالك من اصحاب السلطان والجاه من يصابون بأبدانهم، والحل الوحيد امامهم هو التخلص من جشعهم للمال والسلطان وبالتالي التخلص من حرقة الاعصاب والقلق الذي يسببه هذا الحرص المتطرف. وما النهايات المأساوية للكثير من طغاة التاريخ الا مثال واضح على مدى تعذيب الذات المتراكم الذي يمارسه هؤلاء الطغاة ضد انفسهم من خلال تعذيبهم وحرمانهم للآخرين، بواسطة المال او السلطان!!
تحسين الصحة بتحسين النفس ومحيطها
لا المال ولا السلطان ولا الجاه ولا القصور ولا السيارات المدرعة ولا الحراس المدججون، ولا الادوية الثمينة والمستشفيات المتطورة، كلها لقادرة على ان تحمي حياة الانسان وتضمن صحته وسلامته، ما دام داخله معذبا وفي روحه تعصف مختلف المشاعر السلبية من جشع وغضب وقلق وغيرة وتأنيب ضمير، فتتقد فيه نيران المرض والتعب من الحياة، فليس هنالك من منقذ له غير الموت!! ان الحماية الجبارة الوحيدة التي يمكن للانسان ان يوفرها لنفسه، هي: ((الانسجام مع الذات)) وهذا الانسجام لن يتم الا عبر القيام بالخطوتين التاليتين:
اولا ـ مراجعة الماضي. المقصود اساسا هو الماضي الطفولي العائلي، لأن طفولة الانسان هي حجر الاساس والطابق الارضي في بناية حياته. ان طبيعة العلاقة مع الاب والاخوة تحدد طبيعة علاقة الانسان مع الرجال في المجتمع. وان طبيعة العلاقة مع الام والاخوات تحدد طبيعة علاقة الانسان مع النساء في المجتمع. ان مراجعة هذا الماضي وتفهمه بكل صراحة وجرأة يساعد الانسان على اكتشاف شخصيته وطبيعة علاقته مع الآخرين واسباب الصعوبات والمشاكل معهم. ثم ان هذا التفهم للماضي يساعد كثيرا على تفهم الحاضر، ثم نقد الذات وتفهم نقاط ضعفها وقوتها واقتراح نوعية الناس والعلاقات المناسبة.
ثانيا ـ مراجعة الحاضر. ان الخطوة السابقة أي مراجعة الماضي تظل خطوة فكرية ونفسية غايتها التفكر والمراجعة، تؤدي الى الخطة التالية التي تكون خطوة عملية تقتضي الفعل الحقيقي من اجل تغيير الحياة الشخصية بكاملها بما يلائم حقيقة الانسان وطبيعة ميوله ورغباته الصادقة. وهذا يقتضي الخطوات التالية:
ـ معاينة المحيط الاجتماعي ، المتمثل بالعائلة والسكن، ثم اللعمل والمهنة، ثم الاصدقاء. يتوجب معرفة دور هذه المجموعات في منح الطاقة الايجابية او السلبية، ثم العمل على تغييرها وتحسينها بصورة تقطع العلاقة مع الاطراف السلبية وتدعم العلاقة مع الاطراف الايجابية. ان التضحية ببعض الامور المالية والمشاعرية ضرورية جدا في هذه الحالة. وقد يقتضي الامر تغيير مكان العمل والسكن، وربما تغيير المدينة او البلد بأكمله. كثير من الناس من تحسنت حياتهم بكاملها لمجرد انهم قاموا بتغيير مكان سكنهم او عملهم او الاثنين معا. وكثير من الاحيان تلعب الجماعة المرتبطة بالانسان اجتماعيا ومهنيا وسياسيا دورا سلبيا كبيرا في حياته من دون أي إدراك او قصد لا منه ولا منهم، لأن الطاقة السلبية المتراكمة في الانسان هي التي تجلب له العلاقات السلبية وتحاصره بها مثل المقامر او المدمن الذي لا يستطع الفكاك من حالته. ان القطع السريع والكلي للعلاقة مع تلك الجماعة امر مفيد وحاسم في تحسين الحالة والتحرر من عبودية الأدمان الاجتماعي السلبي.
ـ معاينة المحيط الغذائي، من مأكولات ومشروبات من ناحية نوعيتها وكميتها، وخصوصا فيما يتعلق بالكحول والسكائر والمخدرات والادوية الكيمياوية التي في كل الاحوال مهما كانت ايجابية وقتيا فأنها على المدى البعيد سلبية ومضعفة للطاقة الايجابية في الانسان. ان استعمال الادوية الطبيعية والاكثار من شرب الماء وخصوصا في الصباح على الريق له فعل ايجابي كبير لتنظيف الدم وجهاز الهظم وتغذية البدن والروح بمياه الحياة.
ـ معاينة المحيط الهوائي، أي ما يستنشقه من هواء، لأن الهواء هو المصدر الاول للحياة مع شعاع الشمس والغذاء، وإن الكثير من البشر لا يدركون مدى التلوث الذي يعاني منه هوائهم، وخصوصا من الذين يعيشون في المدن المزدحمة والشوارع الرئيسية. يكفي احيانا الانتقال بضعة امتار للحصول على سكن افضل صحيا واقل تلوثا. ان التمارين الرياضية والتنفس العميق في الحدائق والخروج الاسبوعي الى الشواطئ والارياف يمنح البدن طاقة ايجابية تساعده كثيرا على مواجهة تلوث الحياة اليومية.
البساطة والطبيعة بدلا من الغنى والتعقيد
قد يظن البعض بأن مثل هذه الاصلاحات والشروط هي نوع من البطر وتفترض الغنى والمجتمع المتطور.. نقول كلا.. لأن الامر في كثير من الاحيان هو العكس، فالغنى والتطور الصناعي هو سبب عذاب الناس بسبب خبصتهم ولهاثهم الجنوني وراء الربح والسياحة العبثية والادمان على المتع السطحية المهلكة مثل المراقص الليلية بضجيجها القاتل ودخانها الخانق وانوارها المتعبة واجوائها المشحونة بالشهوة المكبوتة والغيرة الحارقة، ثم العيش نهارا في التلوث والضجيج والتوتر وغيرها من السلبيات.
هنالك الآن في الغرب الكثير من طرق العلاج البديلة ومعظمها بالاصل علاجات شعبية مجلوبة من آسيا الهندية والصينية واليابانية، وبعضها مستوحى من العلاجات العربية والعراقية القديمة. نتمنى ان يتاح لنا تفصيلها في موضوع قادم. لكن يبقى الجوهر والمبدأ الاكبر الذي يجمع كل هذه العلاجات، هو:(( ايمان الانسان بأن ارادته وقناعته الداخلية هي المسؤولة الاولى والكبرى عن حياته، خيرا وشرا )). طبعا هذه الارادة الداخلية تستمد قوتها ونورها وخيرها من الارادة الكونية العليا والمطلقة ، والتي تطلق عليها الشعوب مختلف التسميات منها ال الله عز وجل. ان الصلاوات والتأمل الفعال هي افضل وسيلة للاتصال بهذه القوة العليا. إن كانت إرادة الانسان إيجابية قائمة على اساس احترام الذات والآخر ودعم المشاعر الخيرة بما تعنيه من امل وفرح وتفاؤل بالحاضر والمستقبل، فأنه لا يحصل إلا على الصحة والراحة والخير. وإن كانت إرادته سلبية قائمة على اساس تعذيب الذات والآخر واجترار المشاعر السوداوية من تشاؤم واحقاد وغيرة وخوف وتأنيب ضمير، فأنه لا يحصل إلا على المرض والمشاكل والنكسات. ان الايمان بالخير هو الذي يجلب الخير والايمان بالشر هو الذي يجلب الشر. لهذا قالت الحكم الشعبية: تفاءلوا بالخير تجدوه..